يتبلور في المنطقة حلف رجعي قوامه شريكان رئيسيّان : أقطار رجعية وظيفتها تنفيذ غالبية المهمات ٬ وهي السعودية ٬ الأردن ٬ ايران [الشاه]٬ امارات النفط ٬ الكويت واليمن الشمالي . وأقطار “تقدمية” ٬ وهي مصر ٬ العراق وسوريا ٬ وهي تلتزم الحياد وتفسح المجال للأقطار الرجعية تأدية مهماتها ازعاج . وليس هذا الحلف عدوا لأحد ٬ سوى قوى الثورة الاجتماعية في المنطقة . وما هو بعدو للامبريالية ولا للصهيونية ٬ بل خادما لمصالحها . فايران تحتفظ بعلاقات ديبلوماسية وتجارية مع اسرائيل .
وبعض الأحداث السياسية التي جرت في السنة الماضية تؤكد بوضوح هذا الاتجاه . فمصر السادات ليست الا استمرار لمصر عبد الناصر ٬ وتميل الى التنازل عن النضال ضد الرجعية العربية ٬ حليفة الامبريالية ٬ “صيانة لوحدة الصف العربي ضد الصهيونية” . ولقد حاول عبد الناصر منذ آب 1965 ٬ ان يتهادن مع السعوديين على حساب الجمهورية اليمنية ٬ وكان مستعدا لسحب الجيش المصري من اليمن تسهيلا على الملكيين ٬ وبعد حرب 1967 لاذ بالصمت مقابل الدعم السعودي المادي لمصر ٬ وبذلك اتيح للثورة المضادة في اليمن تصفية الجمهوريين ٬ وانشاء نظام ملكي بدون ملك ٬ وحفظا منه لحلفه العسكري مع حسين ضد اسرائيل ٬ فقد اكتفى عبد الناصر بالاحتجاج الكلامي عندما قام الجيش الأردني بذبح الفلسطينيين في الأردن سنة 1970 .
والعراق البعثية مكنت الشاه الايراني من الولوج ثانية الى حظيرة الشعوب الاسلامية ٬ وذلك رغم اعتبار ايران خلال سنوات طويلة عدو القومية العربية التقدمية . ولكن العداوة تزول فجأة من أجل خدمة المصالح المعادية للثورة : ﺇيران أوقفت دعمها للثوار الأكراد ٬ ومقابل ذلك فان العراق تمهد الطريق لتصالح النظام الايراني مع القومية العربية . وهذا لا يعني أن نظام القمع الايراني قد تغيّر ٬ ان الذي تغيّر هو النظام العراقي . لقد سقط القناع عن وجهه الحقيقي . واثبتت العراق بتحالفها مع الرجعية الايرانية أن القومية العربية مستعدة للتحالف مع غير العرب (الايرانيين) لاضطهاد قوميات غير عربية (الأكراد) .
في يناير 1976 ٬ قام وزير الخارجية السوري بزيارة لطهران ٬ ليعبر عن مصادقة سوريا “التقدمية” على التصالح مع الايرانيين . ان الشرعية التي تضفيها الأنظمة العربية “التقدمية” على النظام الايراني تعزز مكانة الشاه في ايران وتسهل عليه قمع معارضيه . وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف.) تؤثر منذ قيامها تأجيل الكفاح ضد الرجعية العربية “الى ما بعد هزيمة الصهيونية” وتحاول هذه القيادة مساعدة السوريين للعمل على تحقيق حدّة الصراع في لبنان وذلك طبقا لشعارها المرفوع دائما : “عدم التدخل في النضالات الطبقية في الدولة العربية المضيفة” !
ان الحركة القومية العربية تثبت مرارا وتكرارا انها بالتزامها ٬ اطارا قوميا وليس اشتراكيا لن تتكمن من الدفاع بثبوت عن المصالح الحقيقية للشعوب العربية في نضالها ضد الامبريالية والرجعية العربية والصهيونية .
ومنذ بعض سنين تقوم ايران بقمع حركة ثورية في شبه الجزيرة العربية ٬ اذ يحارب جيشها جنبا الى جانب مع جيش قابوس سلطتن عمان ٬ بدعم من السعودية والأردن وبريطانيا ٬ ضد ثوار الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي . ويبدو أن الجبهة الشعبية ثورية بدرجة لا تتناغم مع أذواق الدول العربية “التقدمية” . فتواجد قوات ايرانية وبريطانية على “أرض عربية” ٬ وماهية النضال الواضحة ضد الامبريالية وضد الرجعية العربية ٬ كل ذلك لا يكفي لتحريك مصر وسوريا والعراق لنصرة الثوريين . وعوضا عن ذلك فان هذه الأنظمة “التقدمية” تلوذ بالصمت وتذرو الرماد في أعين الجماهير طمسا للحقائق ‒ وتخلى الجو للقوات الرجعية لقمع الحركة الثورية في عمان وظفار .
و”جمهورية” اليمن الشمالي تخطب ودّ السعودية للاتحاد معها . وتبقى اليمن الديمقراطية الشعبية وحيدة على أرض المعركة . وسرعان ما أينعت بواكير هذا الحلف الرجعي ‒ التقدمي . فجاء استسلام القوات الثورية في عمان بعد عشر سنين ونصف من الكفاح ٬ ويعاني الثوريون في ظفار ظروفا فوق الاحتمال ٬ ولولا نصرة ذلك البلد الصغير الفقير ٬ اليمن الديمقراطية الشعبية ٬ لخدمت الشعلة في ظفار . واذا ظل “تقدميوا” القومية العربية في صمتهم ‒ وهم سيظلون كذلك ‒ فانه يستعصى التكهن حول مصير الصراع الدائر بين قوى غير متكافئة الى حد كبير .
ان هذا الحلف المعادي للثورة سيؤثر كذلك على النضال ضد الصهيونية . فلربما قد يجد الاشتراكيون في صفوف الحركة الفلسطينية أنفسهم امام “مؤامرة صمت” عندما يقرر الفلسطينيون “القوميون” تصفية الحساب معهم . ان تاريخ الحركة القومية العربية يؤكد ان الشعارات القومية ليست الا تغطية لمصالح الطبقات الحاكمة ٬ واذا اقتضت الحاجة فان هؤلاء القوميين ٬ حرصا منهم على مصالحهم الطبقية ٬ لن يتورعوا عن المساومة على ما كانوا يعتبرونه في الأمس القريب “مصلحة قومية عليا” لأمتهم .
ان الصمت الغاضب للقوميين العرب ازاء قمع الأكراد في العراق والحركة الثورية في عمان جدير باشعال ضؤ أحمر امام الثوريين . فلا ينبغي أن يتسبب تركيز الاهتمام ٬ على الحرب الأهلية في لبنان وعلى النضال الفلسطيني ٬ في تجاهل نضالات ثورية في أجزاء أخرى من المنطقة . فالمشرق العربي واحد . ونضال ثوري في بقعة منه لا يقل أهمية عن نظيره في بقعة أخرى بالنسبة لمصير المنطقة بأسرها . قد يكون لعامل المسافة وزنه ٬ وأما أن كان بعد البين يبعد بين نضال ثوري وبين وعي من يتسمون “ثوريين” ‒ فثمة مجال للشك في ثوريتهم .