(نشر في “متسپين” ، العدد ٨٥–٨٦ ، شباط-آذار ۱٩٧٩)
قامت حركة العمل الصهيونية ، على اختلاف تياراتها ، بدور حاسم في تجسيد الصهيونية وإيصالها الى وضعها الراهن ۰ وشكلت ايديولوجية هذه الحركة اداة هامة ومناسبة جدا في حينها لتحقيق أهداف الصهيونية تحت لواءها ۰ وأضفت هذه الايديولوجية “الاشتراكية” ، “العمالية” ، قناعا تقدميا على الممارسة الصهيونية ، سهل عليها القيام من ورائه بعمليات الاستعمار الاستيطاني ، وسلب الأراضي والتفرقة العنصرية ۰
كانت هذه الايديولوجية مؤاتية لفترة البداية ٬ فقد مكنت “الطلائعية” المشحونة بأفكار مشاعية ، تجسيد الصهيونية في ظروف رأسمال قليل ومواجهة مع أهالي فلسطين (انه من الأهمية بمكان التأكيد ان حركة العمل الصهيونية هيمنت على الصهيونية ، فقط بعد ان رسخ الاستعمار الاستيطاني الكلاسيكي – بتمويله لكن بشكل محدود ، ولاعتبارات سياسية ، على أيدي الرأسمالي روتشيلد – وأصبح يشكل قاعدة لتشغيل “الطلائعيين” الأولين) ۰ وشكلت هذه الايديولوجية درعا تقدميا واقيا لضمير المستوطنين “الاشتراكيين” اذ اقنعوا أنفسهم انهم في الواقع انما يخوضون حربا طبقيا ضد الأفندية العرب ويحررون بذلك الفلاحين المستأجرين من نيرهم۰
لقد فرض واقع البلاد الاقتصادي – الاجتماعي – ولا تقل عنه أهمية في ذلك البيئة التي نشأت فيها الحركة الصهيونية – في فترة الانتداب البريطاني تفوق حركة العمل الصهيونية في أوساط الجمهور اليهودي في فلسطين ، وكان عاملا في ترويج مبادئها العقائدية ۰
مع إقامة دولة إسرائيل وما صحبها من هجرة جماهيرية ، خاصة من الأقطار العربية ، طرا تحول عميق على واقع البلاد الاقتصادي – الاجتماعي ، اذ التحقت جماهير المهاجرين من الأقطار العربية بطبقة العمال في إسرائيل ودفعت بذلك زملاءها من العمال المهاجرين من بلدان أوروبا ، الى أعلى في السلم الاجتماعي ۰ وأدى ارتقاء كثير من أنصار حركة العمل الصهيونية السلم الاجتماعي الى تغيير حتمي في ايديولوجية هذه الحركة ، وبرز ذلك التغيير بتعاظم قوى التيارات “الرسمية” ، هذا في الوقت الذي أخذت فيه التيارات “العمالية” ، “الطبقية” و”الاشتراكية” تضعف تدريجيا وباستمرار ۰ لقد صاغ بن غوريون شعار “من طبقة الى شعب” ، وكان قصده من وراء ذلك الزام حركة العمل الصهيونية في الكف عن التعبير عن مصلحة الطبقة العاملة اليهودية (كما اعتبرت نفسها هذه الحركة حتى ذلك العهد) واعتبار نفسها معبرة عن المصلحة “الرسمية” ، عن عموم المجتمع اليهودي ، عن “الشعب” ۰
لكن ما حدث كان النقيض من ذلك ۰ فقد شكلت أيديولوجية “الرسمية” دليلا على تحويل حركة العمل الصهيونية من حركة تؤدي دور الزعيم والقائد لعموم الحركة الصهيونية وغالبية الجمهور اليهودي العظمى في البلاد ، الى حركة تمثل عمليا مصلحة محددة نسبيا لقطاع واحد فقط من المجتمع والاقتصاد الاسرائيليين ۰ ذلك هو القطاع البيروقراطي الهستدروتي ۰ وأصبحت حركة العمل الصهيوني المعبرة من مصالح هذا القطاع الرأسمالية ، وليس مصالح المستخدمين فيه ۰
ان عملية تعاظم قوى البرجوازية “الخاصة” (المتمثلة باتحاد أرباب الصناعة والغرف التجارية) على حساب القطاع الهستدروتي والحكومي ، كسبت زخما عظيما في أعقاب حرب ۱٩٦٧ ۰ وكما بين عمانوئيل فرجون في بحثه عن العمال الفلسطينيين في اسرائيل (“العمال الفلسطينيون – جيش احتياط اقتصادي” ، سلسلة “أوراق حمراء” عدد ٥ ، اصدار المنظمة الاشتراكية في اسرائيل – متسبين ، مايو ۱٩٧٨. النص باللغة الانجليزية) ، فقد زود عشرات ألوف العمال الفلسطينيين البرجوازية بأيدي عاملة رخيصة متنقلة وغير تابعة تنظيميا للهستدروت القطاع المنافس (للبرجوازية الخاصة) ۰ فكسب بذلك هذه البرجوازية قدرا معينا من الاستقلالية والمقدرة 5444على المناورة ازاء القطاع المنافس ۰ اذن لقد عبرت انتخابات مايو ۱٩٧٧ عن التحول في ميزان القوى في أوساط الطبقة الحاكمة في اسرائيل: “لقد أخلت البيروقراطية التي ضعفت مكانها للبرجوازية الصاعدة” (“الوضع قي اسرائيل والمنطقة” – بيان المنظمة الاشتراكية في اسرائيل – متسبين ، مجلة “متسبين” عدد ٨٣ ، نوفمبر ۱٩٧٧) ۰
ومن الجدير ان التغيير الذي طرأ على تركيب الطبقة العاملة الاسرائيلية منذ سنوات الخمسين ، انعكست اثره في ولاء هذه الطبقة السياسي ۰ اذ أخذ العمال اليهود الجدد يعتبرون البرجوازية قيادتهم السياسية ۰ وتقلص عدد العمال الموالين لحركة العمل الصهيونية ، بينما التحق قسم كبير منهم في الواقع بجهاز البيروقراطية الهستدروتية ، ولم تفلح الدماغوغية الاجتماعية لقادة حركة العمل الصهيونية في تضليل طبقة العمال الجديدة لوقت طويل ۰
لقد انهت حركة العمل الصهيونية دورها التأريخي في خدمة الصهيونية ۰ منذ قيام الدولة تدفقت رساميل كثيرة على البلاد ۰ في البداية على شكل “تعويضات” المانية والتي أنقذت اسرائيل من فترة التقشف ، وبعدها العون الأمريكي الهائل مضافة اليه تبرعات يهود الولايات المتحدة (والمعفية هناك من ضريبة الدخل) ۰ ان النقص في الأموال والذي أضطر الحركة الصهيونية الى التسلح بأيديولوجية وممارسة “طلائعيتين” تعاونيتين ، هذا النقص لم يعد قائما ۰ ان وفرة الرأسمال والواقع الجديد حاليا فرضا أيديزلزجية جديدة ۰
وفقدت قيم مبادئ “الاشتراكية” الصهيونية ، الدعائية ، كثيرا من أهميتها ۰ في أوروبا تبرجزت الاشتراكية – الديمقراطية نهائيا ، وأما في الولايات المتحدة فقد كان “الرأي العام المتنور” دائما مرتابا من أية أيديولوجية اشتمت منها رائحة “الاشتراكية” ۰ والآن كان كافيا لاسرائيل ان تظهر “كديمقراطية وحيدة في الشرق الأوسط” ، دون حاجة الى صبغ هذه “الديمقراطية” بقليل من الطلاء الأحمر ۰وللتكلم عن ديمقراطية من هذا الصنف ، ليست هنالك ضرورة لوجود حركة عمل صهيونية وأقوالها “الاشتراكية – الديمقراطية” وكيبوتساتها ۰ ان بيغن يقوم بهذا الدور بنجاعة لا تقل عن نجاعة الحركة اياها ۰
وكلما تغير الواقع الاقتصادي-الاجتماعي وأجبر المعبرين عنه تغيير مفاهيمهم أو اخلاء الميدان ، بقيت فئة صغيرة أو كبيرة ترفض الاعتراف بالواقع المتغير ، وتتصلب في التشبث بعقيدة لا تلائم عصرها بعد ۰
ان هذه الفئات بدافع مغارصتها التغيير واصرارا منها على دفع التأريخ القهقري ، مستعدة أحيانا للتعاون مع ثوريين يرفضون تثبيت الواقع الناشئ ويتطلعون الى دفع عملياتها قدما ۰ ولهذا نجد في التأريخ احلافا غريبة نشأت أو تجلت عمليا بين منافسي الرأسمالية الصاعدة على اختلافهم: بين النبلاء والاكليروس الطامحين الى حماية امتيازاتهم وبين الاشتراكيين ، بين بسمارك ولاسال ضد البرجوازية الألمانية ۰
على الاشتراكيين التيقظ والاحتراس من أحلاف انتهازية كهذه ۰ فحتى وان كان العدو مشتركا ، فليس دائما عدو عدوي هو حليفي ۰ وعلينا ان نعمل بهذا المبدأ هنا في البلاد أيضا ۰ فشعارات حركة العمل الصهيونية مثل “احتلال الأرض” ، “عمل يهودي” ، “انتاج يهودي” ، ليست أكثر تقدما وديمقراطية من شعارات الحركة التحريفية (أي اليمين الصهيوني) ۰ ولا تقل عنها عنصرية ۰ وكذلك شعار المحافظين من أوساط حركة العمل الصهيونية حاليا “دولة يهودية ديمقراطية” (أي دولة صهيونية صغيرة مع أقل ما يمكن من العرب) ۰ هذا الشعار لا يقل عنصرية ، من حيث المبدأ ، عن أطماح مناحيم بيغن وسمحا ايرليخ ۰
لكن محافظو حركة العمل الصهيونية يرفعون مطالبهم الانية هذه باسم السعي للرجوع الى الماضي الجميل والرومانتيكي ، الذي يسمونه “أرض اسرائيل الصغرى”! أجل “أرض اسرائيل الصغرى” تلك التي باسمها طرد مئات الألوف من سكان البلاد ونهبت ممتلكاتهم ، تلك التي باسمها هدمت ٣٨٥ قرية ومدينة ، التي باسمها شرع قانون العودة العنصري ، وتم طرد الفلاحين الفلسطينيين من أراضيهم ، “دونم هنا ودونم هناك” قبل ۱٩٤٨ ، و”عشرة ألاف دونم هنا وعشرة ألاف دونم هناك” بعد ۱٩٤٨ ، تلك التي باسمها تم تبرير ممارسات الاضطهاد والتفرقة والحروب العدوانية ۰۰۰
حتى وان وجدنا أنفسنا ، أحيانا ، وكاننا بمعسكر واحد سوية مع بعض معارضي حكومة البرجوازية الاسرائيلية بقيادة بيغن ، فعلينا الاحتياط من الوقوع في الوهم واعتبار عدو عدوي صديقي ۰ هؤلاء يودون العودة الى واقع تأريخي بالي ، ونحن نتطلع الى واقع جديد يختلف تماما ۰ من هذه الناحية يعتبر “اليسار” الصهيوني حركة رجعية بالية ، وعلينا ان نحترس أشد الاحتراس من ان تعلق بنا ، ولو ذرة ، من “يسارية” هذا “اليسار” ولا من رومانتيكيته الزائفة ۰