ملحق متسبين ٬ عدد 90
[مصطلح “الايديولوجيا العربية” كما اورده هنا لا يتطابق مع مفهوم الايديولوجيا الطبقية السائدة ٬ وان كان يشاركه في الكثير من الملامح . وانما قصدت به ذلك الخليط من الأفكار غير المتطابقة للواقع ٬ تلك الكتلة الثقافية (مؤلفات ٬ دراسات أكاديمية ٬ أدبيات قوى سياسية …) التي ترى في نفسها أداة نظرية لتفسير الواقع وتغييره ٬ مع انها في الحقيقة تتراوح بين التواطؤ معه ضمنا أو تزويره واعادة انتاجه أو تدعيمه علنا]
مدخل
يمكن القول ان “الايديولوجيا العربية” تعيش بمنوعاتها الثلاث ‒ الدينية الاسلامية والقومية العربية والماركسية “الرسمية” ‒ أزمة متفاوتة الوتيرة والحدة تضعها على شفير الافلاس الكامل . فهذه الايديولوجيا تكاد تستمد أسباب حياتها كاملة من ادمانها القاتل على اجترار مقولات وصيغ نظرية ‒ تبدو لها وكأنها أفلتت من قوانين جاذبية الزمان والمكان . اما الاجتهاد ٬ التجديد ٬ الابداع فهي أمور في حكم الهرطقة الكافرة ٬ الانحراف القومي ٬ أو الانتهازية اليسارية . وهي ‒ أي هذه الايديولوجيا ‒ تدعي لنفسها عصمة الانبياء والوحي وامتلاك الحقيقة المطلقة ٬ وان كانت تسلم جدلا بامكانية حصول أخطاء … وجل من لا يسهو ! وهي لهذا كله حصن منيع على الحياة ٬ المتجددة أبدا ٬ ودائرة للخراب والموت البطيء .
ولكنها رغم ذلك ‒ وربما بسبب ذلك ‒ ما تزال تمد جذورها شبه اليابسة في أرضية الوضع العربي القائم وتمتص منها أسباب وجودها على نحو أفضل مما تفعل الطفيليات . فلأسباب تاريخية محددة وعديدة 1 ‒ لا تبدأ بخصوصيات الدين الاسلامي ولا تنتهي بالحاق اقتصاد المنطقة بالاقتصاد الامبريالي العالمي ‒ سلك تاريخ هذا الجزء من المعمورة مسارا “خاصا” به متميزا عن مسار التاريخ الأوروبي مثلا (كما كان ينبغي ان يكون واقع الحال !) ٬فاتسم ببروز تشكيلات اجتماعية ‒ اقتصادية محددة تطورت ببطء نسبي ٬ ولعبت الدولة ‒ الطبقة السائدة دورا استثنائيا ضمن اطار تلك التشكيلات ٬ في حين تمكنت الايديولوجيا الدينية السائدة (المناهضة لأي فصل للدين عن الدولة) من تلبيس الصراعات الاجتماعية قفطانها وجبتها ومن القدرة على الاستمرار النسبي في اغتصاب الادعاء بتمثيل الطبقات والشرائح والحركات الثورية الى درجة بدا معها تاريخ المنطقة وكأنه “صراع أديان” .
هذا المسار “الخاص” الذي لم يعرف سوى نموا هامشيا للقوى المنتجة حتى أمد قريب هو نفسه الذي سمح بقدر من “التعايش الطبقي” وبالتالي “الائتلاف الايديولوجي” (هذا الائتلاف لا يلغي بالطبع امكانية نشوء صراعات بين مختلف هذه المنوعات الايديولوجية) . والايديولوجيا الاسلامية التي كانت نتاجا لهذه المسار نفسه في لحظة من لحظات تاريخه استطاعت ان تلعب فيما بعد دورا استثنائيا في تحديد ملامحه اللاحقة ٬ من حيث هي ايديولوجيا ‒ أي فكر غير مطابق للواقع رغم ادعائه عكس ذلك . وهذا الدور الذي لعبته من خلال حجب الواقع الاجتماعي ٬ تزوير علاقات الانتاج ٬ تمويه الصراعات الطبقية … نقول ان هذا الدور لم يكن أصلا لولا تدني مستوى القوى المنتجة وبطء وتيرة تطورها ضمن هذا المسار .
هكذا استمرت سطوة الايديولوجيا الاسلامية طيلة أربعة عشر قرنا ٬ ولا تزال . ولم يقتصر تأثيرها على الحركات “الثورية” التي تعطي لنفسها هوية اسلامية بالحصر (ابتداء من القرامطة وصولا الى التيار الديني في الثورة الاسلامية) بل وشملت بتأثيرها الاتجاهات الفكرية المعاصرة التي تدعي لنفسها هوية أخرى مغايرة (قومية عربية أو ماركسية رسمية) . هنا بيت القصيد وهنا مربط الفرس . أي هنا ينهض “الائتلاف الايديولوجي” بزعامة الدين مع شريك ضعيف هو الايديولوجيا القومية وآخر أضعف هو الايديولوجيا الماركسية . وضمن هذا الائتلاف ٬ تكون الايديولوجيا الدينية هي الأقل تسامحا واستعدادا للتصالح ٬ خاصة في مرحلة التحرر الوطني من السيطرة الاستعمارية المباشرة . اما الايديولوجيا القومية فتحاول في مرحلة بناء “دولة الاستقلال” تأسيس زعامتها الخاصة للائتلاف بعد ان كانت نازعت الايديولوجيا الدينية عليها طويلا في المرحلة السابقة ‒ ولكنها على كل حال محاولة لا تصل الى حد استعدائها والتخلي عن بركة الدين ٬ وهكذا فانها في حين تنام في مخدع الايديولوجيا الدينية فانها تدخل في علاقة غزل ‒ ابتزاز مع الايديولوجيا الماركسية ٬ فيما هي تحلم في ذاتها القومية الفريدة … انها توفيقية في شبابها وصعودها ٬ ولكنها تنعطف نحو الفاشية في شيخوختها وانحدارها . اما الايديولوجيا الماركسية فهي الأكثر تسامحا وتنازلا واستعدادا للمصالحة . تكتفي في مرحلة التحرر الوطني بلعب دور متواضع على هامش الحركة الوطنية (هذا ‒ اذا لعبت أي دور ٬ واذا لم يكن الدور سلبيا) . وفي مرحلة “البناء الاجتماعي” تلعب دور “صغار الكتبة” في الة الدولة البرجوازية “القومية” وجبهاتها الوطنية وتشيد بانجازاتها التقدمية وتبشر بعهد السلم الطبقي المجيد المديد .
هذه المنوعات الثلاث للايديولوجيا العربية تلتقي على قاعدة ‒ وهم واحدة : امكانية سلوك طريق ثالث ٬ لا هو بالرأسمالي ولا هو بالاشتراكي ٬ ولسان حالها يقول : وجعلناكم أمة وسطا . وهذا الطريق “الخاص” يجد تعبيراته الايديولوجيا سواء في “نظرية الثورة الاسلامية” الخمينية لأن “النظرية العالمية الثالثة” القذافية أو “نظرية التطور اللارأسمالي” الماركسية الرسمية ٬ وان اختلفت هذه التعبيرات . وهذا الطريق الثالث ٬ بتعبيراته المختلفة ٬ ما هو الا الانعكاس الاشكالي النظري لاشكالية قائمة في الواقع ٬ يطرحها “المسار الخاص” الذي أشرنا اليه سابقا . وفي هذا السياق ٬ يتحمل الماركسيون العرب المسؤولية الرئيسية عن الكسل والجمود النظريين الموروثين اللذين يستعيضان بالصيغ الجاهزة عن المهمة الصعبة في تحليل وتفسير واعادة كتابة تاريخ المنطقة العربية في ضوء المادية التاريخية الجدلية . ذلك ان تطويع تفاصيل التاريخ الاجتماعي الاقتصادي السياسي العربي للنموذج التاريخي النظري الأوروبي كما صاغته الماركسية هو أمر متعذر المنال . ولكن ليس بمعنى ان هذا التاريخ يتمرد على قوانين الصراع الطبقي كما يتوهم الايديولوجيون الدينيون والقوميون ٬ بل بمعنى انه من العسف اخضاعه للتعاقب الحديدي الانضباط لمراحل تطور المجتمع الأوروبي : المشاعية البدائية فالعبودية فالاقطاع فالرأسمالية (كما يحاول الماركسيون الرسميون) .
الخميني : خطوة الى الأمام ٬ خطوة الى الوراء ؟
الدور الاستثنائي للايديولوجيا الدينية يعود أيضا الى عوامل أخرى غير العامل الأساسي المتمثل بمستوى ووتيرة تطور القوى المنتجة . ومن هذه العوامل ما يتعلق بالطبيعة الخاصة لتلك الايديولوجيا ٬ ومنها ما يتعلق بقوة العادة والاستمرار ٬ ومنها كذلك (فيما يتعلق بالحاضر) ظاهرة الانبعاث الديني السياسي المؤسس على قاعدة “الفراغ النظري” الذي تعيشه منطقة “مهبط الوحي والرسالات السماوية” . فهذه الايديولوجيا تستمد من عموميتها المفرطة وضبابية ميتافيزيقها ما يؤهلها للادعاء بامكانية انطباقها “في كل زمان ومكان” . ويكفي ان ندلل ذلك بعدد من المفاهيم الأساسية لهذه الايديولوجيا : الفطرة ٬ العدل ٬ التنزيه ٬ مكارم الاخلاق ٬ الوحدة ٬ وهي على أي حال مفاهيم لا يختص بها الاسلام . وثمة خاصية أخرى للايديولوجيا الاسلامية ٬ تميزها عن المسيحية مثلا ٬ وهي اشتمال مصادرها الرئيسية على “المعاملات” الى جانب “العبادات” ٬ أي اشتمالها على تخطيط لمختلف أوجه الحياة المجتمعية متكلس عند الحدود التاريخية التي احاطت بنشأتها . وبكلام آخر ٬ فان هذه الايديولوجيا “تسعى” لعرقلة القوى المنتجة وتأبيد علاقات الانتاج الاجتماعية القائمة من خلال استقلاليتها (كاطار للبنية الفوقية) عن البنية التحتية استقلالية نسبية ٬ ولكنها استثنائية في السياق العربي . وحتى الاجتهاد المقنن في القياس والاجماع كمصدرين للتشريع الاسلامي فهو لا يسمح حكما بغير تطور ايديولوجي طفيف يضطره اليه تطور الحياة ‒ دون ان تكف الايديولوجيا الاسلامية عن ان تكون ايديولوجيا . اما قوة “العادة والاستمرار” فتتمثل في الارث التاريخي الديني الهائل الذي يستحوذ على المشاعر ويمتلك جماع القلوب لدى فئات المجتمع التي لم يصل بها تطور القوى المنتجة الى ما هو أكثر من “محرومين” أو “مستضعفين في الأرض” . هنا تفعل مفاهيم “الاستشهاد” و”الجهاد” وصرخة “الله أكبر” فعل السحر ‒ سحر ينقلب أبدا على المسحورين ٬ تماما كما انقلبت صرخة الله أكبر في حرب أكتوبر 1973 الى الفتوى الأزهرية ‒ الساداتية “ران جنحوا للسلم فاجنح لها” ! ومن جهة ثالثة فان الثورة الايراني “الاسلامية” دشنت مرحلة جديدة من الانتعاش الديني ترك بصماته باشكال متباينة ومتزايدة الحدة على الحياة الايديولوجية والسياسية في معظم بلدان المنطقة العربية وخارجها أيضا . وجدير بالاشارة ان هذا الانتعاش فرخ وترعرع في مناخ الأزمة العامة للأنظمة السائدة بالاقتران مع افلاس الفكر القومي البرجوازي والماركسي الرسمي .
رغم ذلك كله ٬ فان الايديولوجيا الدينية لا تحتفظ بكامل الصحة والعافية ٬ بل وحتى لا تعيش فترة نقاهة . فعدا عن ان الظرف التاريخي الذي انتجها ولى الى غير رجعة ٬ فان حركتها الراهنة لا تنم عن ذلك “الاصلاح الديني” النشيط الذي قاده في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين 2 مفكرون اسلاميون من وزن جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا ومحمد علي جناح وعلي عبد الرزاق وغيرهم الكثيرين . وفي تلك الحقبة ٬ كان تجديد الايديولوجيا الدينية “والارتفاع بالدين الى مستوى تحديات العصر” يمثلان معادلا فكريا للتحولات الاجتماعية الاقتصادية السياسية التي نجمت بالأساس عن عملية الحاق الاقتصاديات المحلية بالاقتصاد الرأسمالي العالمي المتحول الى امبريالية ٬ وكان ذلك الاصلاح يشكل في آن معا استجابة لهذه العملية في بعض جوانبها ورد فعل عليها في جوانبها الأخرى . وبكلام آخر ٬ كان ذلك “الاصلاح الديني” يجتهد في ان يقدم التبرير الايديولوجي برسملة الاقتصاد الوطني على قاعدة الالحاق بالامبريالية وما تستتبعه تلك الرسملة من تغييرات في الهرم الاجتماعي والسلطة السياسية من جهة ٬ وان يخفف من وطأة بعض النتائج الضرورية ٬ الاجتماعية (خراب بعض الشرائح التي تنتمي الى أنماط انتاج سابقة للرأسمالية ٬ تزايد حدة الاستغلال الرأسمالي …) والاقتصادية (الاكتواء بنار الأزمات في البلدان الامبريالية ٬ تسارع وتيرة النهب الامبريالي …) والفكرية (تسرب الأفكار المادية التي انتعشت في مناخ أوروبا الثورة الصناعية) من جهة ثانية .
اما الحركة الراهنة للايديولوجيا الدينية فهي أقل حيوية وخصبا بكثير من سابقتها ٬ ان لم تقل أكثر عمقا وبؤسا فكريا . زعامة الخميني الحالية لم تصل ‒ وليس ثمة ما يشير الى انها ستصل ‒ الى مستوى الزعامة الايديولوجية : انه يفني أكثر مما ينظّر ٬ ويصدر أوامر أكثر مما يؤدلج ‒ وهي أمور لها دلالتها فيما يتعلق بالفرق بين مصلح ديني في المعارضة ورجل دين في مركز السلطة (حركة الخميني في المعارضة مثلت احتجاجا اخلاقيا على مساوئ النظام الرأسمالي التابع ٬ اما في السلطة فالأمر يختلف) . العلماني في دولة علي عبد الرزاق الاسلامية يتراجع لصالح الديني في حكومة الخميني الاسلامية 3 . الليبرالي في فكر قاسم أمين الاجتماعي بالكاد أصبح حاضرا في ليبرالية نبي صدر . والجديد في نظرية الاقتصاد التوحيدي هو “اقتراض” لبعض الفاظ الفكر الاقتصادي التقدمي والباسها قسرا عمامة الدين 4 . بل ان كتابات وأحاديث بني صدر الاقتصادية “الليبرالية” تتراجع امام سطوة الفتاوى الخمينية القاضية مثلا “بوقف الاجراءات الخطيرة الخاصة باحتلال الأراضي والمساكن” .
هذا البؤس الايديولوجي ٬ بالمقارنة مع حركة الاصلاح الديني السالفة الذكر ٬ يعود في الأساس الى المحتوى الخاص للأنظمة الاجتماعية ‒ الاقتصادية القائمة في المنطقة والمستوى المحدد الذي وصلت اليه هذه الأنظمة في الفترة الراهنة . فبعد نحو قرن من سيرورة الحاق الاقتصاديات المحلية بالاقتصاد الامبريالي ٬ تقوم في المنطقة أنظمة “رأسمالية” الى أقصى مستوى يمكنها وصوله في ظل تقسيم العمل الحالي على الصعيد العالمي . ودون الدخول في تفاصيل السمات الرئيسية لهذا “الكاريكاتور” الرأسمالي الذي رسمته الامبريالية على صورتها ٬ نقول ان الأنظمة القائمة تعيش أزمة شاملة ٬ هي أزمة تكوينها الخاص واستنفاذها لامكانيات التقدم الى امام واحولها بالتالي الى أنظمة “رجعية” بالمعنى التاريخي للكلمة (الاصرار المقصود لدى العديد من القوى اليسارية على قصر صفة الرجعية على عدد من الأنظمة لا يمكن تفسيره الا بضيق أفق هذه القوى ٬ وهو دليل آخر على بؤس أفكارها وبرامجها السياسية) . وهكذا فان أي تطوير حقيقي للقوى المنتجة يقتضي قيام تغيير جذري في علاقات الانتاج الرأسمالية القائمة ٬ أي انه يستلزم ثورة اجتماعية تطيح بهذه العلاقات وترسي أسس علاقات انتاج جديدة ٬ اشتراكية بالضرورة .
الايديولوجيا الدينية استطاعت بالفعل ان ترتفع الى مستوى تحديات العصر الرأسمالي ٬ نظرا لما تنطوي عليه من تبرير ‒ بل وحتى تشجيع ‒ للمشروع الفردي الرأسمالي (خاصة التجاري) ‒ والحيل الدينية التي تخطت تحريم الربا لدى بروز الحاجة الى وجود نظام مصرفي ما هي الا أحد الادلة على ذلك . ولكنها كانت تنطوي في الوقت نفسه على مقاومة للمشروع الرأسمالي في بعض مراحله (خصوصا مرحلة البرجوازية البيروقراطية) ٬ وهي مقاومة غالبا ما كانت لصالح البرجوازية التقليدية التي لحق بمصالحها بعض الضرر في سياق تطور هذا المشروع . أما عندما يتعلق الأمر بثورة اجتماعية ذات طبيعة اشتراكية ٬ فمن المتوقع ان تكون المعارضة أضرى وأشرس بما لا يقاس . لماذا ؟ لأن التحويل الشامل لوسائل الانتاج الى ملكية اشتراكية يتعارض مع جوهر المفهوم الحقوقي الاسلامي للملكية ٬ ولأن فصل الدين عن الدولة بصورة نهائية يتعارض وأصول الحكم في الاسلام ٬ ولأن المفهوم الاجتماعي الديني (مجتمع المؤمنين الاخوة) يتعارض كغيره من المفاهيم المثالية مع مفهوم المجتمع الطبقي وصراع الطبقات ‒ وباختصار ٬ لأن الايديولوجيا الدينية تدخل في نسيج علاقات الانتاج التي يقتضي تطور القوى المنتجة تمزيقه بلا هوادة ولا رحمة 5 .
ان تجربة الثورة الايرانية “الاسلامية” حتى الآن تضيء بعض جوانب هذه الأسئلة ‒ وان كانت لم تعط بعد أجوبة شافية عليها (هذه التجربة تحتاج وحدها الى دراسة كاملة لا يدعيها هذا المقال . المقصود هنا هو مجرد الاشارة الى بعد الدلالات كأمثلة) . على المستوى النظري الاقتصادي ٬ مثلا ٬ قد يكون الاقتطاف التالي من بني صدر هو المفهوم الديني الأكثر تقدما فيما يتعلق بالملكية : “ان الملك لله . والانسان يستطيع عبر عمله ان يستثمر الطبيعة ومواردها ويصبح مالكا لما ينتج . فالملكية تبنى اذن على العمل وعلى التحويل الشرعي في حدود هذا المبدأ استنادا لما ورد في الآية الكريمة (ليس للانسان الا ما سعى) … ونحن جادون في ايجاد امكانية تحقيق مبدأ الملكية المبنية على أساس العمل وهذا ما يتطلب أنظمة وممارسات وتغييرات تتناول مختلف القطاعات …” 6 .
والآن ٬ اذا كان هنالك من يظن ان هذا المقهوم للملكية فتح نظري خاص ببني صدر يقوض أسس الملكية البرجوازية ٬ فاننا نذكره بأن الاقتصادي البرجوازي المعروف آدم سميث قد طور وقبل أكثر من مائتي عام نظرية اسمها نظرية القيمة على أساس العمل 7 ٬ لم يضف اليها بني صدر أي شيء (باستثناء الملك لله .. وليس للانسان الا ما سعى !) . والأهم من ذلك ٬ ان هذه النظرية لم تتعارض على الاطلاق مع الملكية الرأسمالية ٬ بل كانت على النقيض من ذلك احدى دعائم النظرية الاقتصادية البرجوازية . فالرأسمالي ٬ كما العامل ٬ يقدم حسب نظرية القيمة هذه “عملا” (الالات والمباني والمواد الخام ‒ كعمل مجسد ‒ ويقدم أيضا الاشراف على ادارة الانتاج …) . اما “سر الانتاج الرأسمالي” ٬ اعني فائض القيمة ٬ اما سر التراكم البدائي للرأسمال … فهي من الأمور التي استعصب على فهم المنظرين الاقتصاديين البرجوازيين ٬ وما تزال . ذلك ان التجاوز الضروري لنظرية القيمة هذه ٬ بعموميتها وتجريدها ٬ يعني ببساطة مغادرة المنهج المثالي الميتافيزيقي ٬ البرجوازي الديني ٬ الى المنهج المادي الجدلي .
على ان “التنظير بالفتاوى” (وهو الذي له نتائج عملية في ايران اليوم) هو الأكثر وضوحا من حيث تعارضه مع تحويل علاقات الانتاج تحويلا اشتراكيا . فاللعنات التي يصبها الخميني على عمليات احتلال الأراضي والمساكن والمعامل لا يعادلها سوى احجام السلطة حتى الآن ‒ وبغير طريق الصدفة ‒ عن القيام مثلا بتأميمات تطال البرجوازية الصناعية أو التجارية أو اصلاح زراعي يضر بالبرجوازية الزراعية … الخ (من الواضح ان التأميمات المحدودة التي جرت حتى الآن لا تدخل تغييرا يذكر في نمط الانتاج القائم ٬ ولا تشير الى مثل هذا التغيير) . هذا في حين يجري “تحريم” الاضرابات أو التظاهرات العمالية (أو الشعبية) وغيرها من أوجه النشاط الجماهيري المستقل الضروري لسيرورة ثورية دائمة تضع البلاد على الطريق الاشتراكي 8 .
نكتفي بهذا المثال ٬ لأن الاستغراق في بحث مختلف جوانب التجربة الايرانية يخرجنا عن اطار هذا المقال . وعليه فاننا لن نتناول هنا مفاهيم اقتصادية واجتماعية وسياسية أخرى تحاول السلطة الاسلامية بلورتها ٬ كمفهوم “المستضعفين” مثلا الذي يضع في كشكول واحد كتلة من الطبقات والشرائح الاجتماعية المتباينة المصالح والمواقف ٬ أو مفهوم “لا شرق ولا غرب” الذي يضع العداء الحالي للامبريالية الأميركية في سياق العداء “للأجنبي” أو “الكافر” ٬ أو مفهوم المجتمع الاسلامي الواحد الذي يعني فيما يعنيه مصادرة حقوق الأقليات القومية في تقرير مصيرها .
نعود ونلخص في ضوء العرض السابق ان الايديولوجيا الدينية الاسلامية ٬ وان كانت ما تزال تمتلك بعض مواطن القوة التي أشرنا اليها سابقا ٬ فانها تقف عاجزة عن اعطاء الأجوبة النظرية على المسائل التي تطرحها الأزمة العامة للرأسمالية في المنطقة ٬ التي يطرحها التطور التاريخي في هذا الجزء من العالم .
الحصري يبعث ميتا !
اذا كانت الايديولوجيا الدينية ما تزال تمتلك هامشا معينا من الفاعلية والاستمرار ٬ فان الايديولوجيا القومية العربية تكاد تكون جثة متفسخة تنتظر من يهيل عليها التراب . فهزيمة حزيران / يونيو 1967 ٬ التي كشفت عن افلاس البرجوازيات البيروقراطية الحاكمة ٬ كشفت في الوقت نفسه عن عقم “الفكر القومي” الذي رفعت لواءه هذه البرجوازيات . وكانت (أي الهزيمة) اعلانا عن بدء العد العكسي لهزيمة هذا الفكر هزيمة نهائية . وسرعان ما بدأت تعبيرات ذلك تظهر للعيان : الناصرية بدأ بريفها الجميل يخبو في مختلف أنحاء الوطن العربي الكبير وأخذت تنكفئ الى ما وراء الحدود الوطنية . وفي مصر بالذات ٬ بدأت الرؤوس الفرعونية القديمة تطل في الحياة الفكرية من جديد . والحركات القومية (البعث وخاصة حركة القوميين العرب) بدأت تتصدع وتنشق وبدأ أعضاؤها بالهجرة منها ‒ فرادى وجماعات ‒ نحو تيار “الاشتراكية العلمية” العريض ٬ “الواسع الذمة” .
لقد كان عمر الايديولوجيا القومية من عمر الورود ٬ حيث لم يزدهر الا في الفترة القصيرة الممتدة من أوائل الخمسينات حتى أواسط الستينات . في هذه الفترة التي شهدت عددا من “المعارك القومية الكبرى” (السويس ٬ الوحدة المصرية السورية ٬ حرب التحرير الجزائرية …) ٬ تأكدت القيادة الفكرية الناصرية لحركة التحرر العربية واستطاعت الناصرية في أوج صعودها استيعاب عدد من المفاهيم الاشتراكية أو الدينية ٬ ضمن منهجية تجريبية انتقائية واضحة عبر عنها الميثاق خير التعبير . ورغم ذلك ٬ بدأت مظاهر الاعياء تظهر على الفكر القومي قبل سنوات من هزيمة حزيران . فقد وقفت به البرجوازية البيروقراطية عند حدود امكاناتها التاريخية التي لا يمكن تخطيها : كيف يعالج مسألة الوحدة العربية بعد فشل التجربة الوحدوية بين مصر وسوريا وفشل مفاوضات الوحدة الثلاثية ٬ المصرية السورية العراقية ؟ كيف يتصدى لقضية تحرير فلسطين في حين يبدأ “التوريط الفلسطيني” ويصل التحدي باسرائيل الى مشروع لتحويل مياه نهر الأردن ؟ كيف الوفاء بالالتزامات القومية والتوصل الى حل للمشكلة اليمنية يحفظ ماء الوجه ؟ هل يمكن النظر ٬ أو اعادة النظر ٬ في مسألة مواصلة “التحويل الاشتراكي” ؟ توضع الشعارات القومية امام الامتحان ٬ ويبدأ السقوط : “وحدة الهدف” تتراجع لصالح “وحدة الصف” (ولاحقا التضامن العربي) ٬ فتكون القمة الأولى وتتمخض القمة فتلد … منظمة التحرير الفلسطينية . يترسخ “السلم الطبقي” و”لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” (أو ينزل تحته !) ‒ في اطار الصيغة الفضفاضة لاتحاد قوى الشعب العامل واتحاده الاشتراكي العربي .
في الفترة الراهنة ٬وبعد هذه السنين من الاعياء فالعقم ٬ تصل الايديولوجيا القومية الى الدرك الأسفل من التهافت والانحلال . فساطع الحصري ٬ “أيو الفكرة القومية العربية” التي أطلقها ما بين الحربين العالمين ولم يتضح صداها الا في الخمسينات والستينات ٬ يستعاد سنة 1980 من عتمة القبور ليتكلم على لسان الدكتور قسطنطين زريق في دراسته “العلمية” المعنونة “نحو حلول علمية على العقبات التي تقف في وجه الوحدة العربية” 9 ٬ وأي كلام ! الناصرية لم يبق منها سوى عدد من الشلل الناصرية (في لبنان خاصة) وشيء من ذكرى الأيام الخوالي . حتى القذافي الذي حلم ردحا من الزمن بخلافة عبد الناصر يبدو انه قد مال أخيرا الى فبركة “النظرية العالمية الثالثة” الخاصة به . اما الأنظمة “القومية” للبرجوازية البيروقراطية التي تعيش مرحلة انحطاطها الفاشي ٬ فانها والحق يقال ما زالت تتمتع “بخيال” خصب وواسع ‒ ولكنه والحق يقال أيضا خيال مريض من النوع الذي يدبر المجازر الجماعية أو يفرز قانون العقوبات العراقي رقم 120 ٬ حيث كل مواطن مرشح للنفي أو السجن أو الحكم بالاعدام . وهذه الأنظمة التي كانت قد استنجدت بالايديولوجيا الدينية في محاولة منها لتفادي مصيرها المحتوم ٬ تدفع اليوم حسابها القديم مضاعفا (كما يحصل في سوريا) . و… اللهم ٬ لا شماتة !
وهكذا ٬ فان الايديولوجيا القومية التي صاغها منظرو ملاك الأراضي ‒ التجار 10 ابتداءا من فترة ما بين الحربين العالميين طموحا الى قدر من الاستقلال السياسي والوحدة القومية دونما فك ارتباط بين الاقتصادين القومي والامبريالي ‒ ان هذه الايديولوجيا استطاعت خلال فترة صعود البرجوازية البيروقراطية وعبر منهج تجريبي لا ديمقراطي استيعاب قدر من المحتوى التقدمي في حين ظلت على علاقات وشيجة بالايديولوجيا الدينية . اما في الوقت الحاضر ٬ فان هذه العلاقات تنجب ٬ سفاحا ٬ منوعات من الفكر الفاشي تتماشى في نضجها مع مدى الأزمة العامة الناشبة وتتراوح بين ما تمثله “دولة العلم والايمان” الساداتية وما تعبر عنه بعض الأجنحة في الثورة الايرانية (حزب الله ٬ مثلا) أو الاخوان المسلمون .
ستالين يعتنق الاسلام !
ما يجري على الساحة الفكرية ‒ السياسية من “أسلمة” اتجاهات ومفكرين ينتمون ٬ أو كانوا ٬ الى التيار “الماركسي اللينيني” يذكرنا ٬ على نحو غريب ٬ بفترة أواخر الستينات حان بدأت المنطقة تشهد ظاهرة “تمركس” بعض الأجنحة في الحركة القومية العربية . في ذلك الحين ٬ كان مناخ الأزمة التي كشفتها الهزيمة يسقط أوراق التوت القومية ويحرض الضمير الشعبي على تكسير اباريق الوضوء 11 ٬ في آن معا . وكانت تلك الفترة تبدو ربيعا انسانيا تلونه انتفاضة ايار الباريسية ٬ الثورة الثقافية الصينية ٬ انتصارات الثورة الفيتنامية وصداها حتى في الشارع الأميركي ٬ وتألق غيفارا وروعة استشهاده .
ضمن هذا السياق ٬ المحلي والعالمي ٬ كانت ظاهرة “التمركس” المعروفة .
أما اليوم ٬ فقد تمكنت الطبقات الحاكمة في المنطقة من تكسير الموجة الثورية التي أطلقها مخاض ما بعد الهزيمة : بعد أكثر من ايلول (1970) وبعد الاصرار على عدم “التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية” ٬ أصبحت المقاومة الفلسطينية عضوا محترما في نادي الدول العربية والأسرة الدولية يتقن استعمال “الكلاشنكوف الدبلوماسي” بامتياز . تراجع منطق الثورة لصالح منطق الدولة . وتمضي الأيام والاعوام على الأحزاب القومية البرجوازية الصغيرة التي أعلنت عن رغبتها في التحول الى أحزاب ماركسية لينينية وهي ما تزال … أحزابا برجوازية صغيرة تعلن عن رغبتها في التحول الى أحزاب ماركسية لينينية ! و”انتصار” أكتوبر العربي يتكشف يوما بعد يوم عن هزيمة سياسية اين منها الهزائم الماضية . والحرب الأهلية في لبنان تبدو كطاحون يدور منذ سنين ويجرش الأعصاب والدماء وماء الوفاق الطبقي الرجعي المسمى وطنيا .
اما على الساحة العالمية ٬ فيطل علينا وجه باريس القديم ٬ الامبريالي العنصري البشع . وتعطي بكين لنظرية العوالم الثلاثة تطبيقها “خلاقا” يخلط الأوراق كساحر ليفتي “بالانفتاح” على الامبرياليات الأميركية واليابانية والأوروبية والرجعيات العربية والأفغانية والباكستانية والنضال ضد “الامبريالية الاشتراكية” الصاعدة ! والثورة الفيتنامية الاسطورية اضافت الى الكتلة الاشتراكية دولة أخرى ولم يبق ما صداها في الولايات المتحدة غير الذكريات المريرة والامراض العصابية وأفلام هوليفوود الرابحة . وغيفارا الشهيد يبعث من فعل الندامة لدى البرجوازي الصغير أكثر مما يحفز المناضل على ثورة في الثورة (من الواضح ان الرموز الأربعة ‒ باريس ٬ بكين ٬ فيتنام ٬ غيفارا ‒ “تلخص” الوضع ولا تدعي تحليله واستنفاذه) .
… “فجأة” ٬ ووسط هذا الركود (النظري والسياسي) ٬ اندفعت الحشود الايرانية الصاخبة الى مسرح العمل الثوري تشق بهتافاتها عنان السماء : الله أكبر ٬ يسقط الشاه ! وسرعان ما علت الراية الخضراء مرفرفة فوق قاعدة التمثال الامبراطوري المهشم . كان المثقفون “الماركسيون” في بيروت وباريس وغيرها من العواصم “الثقافية” يبحلقون مشدوهين ٬ يكتمون أنفاسهم ٬ ولا يصدقون شيئا من هذه الدراما التاريخية التي تجري امام عيونهم ‒ وكأنهم يشاهدون فيلما مثيرا طالما قرأوا عنه في الصفحات الثقافية للجرائد اليومية ! وكما يفعل الذين انتهوا لتوهم من مشاهدة فيلم مثير ٬ سارع السادة المثقفون الى اشعال سجائرهم والجلوس في أقرب مقهى أو صالون وهم يتحدثون عن “لقطات” الثورة الاسلامية الرائعة . وخلال ذلك كله ٬
كان الواحد منهم يسقط على نفسه شخصية بطل الفيلم الخارقة ويرتدي جبة الخميني ! وعندما كان يكتشف ان ليس في الجبة الا هو ٬ الماركسي أو المسيحي ٬ كان يسارع الى اشهار اسلامه ٬ حقيقة و/أو مجازا ٬ ويتوضأ ثم يصلي ركعتين شكرا لله على نعمة الايمان ! وحتى الذين كانت نظرية العوالم الثلاثة تعطيهم راحة نفسية فائقة وهم يقرأون بالأمس عن لقاء الرئيس الصيني والشاه فيما الجماهير المنتفضة تملأ شوارع العاصمة الايرانية ‒ حتى هؤلاء يستطيعون الآن ان يذهبوا الى فراشهم ٬ قريري الأعين مرتاحي الضمير ٬ بعد أن تلقوا الوحي بأن “الاسلام يجب ما قبله” ٬ أي يمحوه !
والآن ٬ لندعهم ينعمون بأفلامهم وأحلامهم واسلامهم ٬ ولنحاول الاجابة على المسألة الأهم : ما هي الخصائص البنيوية للماركسية العربية التي جعلت الانتقال اليها بالأمس ٬ كما تجعل الانتقال منها اليوم ٬ بمثل هذه السرعة والسهولة ؟ كيف نفسر بعض خصائص هذه الايديولوجيا ٬ كايديولوجيا ‒ أي كفكر غير مطابق للواقع ٬ واضعين جانبا الشروط الموضوعية التي احاطت وتحيط بزيارة المنوعات الايديولوجية الأخرى لها أو مغادرتها اياها ؟
في منطقة “مهبط الوحي والرسالات السماوية” ٬ قرأ “الماركسيون” العرب ماركس بعيني رجل الدين ٬ من بين عيون أخرى ٬ وترجموه الى مفاهيم دينية على شاكلة المفاهيم التي رضعوها من امهاتهم ‒ هذا اذا قرأوه أصلا ولم يكتفوا بأضعف الايمان ٬ أي بما تيسر من لينين ٬ ستالين ٬ تروتسكي ٬ أو ماو . آمنوا بالماركسية اللينينية وقد غدت دينا . مفهوم الطبقات والصراع الطبقي يلخصه أبو ذر الغفاري بجملته العجيبة : عجبت ممن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج شاهرا سيفه على الناس . نظرية فائض القيمة اكتشفها علي بن ابي طالب منذ قرون : ما متع غني الا بما حرم منه فقير . النظرية الاشتراكية العلمية لخصها الرسول في حديثه : الناس شركاء في ثلاث : الماء والكلأ والنار (هذا الحديث “الاشتراكي” نفسه استشهد به مسؤول كويتي رفيع ليحرم قطع النفط عن أميركا وغيرها ! أليس “الناس” شركاء أيضا في النفط ‒ الذي كان النار ؟! والمسيح أيضا اشتراكي ٬ فأليس هو القائل : أسهل على الجمل ان يدخل في ثقب ابرة من أن يدخل الغني الجنة ؟) الخ الخ . انهم يؤمنون بالله (ماركس) وملائكته (لينين / تروتسكي / ستالين / ماو) وكتبه (مؤلفاته ومؤلفات ملائكته التي قرأوها والتي لم يقرأوها) ورسله (الأمناء العامين وكافة المسؤولين الحزبيين) واليوم الآخر (الثورة ٬ وقد أصبحت وطنية ديمقراطية ٬ ولكنها على أي حال اتية لا ريب فيها) . يتخذ الحزب في عيونهم هيئة المسيح الفادي المخلص ٬ المهدي ٬ السوفياتي ٬ الامام الغائب أو الحاضر الذي سيملأ الأرض عدلا بعد ان امتلأت جورا وطغيانا (حتى لو كان هذا الحزب دزينة من الاغبياء) ٬ كما يتخذ هيئة الجماعة المؤمنة ٬ الطائفة الدينية ٬ وخاصة الأقلية المذهبية سواء من حيث طقوس الحياة الحزبية أو العلاقة مع الشيع الأخرى أو جماهير الضالين الذين لا يعلمون . ماركس ٬ وقد أصبح الحزب الذي أصبح الأمين العام ٬ هو المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (ويظل التسليم باحتمال وجود اخطاء فريضة دينية تريح الضمير) . الاستنجاد بالنصوص ‒ الآيات يصبح القول الفصل الذي تقطع به جهيرة قول كل خطيب وكل استمرارية للحوار ٬ وتغدو اللغة ٬ المكتوبة أو المحكية في النقاشات ‒ المماحكات ٬ طقوسية رتيبة باهتة تشي بالانقطاع عن الواقع الحي ٬ فلكأنها تأتي من رطوبة المعابد أو تقطع من حجارة القبور ! تعطيل العقل فضيلة ٬ اما التفكير النقدي الشكاك فهو أم الرذائل ٬ وهو بدعة . وكل بدعة ضلالة ٬ وكل ضلالة في النار طالما ان هذا التفكير يؤدي الى اختلاف الآراء فالانشقاق ٬ أي الى تحطيم وحدة الحزب المقدسة (من المضحك ‒ المبكي ان وحدة الحزب الحديدية ٬ الفولاذية وما الى ذلك من الصفات المعدنية لم تمنع تفريخ الانشقاقات من حين الى آخر . أليس من المحتمل ان تكون مثل هذه الوحدة مسؤولة عن هذه الانشقاقات !) .التفاني والتضحية وانكار الذات والانضباط الحديدي والعزوف عن مباهج الدنيا ولذائذها كما الرهبان أو الصوفيون ‒ هذه هي أعمدة الاخلاقية الحزبية (ولو كانت منافقة) ٬ وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور . الحزب هو الحقيقة المطلقة وقد تجسدت على الأرض . هو عقل التاريخ الكبير الذي يستحضر روح الماضي ويفك حتى رموز الغيب والمستقبل . دائما “تأتي الأحداث لتبرهن على صحة توقعاتنا” ! اما النقد الذاتي ٬ الذي نادرا ما يمارسه الحزب وغالبا ما يمارسه الأعضاء كطقوس ٬ فهو اعتراف في حضرة المسؤول أو توبة عن منكر أو معصية . مثلث الدين ‒ الجنس ‒ الصراع الطبقي رقعة محرمة من أرض الفكر العربي ٬ تابو يمنع الخوض به ‒ وان لم يكن من بد . فبأقصى قدر من الوجل والحشمة وخشية الرب . والى ذلك كله ٬ يضيف الماركسيون العرب المحاولة النظرية البائسة في “اكراه اللاهوت على الدعوة المادية” ٬ كما يقول انجلز في سياق مماثل .
لأن الماركسية العربية كانت كذلك ٬ فان الانتقال منها واليها كان بمثل السرعة والسهولة التي خبرناها . ولأنها كانت كذلك ٬ فانها لم تكشف عن أية حيوية خاصة ولم تخض أية معارك نظرية كتلك التي شهدتها المنطقة ‒ خاصة مصر ‒ في فترة ما يسمى بعصر النهضة (المعارك التي اثارتها مثلا مؤلفات قاسم أمين حول المرأة أو كتاب علي عبد الرزاق : “الاسلام وأصول الحكم ‒ بحث في الخلافة والحكومة في الاسلام” أو كتاب طه حسين “في الشعر الجاهلي”) . لقد كانت الماركسية العربية مشغولة بمعاركها الخاصة الصغيرة ٬ وهي تحك رأسها الذرائعي لتبرير الوضع القائم على مستوى الأنظمة والقوى “الوطنية” و”التقدمية” ‒ انها كانت تفتقر الى الجدل ٬ الثوري بطبيعته . فيما هي تستلقي كسولة على شواطئ المحيط الميتافيزيقي ! وعندما كان يخرج “مارق” ليخوض في المحرمات (صادق العظم في “نقد الفكر الديني”) فانها كانت تقف موقف الصمت المفضوح أو التواطؤ المسبوه مع القوى الرجعية المستشارة . اما عندما يتمادى “المارق” في غيه (في “نقد فكر المقاومة”) ٬ فان “صاحبتنا” الماركسية العربية تنتفض كما المذبوح ٬ تستشيط غضبا ٬ وتكتب بعد ان ترغي وتزبد (بقلم منير شفيق مثلا ٬ “الثورة الفلسطينية : بين النقد والتحطيم”) .
النشأة الستالينية للايديولوجيا الماركسية العربية في العشرينات ثم الثلاثينات من هذا القرن لعبت هي الأخرى دورا مهما في تشكيل تلك اليديولوجيا وتركت بصماتها واضحة على جسدها . كانت الثورة الأوروبية قد أخلفت وعدها ولم تنشب فتهب لنجدة شقيقتها الروسية ووجد البلاشفة أنفسهم امام الاشكال العريص : كيف تبنى الاشتراكية ٬ في بلد واحد ٬ بلد يفتقر الى الشروط المادية الضرورية لبنائها ؟ و … هل من الممكن تجنب صعود البيروقراطية في “الدولة العمالية المشوهة بيراقراطيا” الى وضع الفئة / الطبقة الحاكمة ؟ كان عهد لينين فترة الاجابات الأصيلة (التجريبية والمتناقضة تناقض الوضع نفسه) على تلك المفارقة التاريخية التي يجد الحزب الثوري فيها نفسه عاجزا عن عمل ما يرى ضرورة عمله ومضطرا لعمل ما هو غير مقتنع به … وكانت الستالينية ٬ بعد ذلك ٬ هي اللينينية وقد مسخت الى ايديولوجيا البيروقراطية السائدة : ما كان “اشتثنائيا” في فكر لينين رفعه ستالين الى مستوى القانون العام ٬ واستطاع هذا الرجل “البالغ الفظاظة” ان يختزل رفيقه الراحل الى عدد من الصيغ المبسطة المبتذلة والمسماة “أسس اللينينية” . ان الفعالية البيروقراطية في مجال الانتاج المادي (كما اظهرتها الخطتان اولى والثانية ٬ 1928-1937 ٬ وعبرت عنها الحركة الستاخانوفية) ترافقت مع البؤس في مجال الانتاج الابداعي ٬ وصمته النظري .
من هذا البؤس ٬ رضعت الايديولوجيا الماركسية العربية وفي مناخه ترعرعت . ماركس “النظري” يتراجع لصالح لينين “العملي” . لينين “مرض اليسارية الطفولي” يتقدم على لينين “الدولة والثورة” . “الواقعية” الفكرية توضع ازاء الابداع الفكري لتضعه قيد الاشتباه بتهمة المغامرة اليسارية أو الشطحة البرجوازية الصغيرة . ويصبح “التحليل الملموس للواقع الملموس” يعني استحضار دزينة من الصيغ الايديولوجية الجاهزة “الصالحة” كدين لكل زمان ومكان …
وهكذا ٬ مثلا ٬ اذا كان ماركس ‒ في ضوء منهجه المادي الجدلي ومفهومه المادي للتاريخ ‒ يرى امكانية أخرى لتعاقب المراحل التاريخية غير التعاقب الذي عرفه المسار المحدد للتاريخ الأوروبي (عنينا مفهومه لنمط الانتاج الاسيوي) ٬ فان بعض “ماركسيينا” القلائل الذين يدلون بدلوهم حول هذه المسألة يميلون الى تخطئة ماركس ويعتبرون الحديث عن نمط انتاج اسيوي مؤامرة تحاول هدم أسس علم الاجتماع الماركسي . ونسارع ونقول : أجل ٬ ليس ماركس معصوما عن الخطأ ٬ ولا هو قدم الكلمة الأخيرة في التاريخ والفلسفة والاجتماع والاقتصاد ٬ وان الأبحاث والحوارات حول هذه المسألة قد تتوصل الى تخطئة ماركس فعلا ٬ ولكن المشكلة هنا هي في المفهوم الستاليني “الحديدي” للتاريخ ٬ الذي يتعارض مع النهج الماركسي ٬ والذي يصادر سلفا كل بحث وكل حوار على انه بدعة في الماركسية أو مؤامرة لتزويرها .
مثل آخر على المنشأ “الديني ‒ الستاليني” للماركسية العربية يتعلق بمفهوم “النظام الوطني الديمقراطي” الذي تناضل التنظيمات الشيوعية في المنطقة لاقامته . تحقق البرجوازية في سياق ثورتها الديمقراطية المظفرة عددا من المهمات (تصنيع ثقيل ٬ اصلاح زراعي ٬ نظام سياسي برلماني ٬ سوق قومية وبالتالي دولة قومية) مما يخلق الشروط المادية الضرورية للثورة البروليتارية ومن ثم لبناء الاشتراكية . انطلاقا من مثل هذه الفرضية العامة والصحيحة في سياق تاريخ محدد ‒ كالسياق الأوروبي العام مثلا ‒ يحاول الايديولوجيون الماركسيون العرب حشر تحليلاتهم الطبقية لمجتمعات العربية القائمة في الحذاء الحديدي للنموذج النظري العام ٬ “ليكتشفوا” أنظمة برجوازية مضافا اليها بعض الصفات كالبيروقراطية أو الوطنية أو التقدمية ٬ فيناضلون من الداخل أو من الخارج لكي يقنعوها أو يجبروها على الخروج من جلدها وتحقيق “مهماتها” الديمقراطية والوطنية المفترضة … فتفوز بلقب أنظمة وطنية ديمقراطية ! طبعا ٬ ليست الأمور دائما على مثل هذا الوضوح ٬ الذي عبرت عنه بعض تحليلات الأزمة السورية الراهنة مثلا (الأوضح من بينها ٬ دون شك ٬ هو تحليل المكتبين السياسيين لحزبي العمال الشيوعي الفلسطيني واللبناني ٬ طريق الانتصار ٬ 14-4-1980 ٬ حيث جاء في التحليل : “هدف النضال المباشر لا بد ان يتمحور على استكمال المهام التي لم تنجزها البرجوازية وتقع في نطاق دورها التاريخي سواء تلك التي تتعلق بالقضية الوطنية أو الديمقراطية . وهذا يمكن تحقيقه من خلال رفع شعار … لا يمكن ان يكون سوى النضال من أجل تحقيق الجمهورية الوطنية الديمقراطية التي تتحقق عندما تستطيع الطبقات الشعبية بقيادة أحزابها الثورية ان تجبر البرجوازية الحاكمة على تغيير طريقة ممارستها للحكم من الشكل الدكتاتوري الاستثنائي البرجوازي الى شكل أكثر ديمقراطية وأقل ديكتاتورية ‒ ديمقراطي برجوازي” ٬ ص 2 . وشكرا للرفاق على دقتهم ووضوحهم !) . ولكن غياب “التحليل الملموس” للبنية الطبقية لتلك الأنظمة ٬ وصولا الى استخلاص خصائصها النوعية المحددة ٬ وبالتالي غياب مفاهيم مثل “الأزمة العامة” المتعلقة ببنية النظام ذاتها وتمويه مسألة السلطة في الوقت الذي تضعها فيه القوى الرجعية المختلفة في رأس جدول أعمال بنادقها ‒ ان ذلك كله يدل على صحة ما أشرنا اليه أعلاه بشأن مفهوم الماركسية العربية للنظام الوطني الديمقراطي وبشأن الجذور الايديولوجية البعيدة لهذا المفهوم .
العودة الى الينابيع
اذن ٬ الايديولوجيا العربية هي الأخرى تعيش أزمة موازية للأزمة التي تعيشها الأنظمة القائمة . “المؤمن” يرى الأرض عبر ضباب السماء ٬ و”القومي” يحلم بالأمة متقمصا بسمارك المانيا القرن التاسع عشر (ان لم نقل هتلر القرن العشرين) ٬ و”الماركسي” ينظر بعيني مؤمن الى ستالين على انه ماركس ! وكما كان الأمر في عصر الانحطاط العربي ٬ يكاد الانتاج “النظري” يقتصر على الشروح وشروح الشروح ٬ والتفسير وتفسير التفسير ٬ والتهذيب وتهذيب التهذيب . وذلك لعمري تهافت التهافت !
خلافا للايديولوجيا الدينية التي تراكم عليها غبار التاريخ وخلافا للايديولوجيا القومية التي خصاها تطور الرأسمالية القومية الغربية الى امبريالية عالمية ٬ فان الماركسية تظل نظرية العصر . ولكن ٬ أية ماركسية ؟ اثر واحد للايديولوجيا الدينية استطاع “الماركسيون” العرب ان يتجنبوه : الدعوة “للعودة الى الأصول” . فهل يكون الجواب في العودة الى الأصول ٬ الى ماركس “الحقيقي” ٬ اللاماركسي ٬ القائل في المؤلف الذي قرر فيه مع انجلز تصفية الحساب مع وعيهما الفلسفي السابق :
“ليست الشيوعية بالنسبة الينا أوضاعا ينبغي اقامتها ٬ مثلا أعلى ينبغي للواقع أن يتطابق معه . اننا ندعو الشيوعية الحركة الواقعية التي تلغي الأوضاع القائمة حاليا . وان شروط هذه الحركة لتنتج عن المقدمات الموجودة في الحاضر” ؟ 12
… ذلك بحث آخر .
[نشر هذا المقال أولا في المجلة البيروتية “الحياة الجديدة” ٬ في عددها الأول ‒ ايلول 1980]
حواشي ومراجع :
- الظروف الجغرافية ‒ المناخية (صحاري واسعة ٬ ووديان زراعية …) ٬ وبالتالي حدود تطور القوى المنتجة في “العصور الوسيطة” والدور الخاص للتجارة البعيدة المدى ٬ ودور الحروب والغزوات المتكررة (فتوحات عربية اسلامية ٬ غزوات منغولية وتركية .. وخاصة أوروبية بدءا من القرن الثاني عشر ثم الخامس عشر) في تدمير القوى المنتجة ٬ ثم اثر الايديولوجيا الاسلامية … أنظر وجهات النظر المختلفة حول الموضوع لدى كل من :
سمير أمين ٬ الأمة العربية : القومية وصراع الطبقات ٬ بيروت ٬ دار ابن رشد للطباعة والنشر ٬ 1978 . ز.ي. هرشلاغ ٬ مدخل الى التاريخ الاقتصادي الحديث للشرق الأوسط ٬ بيروت ٬ دار الحقيقة 1973 ٬ خاصة ص 33-48 حول دور الاسلام .
C. Hssawi (ed.), The Economic History of the Middle East, 1800-1914, Chicago and London, The University of Chicago Press, 1966, pp. 3-13. ↩ - تباشير هذا الاصلاح بدأت بالظهور في مصر قبل ذلك بنحو قرن ٬ أي اعتبارا من الربع الأخير من القرن الثامن عشر . أنظر :
P. Gran, Islamic Roots of Capitalism, Egypt 1770-1840, Austin, University of Texas Press, 1979. ↩ - قارن مثلا بين علي عبد الرازق ٬ الاسلام وأصول الحكم ‒ بحث في الخلافة والحكومة قي الاسلام ٬ القاهرة ٬ مطبعة مصر ٬ 1925 ٬ وبين الامام أية الله الخميني ٬ الحكومة الاسلامية ٬ بيروت ٬ دار الطليعة ٬ 1979 . ↩
- أنظر مثلا أبو الحسن بني صدر ٬ ايران : غربة السياسة والثورة ٬ بيروت ٬ دار الكلمة ٬ 1979 . ↩
- بشأن مطاوعة / مقاومة الاسلام للمشروع الرأسمالي ٬ أنظر :
M. Rodinson, Islam and Capitalism, London, Penguin Books, 1974. ↩ - أبو الحسن بني صدر في مقابلة أجراها معه حسن الزين ٬ السفير ٬ 5-6-1980 . ↩
- Theory of Labour Value – أنظر:
A. Smith, The Wealth of Nations, Vol. 1, London: Methuen and Co. Ltd. 1961, especially pp. 34-61. ↩ - أنظر مثلا ٬ رسالة الامام الخميني بمناسبة حلول العام الهجري الشمسي الجديد ٬ يوم 22 اذار / مارس 1980 ٬ صوت الأمة ٬ طهران ٬ العدد 3 ٬ السنة 1 ٬ نيسان 1980 ٬ ص ص 6-9 ٬ خاصة النقاط “البرنامجية” 5 و8 و9 من “المواضيع التي ألفت الانتباه اليها” في الرسالة . ↩
- قدمت هذه الدراسة في ندوة “الحضارة الاسلامية والمجتمع العربي الحديث” التي انعقدت في الجامعة الأميركية في بيروت في الفترة من 5 الى 8 ايار / مايو 1980 ٬ ونشرت الدراسة في مجلة قضايا عربية ٬ السنة 7 ٬ العدد 7 ٬ بيروت ٬ تموز / يوليو 1980 . ↩
- أنظر :
W. Kazziha, “Another Reading into al-Husari’s Concept of Arab Nationalism”
وهي دراسة قدمت في ندوة “الحياة السياسية والفكرية في الشرق العربي 1890-1939” ٬ التي انعقدت في الجامعة الأميركية في بيروت في الفترة من 29 الى 31 ايار / مايو 1979 . ↩ - هذا لا يعني ان الذين كسروا أباريق الوضوء في حزيران / يونيو 1967 لن يحلفو اغلط الايمان فيما بعد مؤكدين مشاركة الملائكة في القتال الى جانب الفدائيين في معركة الكرامة ٬ اذار / مارس 1968 ! ↩
- ك. ماركس وف. انجلز ٬ الايديولوجيا الألمانية ٬ ترجمة الدكتور فؤاد أيوب ٬ دمشق ٬ دار دمشق للطباعة والنشر ٬ 1976 ٬ ص 44 ٬ والتشديد من ماركس ! ↩