صباح الخميس 3 الجاري (تشرين الأول) انتحر في باريس المفكر اليهودي المعادي للصهيونية ايلي لوبيل ووري جثمانه الثرى بعد ظهر الاثنين الماضي بحضور جمع من أصدقائه بينهم ابراهيم صوص ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في فرنسا . هنا اثنان من معارفه يكتبان عنه :

*     *     *

ايلي لوبيل مع ابنه الوحيد

 

ولد ايلي لوبيل في برلين عام 1926 من عائلة يهودية بولونية الأصل وبقي في المانيا حتى 1938 حين تصاعدت موجة العداء لليهود .

من المانيا سافر لوبيل مع عائلته الى بولونيا , لكن الموجة امتدت ايضا الى هناك , واستطاع عام 1939 هو ووالداه الهرب في آخر لحظة الى فلسطين وقضي على كل عائلته على يد النازيين في بولونيا .

في مطلع شبابه دخل ايلي احد الكيبوتزات لكنه ما لبث ان طرد منه .

انتسب عام 1954 الى الحزب الشيوعي الاسرائيلي وبقي فيه حتى 1962 عندما انقسم الحزب وأسس لوبيل ورفاقه “المنظمة الاشتراكية الاسرائيلية” المعروفة باسم “ماتسبن” (البوصلة) , التي ضمت كل اجنحة اليسار الاسرائيلي المتطرف .

في الخمسينات جاء لوبيل الى فرنسا وتابع دروسه الاقتصادية فيها وأظهر بوادر تفوق جعلته يشارك منذ ذلك الفترة , في بناء جهاز المحاسبة الوطنية الفرنسي .

من 1960 الى 1966 عمل في مالي كمستشار في المصرف المركزي الى جانب سمير أمين .

وشارك بعد عودته الى فرنسا في بناء “المدن الجديدة” حول باريس . ثم تابع ابحاثا طويلة في مجالات اقتصادية عدة , جعلته من أشهر الاقتصاديين الاسرائيليين .

كان أول اسرائيلي يظهر الى جانب فلسطينيين في مهرجانات علنية لدعم حق الشعب الفلسطيني في تقرير حق مصيره . فمنذ 1968 شارك مع ابراهيم صوص الذي كان يومها رئيسا لاتحاد الطلبة الفلسطينيين , في نشاطات سياسية عديدة .

أصدر في فرنسا مجلات نظرية تتناول قضايا الصراع العربي – الاسرائيلي والوضع السياسي في المنطقة , منها “اسراك” (6 أعداد) و”خمسين” التي صدر منها أربعة أعداد بالفرنسية وعددان بالانكليزية .

وكانت تحتوي هذه المجلات على مقالات وتحليلات لمفكرين متعددي الجنسيات والانتماءات .

أهم كتاباته , المقدمة التي وضعها للطبعة الفرنسية من كتاب صبري جريس “العرب في اسرائيل” تحت عنوان “اليهود وفلسطين” والتي تعتبر من أهم ما كتب في الموضوع .

الجانب الاغنى في شخصيته هو اهتماماته الأممية . فلقد قادته تجربته السياسية من اسرائيل الى فرنسا وكوبا ومالي والهند وانكلترا وتابع , عن كثب , كل التحولات السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط , مبقيا طوال تنقلاته على صلات قوية مع رفاقه في منظمة “ماتسبن” التي انقسمت على نفسها بضع مرات في أواخر الستينات وأوائل السبعينات .

وجه الكثير من نشاطه في اتجاه تعريف الرأي العالمي على حقيقة النظام الصهيوني وممارساته , مما عرضه مرارا الى اعتداءات من المخابرات الاسرائيلية واليهود المتعصبين , أصيب في أحدها بجروح خطرة .

وكان يرى ان المخرج الوحيد للازمة يقضي بتوجيه جهود الثوريين العرب والاسرائيليين للقضاء على كل الانظمة الموجودة في المنطقة , لذا وثق علاقاته مع العديد من اليساريين العرب في باريس وغيرها .

واضافة الى الاعتداءات المباشرة عليه تعرض لوبيل مرارا الى حملات اعلامية كونت عنه , في أوساط الرأي العام الاسرائيلي , فكرة سلبية ادت الى عزلته , مثله مثل جميع المناضلين اليهود المعادين للصهيونية .

بعد حرب 1973 , ساهم لوبيل في توحيد مواقف رفاقه وموقف المقاومة الفلسطينية , لكن هذا التقرب لم يدم طويلا لان المقاومة اختارت خطا وطنيا يهدف الى اقامة دولة فلسطينية , بينما كان يرى لوبيل الشكل الذي يتم فيه العمل من أجل اقرار حقوق الشعب الفلسطيني وتحريره يصب في مصلحة البورجوازيات الفلسطينية والعربية .

ومع الوقت أخذ المأزق السياسي والعزلة التي عاشها ينعكسان على وضعه الشخصي , ثم جاءت حرب لبنان لتؤكد له ان لا آفاق امام العمل الثوري في المنطقة في هذه المرحلة , خاصة بعد التحولات التي طرأت على الخط السياسي للمقاومة الفلسطينية .

فجر الخميس 3 الجاري , في منزله , قطع شرايين يديه بينما كانت زوجته كريستين وابنه الوحيد جوناتان (ثلاث سنوات ونصف) في الغرفة المجاورة , فمات منهيا يأسه من امكانات التغيير في المنطقة .

ووري جثمانه الثري بعد ظهر الاثنين الماضي في الجناح المسيحي من مقبرة بانيو – باريس (لم يوجد له مكان في الجناح اليهودي) في حضور جمع من أصدقائه الذين أتوا لتوديعه من مختلف أنحاء العالم .

ولقد القى ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في فرنسا السيد ابراهيم صوص كلمة أشاد فيها بأعمال لوبيل ثم تكلم بعده رفيقه موشيه ماخوفر أحد مؤسسي “ماتسبن” .

غياب لوبيل الذي خدم القضية الفلسطينية بشجاعة طوال حياته سيترك فراغا في الحركة اليهودية المعادية للصهيونية التي تواجه مصاعب ضخمة . فهؤلاء اليهود الذين ولد بعدهم في اسرائيل والذين لا يبلغ عددهم بضع مئات يعيشون معزولين داخل اسرائيل وخارجها وفي الوقت نفسه ينظر العالم العربي اليهم نظرة حذر بالغ .

هذه العزلة التي عاشها لوبيل هي أقسى ما في حياته . ويبقى انتحاره عملا راقيا في زمن كله انحطاط .

سمير الدويمي
النهار العربي والدولي , 21 تشرين الأول / أوكتوبر 1979
alnahar

غدا , الماضي – قصيدة بقلم عبد القادر جنابي , كتبت تأثرا بخبر موت صديقه ايلي لوبيل