مليون من المواطنين يتظاهرون في طهران ‒ الموت للشاه ٬ يعيش الخميني ! اعتقال المئات من عمال النفط لاستجوابهم على أيدي الشرطة والجيش ٬ بينما يواصل آلاف العمال اضرابهم رغم أوامر الخميني الموضحة بايقاف الاضراب . جماهير حاشدة تتواجد في الشوارع ٬ تتظاهر٬ تهدم بنايات الشرطة وتطلق سراح السرى السياسيين . آلاف الحرفيين وصغار التجار في بازلر طهران الشهير ‒ يتظاهرون ويشلون الحياة وينظمون صندوقا للاضراب . جماهير الطلبة في الجامعات يقومون بتحطيم تماثيل الشاه الضخمة بأسلوب نهجي . جماهير الطلبة ٬ جماهير العمال ٬ جماهير ٬ جماهير !
لقد بدا في الماضي وكأن وحشية الحكم المركزي ٬ ووسائل القمع المتطورة (التي أثبتت نجاعتها في تشيلي والأرجنتينية ٬ في هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا ٬ في عمان وتونس) والمشتملة على الغاز الميل للدموع ٬ رصاص المطاط ٬ الدبابات والتعذيب الشديد ٬ بدا وكأنها قد شلت نشاط الجماهير وعطلتها . غير أن الانتفاضة وكراهة الشاه قد غلت في صمت وخفاء ٬ وفقط بفضل يد “السافاك” (الشرطة السرية) الحديدية والرقابة الصارمة أفلح النظام في التظاهر بأن الشعب يحب الشاه ويرضى بسياسته .
“الثورة البيضاء”
في سنة 1962 أعلن الشاه “ثورة بيضاء” ٬ وكان الغرض منها اجراء اصلاح زراعي بغية خلق طبقة واسعة من الفلاحين متملكي الأرض . لقد مسّ هذا الاصلاح استقلالية أصحاب الأراضي الكبار ٬ وتم تعويض من صودرت أراضيه بأسهم في مشاريع صناعية ٬ وبذا ربط مصيرهم الاقتصادي بمصير النظام الاقتصادي .
الا أن كثيرا من الفلاحين المعدمين لم ينالوا نصيبا من الأرض ٬ اما الذين نالوا نصيبا منها فلم يقدروا على دفع ثمن الايجار للدولة ونفقات ضرورية أخرى مثل حبوب أسمدة ري ومكننة .
ووقع كثير منهم في الديون وما هي الا فترة وجيزة حتى اضطروا الى ترك مزارعهم والسعي وراء العيش في المدينة .
في مطلع الستينات بلغت نسبة سكان المدن 15 بالمائة من مجموع سكان ايران . اما اليوم فتربو نسبة سكان المدن على ال 50 بالمائة من مجموع السكان ٬ وتضاعف سكان طهران عشر مرات (من نصف مليون سنة 1963 الى خمسة ملايين حاليا) .
اذن لقد تم طرد الفلاحين دونما عنف ٬ دونما سفك دماء ٬ بطريقة “نظيفة” و”بيضاء” . وعلى اثر ذلك طرأ ارتفاع شديد على أسعار الأراضي والمنازل في المدن ٬ وبسرعة كبيرة ظهرت حول المدن ضواحي من الخشب والتنك .
لقد أدى الانتقال من الريف بأنماطه الاجتماعية ٬ الى المدينة الكبيرة الغريبة ٬ الى تفكك أطر تقليدية والى نمو شعور الغربة والعزلة . وبما أن التنظيم على أساس حرفي أو سياسي كان محظورا ٬ فقد تحول المسجد من مكان عبادة محض الى مركز اجتماعي ومنتدى سياسي .
وتوقفت الرقابة الشديدة وأخطار الاعتقالات السياسية على أعتاب المساجد ولم تتجاوزها ٬ الشيء الذي عزز مكانة الدين ورجاله ٬ ووجدت الفكرة السياسية والمعلومات حول ما يجري معقلا لها في المسجد .
ان الدور الحاسم الذي يلعبه رجال الشيعة في النضال ضد الشاه ٬ راجع في بعض أسبابه الى كون الدين وممثليه في ايران غير خاضعين للحكم المركزي السياسي . (على النقيض التام للوضع في البلدان العربية) . وفي غضون القرون الأخيرة نمت الشيعة كمركز قوة مستقل ٬ بهذا القدر أو ذاك ٬ ماليا واجتماعيا . ولم يفلح الحكم المركزي في أن يفرض عليها لا ارادته ولا ممثليه ولا مؤسساته .
الثورة التي أعقبت “الثورة البيضاء”
أفلحت الجماهير الايرانية خلال أشهر قليلة أن تقوض دعائم النظام الملكي المستحم بدماء مواطنيه ٬ النظام اياه الذي شكل منذ انقلاب ال”سي . آي . أي” سنة 1953 ٬ حجر الزاوية في منظومة السيطرة الامبريالية في المنطقة بأسرها الى جانب اسرائيل والعربية السعودية : ألحقت الجماهير اضرارا بالغة بقوة “السافاك” وسلطته .
- حطمت الجماهير وبشكل نهجي تماثيل الشاه .
- أرغمت الشاه على اقالة رؤساء الحكومات الواحد تلو الآخر .
- تسببت في الغاء صفقات سلاح بأكثر من خمسة مليارد دولار .
- كسبت زيادة أجور لجزء كبير من العمال .
- جعلت الجماهير سقوط النظام أمرا مدرجا في جدول الأعمال بعد أن كان حلما .
- وأرغمت الشاه على مغادرة البلاد !
لم تدعم أية دولة الاحتجاج الجماهيري في ايران ولم تقف من ورائه . كان للولايات المتحدة حليف واحد في ايران هو الشاه فدعمته دون تحفظ حتى بدا سقوطه أكيدا . اما الاتحاد السوفييتي فقد أنشأ في السنوات الأخيرة علاقات اقتصادية وثيقة ومربحة مع نظام الشاه والظاهر أن الاتحاد السوفييتي لم يشأ ان يعرض هذه الروابط للخطر بتأييده للمعارضة التي لم يكن نصرها مؤكدا (يجتهد السوفييت في عدم تأييد أية قوة ثورية مباشرة ٬ ما لم تفلح هذه القوة في السيطرة على الحكم واعلان ولائها لموسكو) . وثمة مجال لتخوف السوفييت من ردة فعل أمريكية ممكنة ضد المس بالمصالح الأمريكية في ايران . وأما الرئيس الصيني هوا كوو فينغ فقد رأى من المناسب زيارة ايران في غمرة المظاهرات الجماهيرية كدليل على الثقة بنظام الشاه .
واليوم لا تكاد تذكر احتفالات الذكرى الألفين وخمسمائة لتأسيس الامبراطورية الفارسية القديمة ٬ التي احتفلت بها أسرة الشاه الكبيرة قبل أكثر من ست سنوات بزهوّ عظيم . وحشد النظام لذلك مشاهير رجال العالم وأسبغ عليهم مما يدره النفط الايراني . فجزوه أن اذاعوا في عموم العرب أن ايران بلد عصري منيع واثق بنفسه !
لم يكن الانهيار السياسي سوى وليدة الاخفاق الاقتصادي كما تفطن فقط الآن الصحافة الغربية الى ذلك . ان ايران هي دليل قاطع على ان قضية البلدان المتخلفة ليست “فقرا” ولا “نقصا في الرأسمال” بل هي قضية الاستعباد الاقتصادي والسياسي للامبريالية على أشكالها .
لقد أدى نهب ثروات ايران وفتح السوق الداخلي في وجه الرساميل والسلع الغربية الى تدمير اقتصاد البلاد خاصة الزراعة . وأصبحت ايران اليوم تستورد جزءا كبيرا من السلع الاستهلاكية بعد أن كانت الى ما قبل عشر سنوات تكفي حاجيات السوق الداخلي .
لكن النضال قد ابتدأ فقط : أسقط في يد الشاه وأصبح دمية في أيدي جنوده ٬ وثبتت كراهية الجماهير له عبر كل شك والآن بدأ الصراع على السلطة .
تجابه محاولات صيانة وحدة الجيش صعوبات متزايدة . ومحاولات استغلال الفوارق القومية لا تكتسب النجاح دائما . أبناء الشعب الفارسي يشكلون 40 بالمائة من مجموع سكان ايران . والبقية تنتمي الى أقليات قومية مختلفة : أتراك ٬ أذربيجانيون ٬ عرب ٬ أفغانيون ٬ أكراد ٬ بلوتشيون وغيرهم . وعملت قيادة الجيش على نقل الجنود من منطقة الى أخرى محاولة استخدام جنود من أبناء الأقليات الصغيرة ضد الأقلية الفارسية الكبيرة ولكن النجاح في ذلك كان ضئيلا .
أما المعارضة فهي متلاحمة حول مطالبها الرئيسية رغم انقسام قيادتها بين رجال الدين والجبهة الوطنية التي تضم عمالا ويساريين كذلك .
وعلى العكس مما تروّجه الصحافة البرجوازية فان هذه المطالب تشتمل على : دقرطة الحياة السياسية ٬ حرية التنظيم ٬ حرية التعبير ٬ حل مشاكل الأراضي وحل ديمقراطي لقضايا الأقليات القومية .
ليس ثمة ديمقراطي أو اشتراكي ولا يدعم هذه المطالب وان كانت القيادة الدينية تلعب دورا قياديا في النضال من أجلها .