ايلي لوبيل مع ابنه الوحيد
في منتصف سنة 1976 بعث مركز متسبين رسالة الى أعضاء المنظمة في الخارج (بعضهم لفترة قصيرة والبعض لفترة أطول) , وذلك لمعرفة من لا يزال منهم يعتبر نفسه عضوا في متسبين ومستعد للاضطلاع بما يترتب على ذلك من التزام , ولتنظيم العلاقات بشكل أنجع بين المنظمة وهؤلاء الأعضاء .
وننشر فيما يلي النص الكامل لرد الرفيق الراحل ايلي لوبل الذي انتحر في باريس في 4 أكتوبر 1979 .
* * *
باريس , مطلع أكتوبر1976
أيها الرفاق ,
وصلتني رسالتكم وأنا في اجازة , واعمل الآن بكل طاقتي لاصدار العدد رقم 4 من مجلة “خمسين” ولعل في ذلك تفسير لردي المتأخر . انني أعتبر نفسي عضوا في “متسبين” , وعلى الأغلب يعرفونني هنا في أوساط اليسار الثوري كعضو متسبين . انني اتفق مع مواقف المنظمة بشكل عام , وأكثر من “عام” , الا انه ليس من السهل لعضو ان يتفق مع مواقف وقرارات خاصة لم يشارك في أخذها كما هو الحال بالنسبة للأعضاء المقيمين في الخارج . من الأفضل ارسال مسودة بالمواقف أو القرارات المطروحة للمناقشة كي نمكن من التعبير عن رأينا . غير ان هذا يقتضي أسلوب تنظيم وعمل سكرتارية متطورة , ولا طاقة لنا بذلك كما يبدو , ومع ذلك فهذا لا يعد نقدا .
[ملاحظة هيئة التحرير: وفقا لقرار مركز المنظمة الصادر سنة 1976 اوكل الى احد الأعضاء اقامة اتصال دائم مع الأعضاء في الخارج , بما في ذلك ارسال جميع منشورات المنظمة , وما زال هذا الاتصال قائما باستمرار الى اليوم] .
عند اختلاف في الرأي كنت أعمل وفق القرار الذي كانت تتخذه “اسراكا” [وهي الاحراف الاستهلالية بالانجليزية ل”لجنة عمل الاشتراكيين الثوريين الاسرائيليين في الخارج” التي قامت في أواخر الستينات لنشر المعلومات في الصهيونية والقضية الفلسطينية والبديل الثوري للصهيونية داخل اسرائيل] وقتئذ والقاضي بعدم نشر الآراء التي تتناقض ومواقف متسبين , لكن ليس من المحتم أيضا نشر آراء المنظمة على الملاء . الواقع انه لم تقع تناقضات حادة , بل كانت هنالك فوارق دقيقة فقط , وفي مثل هذا الوضع كنت أعبر عن مواقف متسبين كتابيا وشفويا عارضا بعد ذلك آرائي وحتى نقدي لمواقف متسبين ومؤكدا ان هذا هو رأيي الشخصي , وأنا عازم على التصرف كذلك مستقبلا .
فمثلا على ذلك نشر مقال “النضال الفلسطيني والثورة في الشرق الأوسط” (مجلة متسبين , عدد 51 , كانون أول 1969) بقلم ا. سعيد [لقب الثوري القديم جبرا نقولا المتوفي في لندن سنة 1974 عن 62 عاما] وم. ماحوفر , لقد نفى المقال بشكل قاطع كل مشروع لاقامة دولة عربية – يهودية في فلسطين , وعلمت انه قد تم قبول المقال اياه بعد نشره كموقف رسمي للمنظمة . تعرضت لهذا الموقف وحجته في محاضراتي وأضفت تحفظي منه حيث أني لا أنفي امكانية اقامة اطار سياسي مشترك ثنائي القومية كأحد الحلول المحتملة مستقبلا في فلسطين .
لقد كرّست نشاطي الرئيسي في السنوات الأخيرة للنضال في الشرق الأوسط , خاصة في الفترة الأخيرة , لاصدار مجلة “خمسين” . وفي هذا الصدد ثمة جديد , اذ اتفقنا مع ناشر (بلوطو بريس) لاصدار “خمسين” بالانجليزية ابتداء من العدد الخامس , كما وسيظهر كتاب يتضمن نخبة مقالات من الأعداد 1-4 (حوالي 300 صفحة) , وستتوقف الطبعة الفرنسية عن الصدور . أعتقد أنه من الممكن أيضا توزيع “خمسين” في اسرائيل والمناطق . هنالك أيضا رفاق مستعدون للعمل سوية مع متسبين لاصدار طبعة عربية من هذه المجلة . وربما استطيع تقديم اقتراحات في هذا الشأن بعد أشهر .
هل من اقتراحات لديكم في هذا الصدد؟ ما رأيكم على العموم في “خمسين” , وأي المواضيع تودّون معالجتها في الأعداد المقبلة . وضعنا خلال لقائنا الأخير قائمة بالمواضيع التالية: الشرق الأوسط والسوق العالمية (عدد 4 , معظم المواد جاهزة للطباعة , ومن المؤكد ظهوره قبل نهاية العام) , اليهود الشرقيون (كما يبدو العدد 5 , المواد حاضرة جزئيا) , النساء في النضال الفلسطيني (يقوم بعض الرفاق بتحضير المواد في باريس حاليا) , العرب في اسرائيل (خليل [طعمة[ وأفيشاي [ٳرليخ] يحضرون المواد) والأحزاب الشيوعية في الشرق الأوسط (ماريو [أوفنبرغ] يحضر المواد) .
في هذه الأثناء تسلمت العدد 78-79 من “متسبين” وثمة مثال هنا على خلاف في وجهة النظر بين مواقف المنظمة وموقفي . غير أنه ليس بالخلاف الجوهري , بل ناجم عن تقييم مختلف للوضع , وأعني قرار المنظمة في 16/6/1976 عن الحرب في لبنان . هذا وسوف ننشر في العدد 4 من “خمسين” موقف المنظمة , وربما أضفنا اليه موقفا محاورا له للعفيف الأخضر . فما هو المقصود؟
لقد كتبتم: “… لقد صوتت الجماهير الفلسطينية المقاتلة بالبندقية من أجل بلورة استراتيجية ثورية لربط نضالها بنضال الجماهير المستغلة في العالم العربي . هكذا يجب فهم الحلف الذي اقيم بين الفلسطينيين واللبنانيين دون طقوس أو مراسيم” .
متى؟ أين؟ ربما قد حدث ذلك في المرحلة الأولى , في ربيع 1975 . لقد حاربت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وفي أعقابها الجنود المنخرطين في المنظمات الفلسطينية المختلفة , منذ البداية , وبالتأكيد منذ صيف 1975 , وانحازت ضد الجماهير الثورية , أو بعبارة أدق ضد بواكير نضال ثوري شعبي . لقد أخذوا بناصية الأمور , وهذا الشيء صحيح , خاصة , بالنسبة لمنظمة الصاعقة وجيش التحرير الفلسطيني الذي كان حتى أيار 1976 جزءا من منظمة التحرير الفلسطينية , ولا يقتصر الأمر على هاتين المنظمتين فحسب . لقد ظهرت هذه المنظمات تجاه الجماهير في لبنان , فلسطينيين ولبنانيين على السواء , كقوى تعمل على قمع نضالها , وكون المنظمات الفلسطينية قد باتت معزولة عن الجماهير في لبنان , بل مبغوضة , مكنت الجيش السوري من مهاجمة المنظمات على المكشوف في ربيع 1976 .
وأخطر شهادة على ذلك – ويقرها كل عارف بالأمور – هي ما جاء على لسان عضو “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” في مجلة “مريب ربورتس” (Merip Reports) عن الحرب في لبنان: كانت المنظمات الفلسطينية (الصاعقة وجيش التحرير الفلسطيني) أول من بدأ بالقصف دون تمييز علي مناطق (في بيروت) وقرى بأسرها . وبهذا أيضا تسببت هاتان المنظمتان في تلاحم أغلبية عظمى من الجماهير المسيحية حول قيادتها التقليدية . أي ساهمتا في تدهور الحرب الى نضال طائفي – ديني في الأساس .
ليس من الصحيح الكتابة في آب 1976 أن “التحالف اللبناني – الفلسطيني يشكل تحدؔيا لكافة أنظمة الاستغلال في العالم العربي” , كما انه لا يكفي الكتابة أن “كمال جنبلاط وأمثاله لا يمثلون خطا اشتراكيا ثوريا , بل خطا اصلاحيا برجوازيا . انه يناضل من أجل تحويل لبنان الى دولة علمانية وديمقراطية , يعني برجوازية” . وهل من أحد في التحالف اللبناني – الفلسطيني” يقترح شيئا غير ذلك؟ جماعة “الحرية” [مجلة لبنانية تشارك في اصدارها “منظمة العمل الشيوعي” بقيادة محسن ابراهيم و”الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين”] مثلا أعلنت بصراحة أن غايتها من النضال هي: لبنان علماني ! وبلغ هذا الوضع حدا كان يقدر فيه بيير الجميؔل أن يصرح , وبحق , أن مطلبه للعلمانية أبعد غورا من جنبلاط وأمثاله بما في ذلك جماعة “الحرية” …
المهم أن الانطباع الحاصل من قراءة موقف المنظمة هو في رأينا أن النضال الدائر في لبنان هو بين معسكر يساري (بقيادة زعيم غير يساري بهذا القدر , بل برجوازي , وهو جنبلاط) ومعسكر رجعي . رأيي ان النضال – على الأقل منذ صيف 1975 – يدور بين جناحي البرجوازية . هذه الحرب ليست حربنا . وعليه ينبغي أن يكون مطلبنا الرئيسي: ايقاف الحرب , النهاية للمجازر , السلام !
وأفضل طريقة لرفع هذا الشعار وهذا المطلب هي شجب جميع الأطراف المتدخلة في الحرب بدءا بسوريا وحلفائها الفلسطينيين . أكتب “بدءا بسوريا” , لأم الحرب بدأت بتدخل سوري من خلال المنظمات الفلسطينية الخاضعة للاشراف السوري . لقد خشيت سوريا وأنظمة عربية أخرى , وبالأخص سوريا , من الوضع الذي كان سائدا في لبنان , ليس اثناء الحرب (باستثناء المرحلة الأولى – ربيع 1975) بل قبل الحرب : فمن هنا فساد مستمر ومن هناك حرية تعبير واسعة لم يسبق لها مثيل تحت أي نظام عربي , وتعاطي أفكار ثورية , اضرابات عمالية تفشت أحيانا في تجمعات كاملة من الأهالي (كالصيؔادين في صيدا عشية الحرب) , وعلى العموم وضع مشحون بعبوات ثورية .
لقد أملت سوريا أن تصفي الخطر الذي شكلته بيروت مطلع السبعينات وراح يتهدد وجودها . كانت سوريا معنية صراحة باحتدام الاقتتال ولهذا أيدت الطرفين في البداية : أجازت عبور السلاح السعودي (وربما دول أخرى) للقوى المارونية (لااجع مقالات اريك رولو في هذا الشأن) وأيدت القوى الفلسطينية – اللبنانية (حتى آذار 1975) التي كانت مهمتها توسيع رقعة الاشتعال وتحويلعا الى حرب طائفية – دينية في الأساس (قصف أحياء مسيحية بأكمالها في بيروت وقرى مسيحية دون تمييز) .
بالنسبة لسوريا كان من الخطر أن يظهر المعسكر المسيحي – الماروني فقط كمحارب طائفي – ديني , بشكل أدق , كان السوريون معنيون ب”تلويث” الطرف الآخر , أي “المسلمون التقدميون” كما يتسمون , وذلك اجهاضا لأي بديل ثوري . ونجح السوريون في ذلك . والسبب يرجع الى ضعف قيادة جميع المنظمات الفلسطينية , وعليه فلا خيار لنا اليوم أيضا , سوى شجب الحرب ورفع شعار السلام . ومن هنا سوف تفهمون أيضا مدى اشمئزازي من قراءة خاتمة موقف المنظمة عن “حروف البطولة” فيما يتعلق بنضال تل الزعتر . لقد كانت هذه مجزرة – فهؤلاء (المعسكر المسيحي) نفذوا المجزرة وأولئك (المعسكر اللبناني – الفلسطيني) زجوا الناس اليها عن سبق اصرار كي يفوزوا بوسام لم يغن عنهم شيئا !