سئل أحد زعماء يهود الولايات المتحدة البروفيسور آرثر هرتسبرغ ٬ في مقابلة مع صحيفة “معاريف” في 18 أبريل 1980 ٬ عن رأيه في قرار الرئيس الأميركي كارتر منح اليهود المهاجرين من الاتحاد السوفييتي (الى الولايات المتحدة) وضعا شرعيا كلاجئين ٬ فأجاب هرتسبرغ : “اليهود الذين يغادرون الاتحاد السوفييتي ليسوا لاجئين . انا متأكد من ذلك . انهم يستغلون اشارة المرور الاسرائيلية ليس للسفر الى الولايات المتحدة فحسب بل من أجل الاختلاط هناك . وفي الولايات المتحدة لا يريدون العيش كيهود ٬ المأساة هي انهم يستغلون يهوديتهم في الاتحاد السوفييتي كي يتملصوا منها في الولايات المتحدة . لكن هل يجوز لنا ٬ بعد كل هذه الادعاءات الخطيرة ضدهم ٬ ان نطلب من رئيس الولايات المتحدة عدم تقديم العون لليهود القادمين الى بلاده ؟”
ولما أخفق الصحافي في ابتزاز فكرة من هرتسبرغ ضد كارتر حاول في اتجاه آخر وسأل : “أهذه ظاهرة ايجابية ان تساعد منظمات يهودية بأموال يهودية ٬ اليهود المرتدين ‒ [لعل عبارة “مرتدون” هي أنسب ترجمة للمصطلح الصهيوني “نوشريم” أي : الساقطة أو المتساقطون . ويطلق على اليهود الذين يغادرون الاتحاد السوفييتي وفي أوروبا يديرون أقفيتهم لاسرائيل ويرفضون الهجرة اليها ‒ المترجم] في السفر الى الولايات المتحدة والاخذ بأيديهم لترساخ أقدامهم هناك ؟ فهل انتم ملزمون بمساعدتهم بعد ؟”
سؤال صهيوني حسن حقا . ألم تكرس الصهيونية في سبيل انشاء دولة لليهود كي يخدموها بعد قيامها . ما للصهيونية وما لتقديم مساعدة ما ليهود ما يريدون مغادرة الاتحاد السوفييتي ؟ اذا لم يجيئوا لاسرائيل فليظلوا في الاتحاد السوفييتي . ولكن ثمة مشكلة لآرثر هرتسبرغ الصهيوني الوفي :
“هنا أيضا أنا منفصم نفسيا وحتى اليهودي الكاذب الذي يعلن في الاتحاد السوفييتي عن نيته الهجرة الى اسرائيل ويحصل على اشارة مرور اسرائيلية ٬ بينما واضح له على الاطلاق انه مسافر الى الولايات المتحدة ٬ اننا لا نستطيع ان نقول له : لست بأخ لنا ٬ سنهجرك ولن نقدم لك أي عون . لا ! اننا لا نقدر أن نتصرف على هذا النحو . وثمة أمر آخر قد لا يقل خطورة : هل ثمة حق اخلاقي ليهود مثلي يعيش رغدا في نيو جرسي ولا يهاجر بنفسه الى اسرائيل ٬ في ان يقول ليهودي من الاتحاد السوفييتي : اننا لن نساعدك ولا نقربك منا لأنك لا تسافر الى اسرائيل . هذا نفاق …”
التمييز في مجال الهجرة
فما هو الحل الذي يطرحه هرتسبرغ ؟ “يجب على يهود الولايات المتحدة ارسال بعثة الى الاتحاد السوفييتي والتفاوض مع رؤساء السلطة حول حل لمشكلة المرتدين . والمبدأ الذي يجب العمل به هو ان كل يهودي يتسلم اشارة المرور الاسرائيلية يكون ملزما بالسفر المباشر جوا من موسكو الى تل أبيب دون توقف . واليهودي الذي يرفض السفر المباشر من موسكو الى تل أبيب لن يحصل على الاشارة الاسرائيلية … وان كان يريد سفرا الى الولايات المتحدة فالسوفييت هم الذين يقررون السماح له أو منعه ٬ والولايات المتحدة تقرر منحه اشارة المرور أو عدم منحه” .
اوردت اقوال هرتسبرغ باسهاب لأنه يمثل خط الصهيونية “المعتدل” بخصوص هجرة اليهود من الاتحاد السوفييتي . وينادي أصحاب الخط “المتطرف” كما هو معروف بعملية صارمة لوقف هجرة اليهود من المدن السوفييتية التي لا تصل أغلبية المهاجرين منها الى اسرائيل ! وذلك بعدم ارسال تأشيرات المرور الاسرائيلية الى اليهود في مثل هذه المدن … هؤلاء الغلاة مستعدون حتى ان يغلظوا قلوبهم تجاه المهاجرين اليهود الذين لم يجيئوا الى اسرائيل وان يضغطوا على مختلف الحكومات كي لا تعنيهم . وحقيقة كون مثل هذا الضغط شبيه بضغوط اللاساميين الذين يعارضون مساعدة حكوماتهم للمهاجرين اليهود ٬ هذه الحقيقة لا تزعج أمثال هؤلاء الصهاينة الاوفياء . وليست هذه أول مرة يتنادى فيها صهاينة ولا ساميون وينادون : “اليهود الى الخارج ! اليهود الى فلسطين !”
ولئن كان المنطق الصهيوني معتدلا أو متطرفا سهل الفهم نسبيا فمن الصعب والعسير فهم تعاون الاتحاد السوفييتي مع الصهاينة وابقائه المجال متاحا لليهود لمغادرة البلاد ٬ بينما يسافر قسم منهم ‒ على الأقل ‒ الى اسرائيل ! ويقوم الاتحاد السوفييتي بذلك دونما رادع امام الدعاية الصينية التي تحاول لفت أنظار الدول العربية الى حقيقة ان هذه الهجرة الصهيونية قد تقوي دولة اسرائيل ٬ ولا يراعي الاتحاد السوفييتي من حقيقة ان السماح لليهود في مغادرة مجاله لا يوقف حملة الدعاية المعادية للسوفييت التي يدبرها دعاة الصهيونية في أنحاء العالم . لماذا ؟
من المحتم ان يخلص المرء الى نتيجة ان خروج اليهود يخدم شيئا ما مصالح حكام الاتحاد السوفييتي . فأية مصالح هذه ٬ وكيف ؟
أولا : لقد أفلحت الدعاية السوفييتية وما زالت تفلح في التعتيم على بضعة حقائق هامة .
الحقيقة الأهم هي ان البيروقراطيين السوفييت ينتهجون التمييز في مجال الهجرة لصالح المواطنين السوفييت من أصل يهودي ! فمن يستطيع ان يثبت انه من أصل يهودي يحظى بالخروج من الاتحاد السوفييتي بشكل مشروع ٬ والأغلبية يفلحون في ذلك دونما صعوبات كبيرة . وكل الصراخ والولولة التي يثيرها الصهاينة وأتباعهم عن حظر هجرة يهود الاتحاد السوفييتي تشكل في الواقع اقتحام باب مفتوح : فاليهود في الاتحاد السوفييتي ٬ كجماعة لا يعانون اضطهادا خاصا بالمقارنة مع أقليات أخرى . لا شك في وجود اضطهاد قومي في الاتحاد السوفييتي ٬ لكن معاناة اليهود من هذا القهر ٬ ليست بأشد من معاناة أبناء قوميات أخرى ٬ ويقينا ٬ أخف من معاناة تاتار القرم ٬ مثلا ٬ الذين أجلو عن وطنهم وحظر عليهم العودة اليه منذ الحرب العالمية الثانية . أفلا يرزح الشعب التاتاري تحت وطأة قهر قومي شديد وعقاب جماعي وحشي ٬ بينما اليهود وحدهم يتمتعون بامكانية الهجرة من الاتحاد السوفييتي اذا ارادوا ؟!
تشويه وجه المعارضة
ان تسديد الأنظار الى وضع اليهود الذي لا يعد فظيعا بهذا القدر ٬ يصرف أنظار الرأي العام في الغرب عن قضايا قومية أشد حدة في الاتحاد السوفييتي . وبذلك تؤدي الدعاية الصهيونية خدمة جليلة لحكام الاتحاد السوفييتي .
والادهى من ذلك هو تشويه وجه المعارضة للنظام البيروقراطي السوفييتي . فآلة الدعاية الصهيونية لا تدخر جهدا لترويج أنباء عن اعتقال صهاينة . وهكذا مع كل نجاح للدعاية الصهيونية تشح المعلومات حول قمع دوائر المعارضة الأخرى . طبعا ٬ انه لمريح جدا للاتحاد السوفييتي ٬ ان يعتقد الناس ان المعاضة الوحيدة للحكم البيروقراطي هي من جانب الصهاينة التي ادينت صهيونيتهم في الأمم المتحدة كحركة عنصرية . ومن المريح جدا لحكام الاتحاد السوفييتي ان تتسلط الاضواء في الغرب على الصهاينة لا على معارضة ديمقراطية أو اشتراكية !
ولا تألو الدعاية الصهيونية جهدا في اقناع ان “مشكلة اليهود في الاتحاد السوفييتي” هي أكثر المشاكل الحاحا هناك . لا شك انها أشد مشاكل الصهيونية اشتعالا هنا ٬ الصهيونية اياها التي تقض مضاجعها “القضية الديموغرافية” في اسرائيل ٬ والمستغيثة بمزيد من الهجرة اليهودية . ان عدم احترام حقوق الانسان الأساسية في الاتحاد السوفييتي ٬ وعدم احترام الحريات الديمقراطية ٬ وعدم احترام حرية التنقل داخل الدولة وعدم احترام حرية التنظيم السياسي والمهني . كل هذه هي قضايا أشد الحاحا في الاتحاد السوفييتي من مسألة السماح بالهجرة اليهودية الى اسرائيل .
تضم المعارضة للنظام البيروقراطي السوفييتي أصحاب اراء سياسية مختلفة جمعتهم ارادتهم تغيير النظام في الاتحاد السوفييتي من أجل تحسين الحياة هناك ٬ وكل منهم يعمل ٬ طبعا ٬ على شاكلته . اما الصهاينة فيشذون عن القاعدة ضمن هذه المعارضة ٬ ان كانوا ينتمون اليها عموما . فالصهاينة لا يناضلون من أجل احترام الحريات الديمقراطية لسائر مواطني الاتحاد السوفييتي ٬ وفيما يتعلق بهم ٬ فليبعث ستالين من قبره لكن بشرط ان يسمح لكل يهودي بالهجرة ٬ وان رفض اليهود الهجرة جاز فرضها عليهم … والصهاينة غير معنيين حتى بحرية الهجرة للجميع . كلا ثم كلا ! الهجرة الحرة من أي مكان الى أي مكان ليست مقبولة لديهم أبدا (قبول مثل هذا المبدأ سيضطر الصهاينة الى الاعتراف أيضا بحق جميع اللاجئين الفلسطينيين في العودة الى وطنهم …) انهم معنيون فحسب ٬ بهجرة اليهود الى اسرائيل لا غير .
ليس فحسب ان الصهاينة في الاتحاد السوفييتي لا يمدون يد التعاون الى المعارضة هناك ٬ بل انهم يعارضون مثل هذا التعاون . هذا ما كشفه في حينه مختطف الطائرات يسرائيل زلمانسون ٬ الذي استقبل في اسرائيل كبطل قومي بعد اطلاق سراحه من السجون السوفييتية (على فكرة ٬ لماذا اطلق السوفييت سراح خطفة طائرات يهود ؟!) لقد وجه زلمانسون سهام نقده الى أناتولي شرانسكي ٬ أشهر معتقل صهيوني ٬ بعد محاكمته فورا . لماذا ؟ لأنه “خلط بين المجالين (الهجرة الى اسرائيل والنضال من أجل حقوق الانسان في الاتحاد السوفييتي) وبذلك منح السلطات ذريعة للتنكيل به !” (“معاريف” 25/8/1978 . من الصعب فصل ذلك عن حقيقة عدم حضور أي ممثل اسرائيلي محاكمة شرانسكي الدولية التي جرت في بروكسل ٬ ايار 1980 ٬ ودعت المحكمة الشعبية في نهايتها الى اطلاق سراحه فورا) . هذا الكلام ينطوي على تلميح الى اتفاق غير مكتوب بين السلطات والصهاينة في الاتحاد السوفييتي خلاصته هي : ايها الصهاينة .. اذا لم تخلطوا شؤون الهجرة الصهيونية مع نضال المعارضة داخل الدولة فلن ينالكم مكروه …
وعلاوة على الفائدة الدعائية التي يجنيها الاتحاد السوفييتي من هجرة اليهود وتصويب الأنظار اليها ٬ فانه يستخدم هجرة اليهود كوسيلة للضغط على البلدان الرأسمالية من خلال معاملته لليهود كرهائن .
تشكل العلاقات الاقتصادية بين دول الغرب الكبرى والاتحاد السوفييتي مقياسا يعين وتيرة هجرة اليهود . وفي الولايات المتحدة ٬ مثلا تعمل جماعة ضغط قوية جدا يوجد ضمنها شركات انتاج الأسلحة الضخمة المعنية في العودة الى فترة “الحرب الباردة” لزيادة مبيعاتها . هذه الشركات لا تجني طائلا من العلاقات الاقتصادية مع الاتحاد السوفييتي اذ لا يسمح لها ببيع الأسلحة للسوفييت . ومفهوم أيضا لماذا تهتم جماعة الضغط اياها ٬ في الوقت نفسه ٬ باستمرار دعم الولايات المتحدة الكامل لاسرائيل عدوانية . و”اللوبي الاسرائيلي” محسوب أيضا على هذه الجماعة . ويعمل الاتحاد السوفييتي على تحييد هذا “اللوبي” الاسرائيلي وذلك بتهديده بالاخلال المحتمل بوتيرة خروج اليهود ٬ وبالكلام الفصيح : عليكم السعي للحيلولة دون فرض تقييدات على صفقات التجارة معنا ٬ ومن عندنا .. يواصل اليهود الخروج ..
المنفعة الصهيونية
كانت اسرائيل بين الدول الأخيرة التي قررت مقاطعة الألعاب الأولمبية في موسكو ٬ رغم انه كان من المتوقع ان تكون أول الدول المقاطعة بحكم تبعيتها للولايات المتحدة وعدائها المعلن للاتحاد السوفييتي ٬ لا شك ان الهدف من الموقف الاسرائيلي المتردد المعبر عن الانتقاد للولايات المتحدة ٬ هو التلويح للاتحاد السوفييتي بعدم تقليص خروج اليهود . وفقط بعد اللقاء بالسفير الأميركي في اسرائيل وافقت اللجنة الأولمبية الاسرائيلية على أخذ قرار بمقاطعة الألعاب ٬ ملمحة ومان هذا القرار لم يؤخذ طواعية !
تنتمي الشخصيات الشعبية في اسرائيل التي طالبت منذ البداية بمقاطعة الألعاب الأولمبية ٬ الى المعسكر الصهيوني المتطرف وهذا المعسكر كان قد قرر من زمان ان “المنفعة الصهيونية” من الصفقة غير المكتوبة مع الاتحاد السوفييتي ضئيلة لأن أغلبية اليهود الذين يخرجون من هناك لا يأتون الى اسرائيل ٬ واستشاطت هذه الأوساط غضبا حيال تردد اللجنة الأولمبية الاسرائيلية ٬ هذه الأوساط مستعدة الآن للقيام باي عمل لكي يسد الاتحاد السوفييتي أبواب الخروج في وجه اليهود . والأقوال الكثيرة الواردة في الفترة الأخيرة حول “تقليص تيار المهجرين” من الاتحاد السوفييتي هي الدليل الأول على الانتصار الممكن للخط الصهيوني المتطرف المستعد بأن يضحي بحق هجرة يهود الاتحاد السوفييتي الى اسرائيل ٬ لأنهم يستخدمون هذا الحق للسفر الى الولايات المتحدة !
“اذا عرض السوفييت علينا مليون يهودي مقابل التنازل عن جميع المناطق ٬ وجب قبول هذا العرض”
وقد انضم مؤخرا الى هذا الحوار الدائر بين الصهيونيين المتطرفين والمعتدلين طرف جديد . ففي الحلقة الدراسية حول “استراتيجية شاملة لاسرائيل” التي أجراها معهد ديفيس لعلاقات الدولية ٬ التابع للجامعة العبرية في القدس ٬ في 5 حزيران 1980 ٬ قال رئيس الاركان العامة السابق مردخاي غور انه “يجب التنازل عن مناطق ٬ وحتى الذهاب الى حلول وسط في مسألة الأمن ٬ من أجل تجميع الشعب اليهودي في البلاد في ظروف السلام” وأعرب عن رأيه في انه “اذا عرض السوفييت علينا مليون يهودي مقابل التنازل عن جميع المناطق ٬ وجب قبول هذا العرض” (“معاريف” 6-6-1980) . طبعا لا يقصد بذلك مردخاي غور صفقة يسمح السوفييت بموجبها لمليون يهودي راغب في الخرود ان يهاجروا . غور يقصد صفقة من نوع آخر يضطر في نطاقها مليون يهودي سوفييتي الى الهجرة الى اسرائيل : والا فماذا أفاد الصهاينة في وصفتهم ؟