العلم الأفغاني منذ أكتوبر 1978

العلم الأفغاني منذ أكتوبر 1978

لسنا شركاء جوقة الدول الغربية المنافقة التي تشجب الغزو السوفياتي لأفغانستان ٬ اذ انه يعد “مشروعا” وفق “المقاييس الغربية” ٬ ولولا ان هذا الغزو لم يجر على أيدي الاتحاد السوفييتي ٬ اكان ثمة شك في ان يحظى حتى بمجرد “الاحتجاج الدبلوماسي” . وها قد مر تدخل الجنود البريطانيين والايرانيين في عمان والجنود الفرنسيين في تشاد والبلجيكيين والمغاربة في زئير دونما احتجاجات رسمية من قبل الدول الغربية الأخرى ٬ وكذلك اشتراك الولايات المتحدة المكثف في الحرب الفيتنامية وحلفائها لم يدفع بقية الدول الغربية الى مقاطعتها .

لقد ردت الولايات المتحدة بايقاف ارسال الحبوب الى الاتحاد السوفييتي وبحملة لمقاطعة الأولمبيادة [في موسكو] وذلك رغم كون أفغانستان خارجة عن ظلال “النفوذ الغربي” ٬ ورغم كونها متاخمة لحدود الاتحاد السوفييتي الجنوبية ٬ ورغم ان نظامها الذي أسقطه الاتحاد السوفييتي لم يكن مواليا للغرب ٬ بل لم يكن “غير منحاز” .

وجاء هذا الرد خدمة للأهداف التالية : أولا ٬ نجاح أميركا بقدر كبير في صرف أنظار الرأي العام الاسلامي في دول مختلفة عن المواجهة الأميركية ‒ الايرانية . وبذلك صانت ماء وجهها في “العالم الاسلامي” . ثانيا ٬ المساهمة في بلورة التكتل الوطني الأميركي خلال أزمة اقتصادية يحاول فيها النظام تخفيض مستوى معيشة العمال في الولايات المتحدة التي ترتفع فيها أسعار الوقود ويصل التضخم الى 18% والبطالة الى 6% (ولا يستثنى من ذلك طبعا استغلال كارتر للأزمتين الايرانية والأفغانية في حملته الانتخابية) . ثالثا ٬ تمكين النظام الأميركي من تقديم عون مكثف ومكشوف لنظام عسكري دكتاتوري وحشي كنظام ضياء الحق في الباكستان وتوطيد العلاقة معه ٬ الأمر الذي لم يكن الرأي العام الأميركي يتقبله بالفهم في ظروف مغايرة .

نحن كاشتراكيين ثوريين لنا بالطبع مقاييس تختلف تماما ٬ وما كنا أبدا لنشارك السوفييت وعميلتهم ركاح (الحزب الشيوعي الاسرائيلي) جهودهم في ابراز الاتحاد السوفييتي حارسا للسلام ٬ ولا محاولتهم المنافقة تجنيد الرأي العام ضد “التخريب الأميركي لسياسة الانفراج الدولي ‒ ديتانت” . اننا لا نحدد موقفنا حسب اعتبارات استراتيجية للدول العظمى ٬ انما نعمل دائما على تحديد موقفنا بواسطة التحليل الاجتماعي . وفي المسألة المطروحة بتحليل المجتمع الأفغاني .

انه مجتمع زراعي بدأ يخطو خطواته الأولى في السنوات الأخيرة فقط للخروج من نظام شبه اقطاعي ٬ والى جانب الانقسام الطبقي المميز لمرحلة التطور هذه ٬ ينقسم المجتمع الأفغاني أيضا انقساما قوميا وقبليا . أكبر جماعة هم الفشطونيون ويشكلون نصف السكان ٬ ولهم صلات وثيقة من حيث اللغة والتراث مع اخوتهم الذين يعيشون في الباكستان المجاورة . وهنالك أقليات قومية من الأوزبكيين الناطقين بالتركية والطاجاكيين ٬ ولهاتين المجموعتين قرابة عرقية مع الشعوب القاطنة في الاتحاد السوفييتي ٬ والبلوشيون الذين يقطنون أيضا في باكستان وايران المجاورتين ٬

والنورستانيون والخزر الناطقون بالفارسية وسواهم . ان العلاقات المتينة بين العشائر المسيطرة وأصحاب الأراضي وبين الجماهير الخاضعة لها لا تقتصر على التبعية الاقتصادية فحسب بل ترتكز أيضا الى الانتماء القومي أو القبلي . هذه الحقيقة توضح حقيقة الضعف المزمن التأريخية الذي يعيشه النظام المركزي في أفغانستان .

*

توجد للاتحاد السوفييتي صداقة تقليدية مع أفغانستان ٬ اذ أنشأ في العشرينات صداقة وثيقة مع الخان (الملك) ايمان الله ومن بعده مع الخان محمد ظاهر 1933-1973 ٬ وتوطدت الصداقة بين الجانبين بعد اغلاق الحدود الأفغانية الباكستانية (وبذلك أغلق المنفذ الوحيد لأفغانستان الى المحيط الهندي) اثر النزاع مع باكستان حول مقاطعة فشتنيستان عام 1961 .

في 1965 أعلن الخان عن انتهاج قدر من الليبرالية واجراء انتخابات برلمانية . فتم تأسيس “حزب الشعب الديمقراطي” حول جريدة “خلق” (الشعب) وكان صاحبها هو نور محمد تراقي . ورغم اغلاق جريدته سنة 1966 بحجة “منافاتها للاسلام” فقد سمح للحزب بالاشتراك في انتخابات 1965 و1966 ٬ وانتخب عدد من مراشحيه للبرلمان . وفي أواخر الستينات وقعت عدة انشقاقات في الحزب فتجمعت حول جريدة “البرتشام” (الراية) فئات موالية للسوفييت ٬ وعرفت هذه المجموعة وثيقة الصلة بالنظام باسم “الحزب الشيوعي الرسمي” بين خصومها . والحاكم الدمية الحالي لأفغانستان بابراك كارمال محسوب على المجموعة اياها . وفي الوقت نفسه انشقت عن الحزب مجموعة أخرى واشتقت اسمها من جريدتها “شولة أي جاود” (الشعلة الخالدة) ٬ ولتحفظها من العلاقات الوثيقة مع الاتحاد السوفييتي اعتبرت موالية للصين . هذا وأغلقت هاتان الجريدتان اثر جريدة “خلق” اثناء انتخابات 1969 . وفي تلك السنوات انفصلت عن “البرتشام” فئة باسم “سطام أي ملي” التي أرادت تعبئة القرويين لنضال ثوري يقوم على برنامج لا مركزية النظام ٬ وذلك بغية تبديد مخاوف أبناء الأقليات من النظام المركزي ٬ وكانت هذه الفئة مسؤولة عن احتلال السفارة الأميركية في كابول 1969 والذي انتهى بموت السفير الأميركي وجميع المهاجمين خلال اقتحام قوات الأمن الأفغانية .

في سنة 1973 دبر رئيس الحكومة الأمير داوود ابن العائلة المالكة انقلابا بتأييد ضباط جيش وطنيين ومتطلعين الى الاصلاحات كانوا قد تلقوا تدريباتهم العسكرية في الاتحاد السوفييتي . فألغى داوود النظام الملكي وأعلن الجمهورية ٬ أبطل الانتخابات التي أعدت لتلك السنة وحل البرلمان وأقام نظاما دكتاتوريا ذا حزب واحد . رفض حزب “خلق” تأييد هذه الاجراءات وأخذ يمارس نشاطه السري . اما جناح “بارتشام” الذي ينتمي اليه بابراك كارمال فقد كان مستعدا للدخول في “تسوية تأريخية” مع داوود والمشاركة في نظامه . فتم تعيين مائة وعشرين عضوا من “البرتشام” موظفين في الحكومة وحكاما مدنيين في الأقاليم ٬ غير انهم جوبهوا هناك بمعارضة الزعامة التقليدية المحلية لأي مس بصلاحياتها ٬ وسرعان ما أدرك داوود ان التحالف مع “البرتشام” أصبح عقيما ٬ فقام في سنة 1977 بتنحية رجال كارمال عن مواقع نفوذهم طمعا منه في استرضاء الزعامة التقليدية وتحويل أسهم العداء عن نظامه وتصويبها الى حزب “البرتشام” كمسؤول عن الفشل كله ! عندها عاد رجال “البرتشام” المعزولون الى ممارسة نشاطهم السري والتحقوا بحزب “خلق” .

*

وعلى أرضية مظاهرات شعبية ضد النظام وحملات الاعتقالات ٬ دبر انقلاب عسكري بقيادة حفيظ الله أمين . وفي 27 نيسان 1978 أطاح رجال “خلق” بنظام داوود وأعلنوا اقامة “جمهورية أفغانستان الديمقراطية” وعين نور محمد تراقي رئيسا للحكومة وكارمال نائبه . لقد أسفر تصارع القوى داخل “خلق” ومحاولة جناح الأقلية بقيادة كارمال ايجاد حلفاء ٬ خارج الحزب ٬ عن تنحيته وتعيينه سفيرا لبلاده في براغ . واتهم كارمال خلال “تطهير” آخر في الحكومة بالاشتراك في مؤامرة ضباط “وطنية ‒ اسلامية” .

جابه نظام “خلق” مثل سائر الأنظمة المركزية في الأفغان ٬ مقاومة قومية ومحلية اكتسبت هذه المرة صبغة دينية . وعمل تراقي وأمين على تقويض القاعدة الجماهيرية لهذه المقاومة وذلك باجراء اصلاح زراعي وشن حرب شديدة ضد رجال الدين . ودفعت الحرب الأهلية ٬ التي أخذت تتفشى تحت تأثير الثورة في ايران ٬ السوفييت ‒ الذين أيدوا حتى ذلك الوقت كلا من تراقي وأمين ‒ الى خلع أمين ٬ وذلك لتلطيف مواقف النظام والتوفيق بينه وبين الثوار وتوفير المزيد من الاستقرار له . غير ان محاولة الاطاحة بأمين أحبطت وقتل تراقي في سياق انقلاب مضاد نفذه أمين . وأعلن فورا عن توزيع واسع للأراضي وعن تأميمات خلافا لنصيحة السوفييت الذين تظاهروا الآن بأنهم “أصدقاؤه” .

*

في 27 كانون أول 1979 غزا الجيش السوفييتي أفغانستان فقتل أمين اياه ٬ ووصل “حاكم” الدولة الجديد كارمال من منفاه في موسكو الى كابول على متن طائرة سوفييتية بعد أن بدأ الغزو بثلاثة أيام ! وباشر على الفور عدة اجراءات لتوسيع قاعدة حكمه من خلال عمله لكسب عطف الطبقة الوسطى .

وهكذا يصف مراسل الصحيفة الألمانية الليبرالية “دي تسايت” في كابول سياسة كارمال الجديدة : “لقد أعلن عن احترام “وحدة العائلة” و”الملكية الفردية” وفوق كل شيء “احترام عميق للدين الاسلامي المقدس” وهذه المبادئ ستكون أسس الدستور الذي يجري اعداده مجددا . واجتازت عدة مجالات في التجارة الخارجية عملية الغاء التأميم والاحتكارات ٬ وبدأت اعادة أراضي المزارع المصادرة (الى أصحابها) ٬ وعادت اعلانات الحزب تستهل بالبسملة (بسم الله الرحمن الرحيم) وقد غير العلم الأفغاني لونه الأحمر منذ أكتوبر 1978 ليعود أفغانيا اسلاميا” .

العلم الأفغاني منذ 1980

العلم الأفغاني منذ 1980

كل هذه التغييرات تجري تحت رعاية السوفييت وبتشجيع منهم . نحن لا ندعي أن “خلق” بزعامة أمين كان حزبا يدير سياسية اشتراكية ‒ ثورية ٬ فقد وصل الى السلطة عن طريق انقلاب عسكري ونفذ التأميم وتوزيع الأراضي من فوق ومن خلال الارتكاز على الجيش وأحيانا من خلال قمع ظواهر مبادرات شعبية . لا ريب في أن نظام حزب “خلق” السابق من حيث المجال الاجتماعي الداخلي ومن حيث مضمونه الفكري ٬ كان أكثر تقدما من النظام الحالي ٬ ولو من حيث كونه نظاما أفغانيا نما في واقع اجتماعي أفغاني أصيل بمقارنته مع نظام كارمال الراهن الذي يمتاز بعمالته البارزة وارتكازه على حراب دولة عظمى مجاورة .

*

يجب التأكيد على شيء واحد : لقد صرف الغزو السوفييتي أنظار الجماهير الأفغانية عن النضال من أجل تغيير معالم المجتمع الأفغاني وساهم هذا الغزو بشكل مباشر في تضافر جميع القوى المعارضة للاحتلال تحت راية الاسلام الرجعية . وأكثر من ذلك فقد مكن الغزو السوفييتي الثوار المسلمين من اكساب نضالهم صبغة النضال في سبيل التحرر القومي من احتلال أجنبي ٬ وبذلك تعززت حركتهم الى حد كبير . وعليه فانه لا يمكن التملص من رفع مطلب انسحاب الجيش السوفييتي من أفغانستان فورا !