كتبت هيئة تحرير “متسبين” في العدد الأخير رقم 85 ‒ 86 : “كاشتراكيين ثوريين فاننا لا نرى أية ضرورة لمعارضة تسوية برجوازية بين اسرائيل والعالم العربي عامة أو مصر خاصة ٬ تحت رعاية الولايات المتحدة ٬ ولكن بتوفر شرط واحد : ان تكون هذه عملية تجعل أيضا الوجود الفلسطيني قوميا وانسانيا طبيعيا ٬ على الأقل وفق المعايير المألوفة حاضرا ٬ أي : الاعتراف بحقوق الفلسطينيين الأساسية في تقرير المصير والمشاركة المتكافئة في عملية المنطقة بأسرها” .

المقصود من هذا الكلام واضح . اذ اننا كاشتراكيين ثوريين لا نرى ثمة سبب لمعارضة تعايش سلمي بين أعدائنا الطبقيين والسياسيين ٬ النظامين في مصر واسرائيل ٬ وذلك كبديل لقيام هؤلاء الأعداء بدفع حلفائنا الطبقيين والسياسيين (الجماهير الاسرائيلية والمصرية) الى الاقتتال في سبيل مصالح ليس لهم . بيد انه قد غاب عن هيئة التحرير اننا كاشتراكيين ثوريين لا نرى ثمة سبب أيضا لتأييد تطبيع كهذا .

ان حقيقة ادراك الطبقة البرجوازية الحاكمة في مصر اضطرارها ازاء الخطر الداخلي ٬ الى التماس التعزيزات من تحالفها مع العدو ‒ الصديق الصهيوني الخارجي ٬ تثبت صحة فرضيتنا المبدئية وهي ان مصلحة البرجوازية الطبقية العليا تتطابق لدى الناطقين باسمها مع “المصلحة القومية” .

ان سلوك البرجوازية المصرية على هذا النحو لا ينبغي ان يتسبب لا في معارضتنا ولا في تأييدنا . ومثلما كان هناك مجال امام الاشتراكيين الثوريين لاستغلال أحوال الحرب من أجل ابراز ضرورة ثورة اجتماعية تقضي على الأنظمة اياها ٬ فهنالك مجال أيضا لاستغلال ظروف السلام في سبيل الغاية ذاتها .

وأخطر من ذلك هو ما تضمنته عبارة “تسوية برجوازية” في مقال هيئة التحرير المذكور . أولا ٬ كاشتراكيين ثوريين فاننا نرى ضرورة أية ضرورة لمعارضة تسوية برجوازية وذلك لأننا نناضل ضد سلطة البرجوازية ومن أجل ثورة اشتراكية تقوض هذه التسوية البرجوازية وهذا التطبيع البرجوازي من الأساس . اننا لسنا من أجل “سلام” دائما وبأي ثمن كان ! لسنا مثلا من أجل سلام بين شعب مضطهَد وبين مضطهِديه . ولا من أجل سلام بين البرجوازية والطبقة العاملة ٬ سلام مرتكز على مواصلة الاستغلال . اننا من أجل نضال بل حرب بين طبقة العمال والبرجوازية قضاء على الاستغلال .

begin-sadat-lebanon - 87

لكنه مستحيل ان يسود حتى تطبيع برجوازي بين دولة اسرائيل الصهيونية وبين النظام المصري . لأن دولة اسرائيل لن تصبح دولة برجوازية “عادية” وان انسحبت كارهة من جميع الأراضي التي احتلتها عام 1967 ٬ ووافقت مرغمة على قيام دولة فلسطينية في الضفو والقطاع . في مثل هذه الحالة غير المرتقبة في المستقبل المنظور ٬ ستحفظ اسرائيل طابعها الصهيوني . وكما متبنا في مبادئ منظمتنا الأساسية “متسبين” :

“اننا نعتبر الصهيونية مشروعا استيطانيا كولونياليا يجري تنفيذه على حساب الجماهير العربية (وفي طليعتها الشعب العربي الفلسطيني) تحت رعاية الاستعمار وبالشراكة معه كما ان الصهيونية تتنافى ومصالح جماهير العاملين المستغَلة في اسرائيل بوضعها هذه الجماهير في تناقض تأريخي مع جماهير المشرق العربي بأسره . ان دولة اسرائيل في شكلها الراهن الصهيوني ليست وليدة المشروع الصهيوني فحسب وانما أداة لمواصلته وتوسيعه ” .

ان في الكلام “تسوية برجوازية” بين النظامين الصهيوني والمصري تجاهل لطابع الصهيونية الاستيطاني ٬ ودورها الخاص في خدمة الامبريالية (اني وان كنت واثقا ان هيئة التحرير لم تقصد ذلك ٬ فانه لا يمكن فهم كلامها على غير هذا الوجه) . من يتكلم عن “تسوية برجوازية” أو “تطبيع برجوازي” يلمح في الواقع الى نموذج العلاقات السائدة بين المانيا الغربية وفرنسا ٬ أو بين السود والنرويج ٬ أي علاقات سلمية بين دول ذات طابع اجتماعي (رأسمالي) متماثل ٬ تعيش في آن واحد تنافسا دائما في السوق الداخلي وتنافسا امبرياليا متصلا في السوق الخارجي . ما سوف يحدث بين مصر واسرائيل في المستقبل المنظور لن يكون من هذا القبيل . فنظاما هذين البلدين متباينان اجتماعيا .

لن يضمحل طابع اسرائيل الصهيوني ويتلاشى على اثر انسحابها العسكري المرتقب . والدليل تصعيد وتيرة مخططات “تهويد الجليل والنقب” . لقد قلنا في بيان منظمتنا الصادر في تشرين ثاني 1974 ٬ “القضية الفلسطينية ‒ هنا والآن” :

“ان اتفاقا دبلوماسيا لن يغير بل سيوطد بقاء الشرق العربي ميدانا للاستغلال الامبريالي ٬ وكل أهداف هذا الاتفاق هو زيادة الاستغلال وتوطيده . وضمن مجال الاستغلال هذا ٬ فان اسرائيل هي الدولة الوحيدة غير المستغَلة اقتصاديا , بل العكس فهي تحصل على منافع اقتصادية وعسكرية مقابل ما تؤديه للامبريالية الأمريكية من خدمات عسكرية وسياسية . ان هذه العلاقات الأساسية بين الشرق العربي والامبريالية ٬ وكذلك العلاقات بين اسرائيل والامبريالية , لن تتغير اليوم ولا في الغد ٬ ان تغييرا أساسيا لهذه العلاقة قابل فقط ٬ حسب رأينا ٬ بطريقة واحدة – الطريق الثوري”.

التغيير داخل المعسكر الصهيوني

بعد انتخابات أيار 1977 ٬ كتبنا في بيان المنظمة “حول الوضع في اسرائيل والمنطقة” (متسبين العدد 84 ٬ نيسان 1978) ان تسلم الليكود السلطة عبّر عن “تحول في ميزان القوى داخل الطبقة الحاكمة في اسرائيل : فالبيروقراطية التي ضعفت اخلت مكانها في السلطة للبرجوازية التي قويت” . لم تكن وقتئذ ضرورة للتأكيد ان البيروقراطية الصهيونية التي ضعفت اخلت مكانها في السلطة للبرجوازية الصهيونية التي قويت . كان ذلك تغيير في ميزان القوى داخل المعسكر الصهيوني ٬ ولم يكن ذلك نشؤ قوة خارج هذا المعسكر .

خلال أكثر من أربعين عاما كانت حركة العمل الصهيونية التيار القيادي والحاكم في الصهيونية ودأبت هذه الحركة في دعايتها على الاقناع انها أيضا الحركة الوحيدة وأن لا صهيونية دونها . من تعلم النضال ‒ فكريا وسياسيا ‒ ضد حركة العمل الصهيونية قد يخطئ الآن ظانا ان البرجوازية الحاكمة في اسرائيل لم تعد صهيونية بعد . ذلك لأنها تمارس سياسة صهيونية تختلف عما تعودنا مهاجمته من سياسة .

اذن علينا ان نذكر انه خلال خمسين عاما ٬ أي منذ بدأ الاستيطان الصهيوني في البلاد وحتى مطلع الثلاثينات ٬ كانت حركة العمل الصهيونية تشكل أقلية داخل الحركة الصهيونية ٬ اذ هيمنت العناصر البرجوازية على الحركة الصهيونية فكرا وممارسة . ألم تكن الصهيونية تحت قيادة هرتصل صهيونية ؟ ألم تكن كذلك تحت قيادة فايتسمان ؟ان الصهيونية لا تتطابق مع مبادئ حركة العمل الصهيونية وممارستها ولم تتطابق معها ابدا .

لا يزال المجال متاحا للتساؤل : هل توشك البرجوازية الصهيونية في اسرائيل ٬ اليوم أو غدا ٬ ان تنبذ مبادئ الصهيونية الأساسية ؟ ألعل من الممكن ٬ ومنذ الآن ٬ ملاحظة بواكير هذه النزعة في أوساط البرجوازية الاسرائيلية ؟

لقد حاول أوري أفنيري التعبير عن هذه النزعة ٬ خلال سنوات الستين ٬ الا انه قد فاز مؤخرا بشهادة صهيوني من محكمة اسرائيلية . ولم يكتف بذلك بل اعتبر نعته “لا صهيونيا” طعنا به وتشهيرا وقاضى “مهينيه” بالقذف والتشهير . ولأن كانت لأفنيري نية لترك المعسكر الصهيوني في الستينات فقد عاد اليه بعد حرب حزيران 1967 ٬ اذ صوت في الكنيست مؤيدا ضم القدس العربية المحتلة الى اسرائيل . ومنذئذ وأفنيري صهيوني مخلص يسعى مثابرا لكسب اعتراف الشعب الفلسطيني وممثليه بحق وجود الدولة الصهيونية .

*

هنالك تعبير آخر في أوساط البرجوازية الاسرائيلية ٬ صهيوني أيضا ٬ الا انه أحدث عهدا وأشد اصالة من أفنيري ٬ ويتمثل في جماعة “شينوي” (التغيير) وأبرز متكلميها رجل الصناعة ستاف فرتهايمر . فقد كرر في مقال له في “معاريف” ٬ (2/4/1979) ما قاله اثناء النقاش في الكنيست حول توقيع اتفاقية السلام الاسرائيلية ‒ المصرية ٬ اذ جرؤ على التشكيك في احدى مقدسات الصهيونية وهي الاستغلال السياسي لذكرى ستة ملايين من اليهود الذين قتلوا على أيدي النازيين : “هل من غاية لمواطني اسرائيل من وراء حياتهم أم انهم يعيشون بفضل الصدمة القومية المستحضرة في “يد فاشيم” ؟” وكان فرتهايمر مستعدا للتشكيك حتى في مقولة “الحقوق التأريخية” وهي أيضا من مقدسات الصهيونية فكتب : “من الجائز الفرضية ان حدود الدولة ستصبح نهائية بعد اتفاقية السلام ٬ وعندها أيضا سينتهي الصراع الذي استمرّ عشرات السنين على الأرض والمياه” . ليس في هذا الكلام أي تنازل عن مواصلة التوسع الصهيوني . فها هو فرتهايمر نفسه يؤكد في سياق مقاله ان اسمى مثله هو صيانة الأهداف الصهيونية : “ان مضاعفة السكان خلال جيل واحد يجب ان يكون اسمى القيم في واقع دولة اسرائيل الجديد . هذه الضمانة العملية الوحيدة لوجودنا” .

والا خرق فقط سيحسب ان فرتهايمر يقصد مضاعفة السكان عامة ٬ انه يقصد بالطبع مضاعفة السكان اليهود ٬ كمثل سام ٬ وهكذا ينكشف كابن الحركة الصهيونية البار . ستاف فرتهايمر صهيوني ويعتقد ان بالامكان نيل الأهداف الصهيونية وتجسيدها بنجاح أعظم فيما لو منحت البرجوازية الصهيونية مزيدا من الحرية للنمو والربح . وكسلفه من البرجوازيين ‒ الصهيونيين في مطلع هذا القرن ٬ فهو ليس من أنصار “العمل العبري” وعلى استعداد لاستخدام العرب ٬ الا انه يؤثر ان يكون العمال العرب مصريين لا فلسطينيين . ولديه نبؤة صهيونية مشهورة من أجل الفلسطينيين : “من الممكن استعادة انجازات الزراعة الباهرة لدولة اسرائيل في سنوات الخمسين . وستحل قرى الورد الصناعية محل كيبوتسات ومستوطنات الفترات السابقة في جميع أنحاء البلاد” . والأراضي ٬ أملاك مئات الألاف من العرب الفلسطينيين التي صودرت واستغلت خلال “الانجازات الزراعية” في الخمسينات ٬ سوف تستغل أيضا في خدمة نبؤة “البرجوازي المتنور” فرتهايمر اياه لتحقيق حلمه في مضاعفة السكان اليهود ؟ هذا وفي الوقت الذي تفتح فيه أبواب البلاد في وجه هؤلاء اليهود ٬ فانها تظل موصدة في وجه مئات الألاف من اللاجئين الفلسطينيين الذين قامت على حسابهم البرجوازية الصهيونية أيضا .

يرى فرتهايمر في حلمه مشاريع صناعية تقام على الحدود الاسرائيلية ‒ المصرية ويستخدم فيها اسرائيليون ومصريون على السواء لكن ليس على قدم المساواة ٬ حاشا لله ! وستخلق هذه الصناعة التحديات “للشباب العربي الذي لا يزال يرهب اليهود ٬ الا انه سيرغب في التقرب منهم والاستعانة بمستواهم التكنولوجي اندماجا في العلم العصري” ٬ على حد قوله . هل من فرق بين هذا “العون” وبين ذلك “العون” الذي اقترحه زعماء الصهيونية على العرب طيلة الوقت ؟

النتائج الخطيرة

ان فتح الجدود امام عمال مصريين سيجرّ نتائج خطيرة وربما غير متوقعة على أبناء الشعب العربي الفلسطيني . طبعا سوف تفضل البرجوازية الصهيونية استخدام مصريين على فلسطينيين . وبينما سيعتبر المصريون “غرباء” وهكذا سيشعرون ٬ سيشعر الفلسطينيون المعتبرون “غرباء” انهم أبناء البلاد .

في الوقت الذي سيكون المصريون أقل انخراطا في النشاط السياسي طبقيا وقوميا ٬ فانه لا يمكن توقع شيء من الفلسطينيين سوى تصعيد مساهمتهم في العمل السياسي . واذا ما قام العمال المصريون باستبدال العمال الفلسطينيين فسيضطر هؤلاء الى البحث عن المعاش في مكان آخر . وهكذا فانه سرعان ما يتضح ان سياسة فرتهايمر “الانفتاحية المتنورة” وسياسة صاحبه وزير العمل والرفاهة يسرائيل كاتس ٬ سوف تشكل فصلا آخر في تأريخ اجلاء أبناء الشعب العربي الفلسطيني عن أراضيهم سابقا وعن أماكن عملهم حاضرا .

*

ان أية دولة برجوازية “عادية” تستخدم عمالا “غرباء” لا تبتغي من استخدامهم شيئا سوى الربح ٬ أما البرجوازية الصهيونية فلا تضع نصب عينها الربح فحسب ٬ بل انها تعتبر نفسها مرتبطة في مصيرها الى حياة وموت بالصهيونية . ومع مستهل الانفراج بين الصهيونية والأنظمة البرجوازية العربية تنفتح في وجه الصهيونية آفاق اقتصادية واعدة ٬ دون ان تضطر الى وضع مبادئها على محك التجربة .

طالما استمرت دولة اسرائيل في اعتبار الفلسطينيين “غرباء” في أرضهم ووطنهم ٬ وفي الحيلولة دون تجسيد حقوقهم الانسانية والقومية ٬ بما في ذلك حق اللاجئين في العودة الى بلادهم والتمتع بحقوق متساوية وكاملة ٬ فانها ستظل ليس وليدة المشروع الصهيوني فحسب ٬ بل أداة لمواصلته وتوسيعه ٬ ستظل دولة صهيونية ٬ وليس بأي حال من الأحوال دولة برجوازية “عادية” .