يبدو أن مسألة حياة أو موت تلقي الجزع على الشرق الأوسط وعلى سائر المعتمدين على ثرواته . والسؤال المطروح : هل ستوجد تسوية تضع حدا لسلسلة الحروب المتكررة وما يصحبها من عدم استقرار ؟ هل من طريقة لدمج دولة اسرائيل كدولة عادية ومتساوية الحقوق في الشرق العربي ؟ أو باختصار هل ستكون هنالك تسوية ؟
ان تزايد اعتماد الولايات المتحدة على النفط المستورد من نسبة مئوية بسيطة سنة 1970 الى أكثر من 30% حاليا ٬ وتضعضع الاستقرار النسبي في أكتوبر سنة 1973 ٬ هاذان العاملان جعلا هذه المسألة مصيرية في السنوات الأخيرة . يضاف الى ذلك عوامل كثيرة أخرى منها تحول بعض الطبقات العربية الحاكمة الى امبراطورية مالية عالمية والضرورة الناجمة عن ذلك لدمجها في الاقتصاد والبنية السياسية الرأسمالية كحليفة وليس كمحمية فحسب .
ان النصر العسكري الاسرائيلي في 1973 ٬ والذي لم يكن في الواقع سهلا ٬ وكان منوطا بالعون العسكري الأميركي الهائل من جهة ٬ واحتداد التردي الاقتصادي ‒ الاجتماعي في مصر على اثر عبور القنال المشهور من جهة أخرى ٬ دفعت نظام السادات الى شفا هوة وفرضت عليه تنازلات كبيرة لصالح اسرائيل نحو التسوية ٬ تلك التنازلات التي اعتبرت “خيانة” في أرجاء العالم العربي :
- موافقة السادات اجراء محادثات مباشرة دون أية شروط مسبقة ‒ وهذا ما أصرت عليه اسرائيل منذ 1967 ‒ وموافقته حتى المجيء الى القدس من أجل ذلك .
- موافقته التوقيع على اتفاقية سلم كاملة تتلائم والمفهوم الاسرائيلي عن “ماهية السلام” : حدود مفتوحة ٬ علاقات تجارية وثقافية ٬ علاقات دبلوماسية كاملة وسواها ..
- موافقته على اخراج الفلسطينيين وممثلهم المعترف ‒ منظمة التحرير الفلسطينية ‒ من عملية المفاوضات .
- موافقته على اخراج الاتحاد السوفياتي من عملية المفاوضات .
- تنازله كليا عن مطلب اقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع ٬ المطلب اياه الذي بدا قبل سنوات قليلة شرطا حتميا لكل تسوية .
- واليوم مستعد السادات لوضع قوات أجنبية على أرض مصر والأردن كجزء من “حزام أمن” لاسرائيل .
الحقيقة ان النظام المصري معني بتسوية ومستعد لدفع ثمن باهظ مقابلها ومستعد حتى أن يعتبر “خائنا” ٬ “مفرقا” و”غير عربي” .
الا أن معظم سهام النقد العربية لم تصوب الى برنامج السلام الساداتي ولا الى مجرد الضرورة الى تسوية ترتكز الى دمج “اسرائيل الصغيرة” ضمن حدود 1967 ٬ في المنطقة ٬ بل العكس ٬ فهذا البرنامج (قرار مجلس الأمن 242) حظي بالتأييد العام تقريبا . وفقط الطريق الذي سلكه السادات لتحقيق هذا البرنامج ٬ بواسطة تنازلات كبيرة لاسرائيل ٬ هو الذي أصبح مبعث عار .
واسرائيل أيضا قامت قيامتها وتنعصت سكينتها الامبراطورية بسبب انهيار بنيتها السياسية ‒ العسكرية التي سادت في “العصر الذهبي” 1967 ‒ 1973 . وأدى هذا الانهيار الى تعميق ارتباطها بالمنح والقروض الأميركية ٬ والى توقف الاستثمارات الأجنبية الفوري والكلي تقريبا ٬ وأضر بمستوى معيشة السكان وصعد الهجرة من اسرائيل . هذا الانهيار حدا باسرائيل الى اعادة النظر في موقفها من مسألة التسوية والى تغيير راديكالي في موقفها من مسألة السيادة على سيناء ٬ مثلا . وبمحاولة يائسة منها للتوصل الى تسوية منفردة مع مصر ٬ وافقت حكومة بيغن على اعتبار خط الهدنة لسنة 1949 ٬ في صحراء سيناء ٬ خطا للحدود الدولية بين اسرائيل ومصر .
ازاء كل هذه التطورات الدراماتيكية ٬ فان المسألة الأكثر أهمية ليست بالذات هل ستكون تسوية أم لا ؟ . بما أنه من الواضح ان ثمة شيء ينضج في الشرق الأوسط ٬ اذن يجوز ان نفرض أنه بعد أن تنضج الطبخة عدة مرات ٬ سيخرج من المطبخ في نهاية الأمر شيء يمكن ان يسمى “تسوية” ٬ رغم أنه سيكون ما زال عديم الشكل خبيث المذاق .
كما انه لا طائل من التخمينات الى أي حد ستجبر اسرائيل نهائيا على الانسحاب من الضفة الغربية ٬ فالقضايا الأكثر أهمية هي : أي شكل سوف تتخذ التسوية الآخذة في النضوج ؟ لماذا لا تفلح كل من الولايات المتحدة ٬ أوروبا الغربية ٬ اليابان ٬ مصر والعربية السعودية ‒ وهي ائتلاف عظيم النفوذ معني بالتسوية ‒ رغم مصلحتها المشتركة ٬ في فرض التسوية على اسرائيل ٬ المعتمدة أكثر من أي وقت مضى على الاستثمارات الأجنبية ٬ وعلى التسليح بأقدار هائلة من الولايات المتحدة ٬ وعلى الأسواق الأوروبية والنفط الايراني ؟
علاوة على ذلك ٬ اذا كانت الدول العربية ٬ خاصة مصر والسعودية ٬ معنية الى هذا الحد بالتسوية ٬ فلماذا تصر على انسحاب كامل وتفرض على اسرائيل الخيار بين الأراضي أو السلام ؟ وبعد كل ما قدمته هذه الدول من تنازلات لاسرائيل ٬ لماذا لا تقدم تنازلا آخرا وأخيرا في الضفة الغربية من أجل نيل التسوية المنشودة ؟ ومصر سوف تسترد كل سيناء أو جلها . هل رادع مصر عن ذلك هو خوفها من وصمة “خائن” ؟ هل الأراضي التي احتلت سنة 1967 “أقدس” من الأراضي المحتلة عام 1948 ؟ أليست لا مبالاة الأنظمة العربية ٬ ابات حرب الابادة التي أدارتها اسرائيل في لبنان في آذار من عام 1978 ٬ شاهدة على استعداد هذه الأنظمة لابتلاع ضفادع أكبر وأكثر ٬ ازاء التفوق العسكري الاسرائيلي المطلق ؟
أنه ليضيق المقام هنا بالقضايا سالفة الذكر ان تفصل فلنتناول بعضها بايجاز .
طابع التسوية
اتفاقية سلام أو تسوية أخرى لا تشكل لدى الأميركيين غاية بحد ذاتها . الهدف الأساسي للولايات المتحدة هو : تأمين السيطرة على مصادر النفط الهائلة ٬ وخاصة السيطرة على أسعاره ووتيرة تدفقه .
لغاية أكتوبر 1973 ٬ بدا أن استمرار السيطرة الاسرائيلية في الأراضي المحتلة يضمن الاستقرار في الشرق الأوسط . الاستقرار الناجم عن التفوق المطلق في ساحة القتال وتحقيق هذا التفوق بعمليات عسكرية دورية وكبح جماح أية قوة تهدد الوضع الراهن .
الا ان حرب أكتوبر 1973 ٬ والتطورات الداخلية في مصر أثبتت ان هذه السيطرة عن طريق قوة وحشية ومكشوفة ٬ هي أبعد ما تكون عن الاستقرار ٬ بل العكس ٬ فقد أدت وللمرة الأولى الى تحجيم التفوق العسكري الاسرائيلي ٬ والى حرب طويلة نسبيا وباهظة جدا لاسرائيل ٬ وهذه الحرب زادت من ضعف النظام المتعفن في مصر ٬ على الأقل من الناحية الاقتصادية .
ضمانا لاستمرار سيطرتها تسعى الولايات المتحدة لانشاء بنية سياسية ‒ اقتصادية تشد جميع الأنظمة القائمة في المنطقة الى منظومة المصالح المشتركة . بعبارة أخرى ٬ تحاول الولايات المتحدة اصلاح ذات البن والمؤاخاة بين الصهيونية والأنظمة العربية .
ومن المهم الاشارة الى انه بسبب التخلف الاقتصادي الهائل في العالم العربي ٬ التخلف اياه ٬ الذي عجزت الأنظمة العربية أن تتغلب عليه ٬ وأبرز مظاهره وضع المجتمع المصري ٬ وازاء الفرق العظيم بينه وبين المجتمع الاسرائيلي ٬ الذي هو من حيث المفهوم الاقتصادي ‒ السياسي شبيه بالمجتمع الأوروبي مع كل استقرار وقوة الرأسمالية المتطورة ٬ بسبب هذا التخلف فان الولايات المتحدة لا ترى سببا ٬ أي سبب للتخلي عن اسرائيل كركيزة عسكرية ‒ سياسية رئيسية في الشرق الأوسط ٬ كعامل استقرار خارجي ٬ مثل مشاة البحرية الأميركيين ‒ مارينس ‒ الذين يحرسون نفوذ الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية .
ان تبعية اسرائيل المطلقة للولايات المتحدة ٬ وكون اسرائيل دولة متطورة نسبيا ٬ يجعلانها حليفا لا بديل عنه .
المشكلة ليست ‒ أين تمرّ الحدود
مما أسلفنا يتضح انه يجب الا نفهم التسوية والأهداف الأميركية وكأنها تجيء لتغيير النظام السياسي ‒ الاجتماعي القائم . هدفهم هو اضفاء عنصر الاستقرار عليه بحيث يغدو مقبولا عن طريق دمج دولة اسرائيل في نادي الشرق الأوسط . هذا الدمج شبيها بالدمج الايراني ‒ السعودي ‒ العراقي ٬ غير ملزم بالغاء النقائض العميقة بين الأطراف ٬ وفي هذا الحال بين الصهيونية والعالم العربي . اذ أن عدم استقرار الشرق الأوسط وحلقات الحروب فيه لا ترجع في نهاية المطاف الى الجدل في مواقع الحدود وماهية السلام ٬ فالجذور أعمق كثيرا .
عدم الاستقرار راجع في الحقيقة الى التناقض الحاد بين الثراء الفاحش الكامن في المنطقة وامكانيات التنمية الهائلة المتأتية عنه ٬ من جهة ٬ وبيت تخلف المجتمع العربي اقتصاديا واجتماعيا ٬ هذا التخلف الذي يتجلى مثلا ٬ في الفقر المريع السائد في البلدان العربية ٬ خاصة مصر ٬ والذي يتجلى في الأنظمة العسكرية والبطريكية (القديمة) المسيطرة سوية .
وعندما تضاف الى هذا التناقض ٬ القضية القومية الفلسطينية ٬ والنابعة من صلب الحركة الصهيونية كحركة كولونيالية مغتصبة ومضطهدة ٬ يصبح الوضع وشيك الانفجار . من هنا فان التسوية ‒ اذا كانت عاجزة عن حل القضية الاجتماعية ٬ بل العكس ٬ تعمل على تعميقها بواسطة تقوية الأنظمة القائمة ٬ واذا تجاهلت هذه التسوية وعن سابق اصرار ٬ قضية الفلسطينيين القومية والانسانية ‒ لن تعدو أن تكون استرخاء بين حروب من مختلف الألوان .
ان الولايات المتحدة التي تدرك بقدر أو آخر انعدام الاستقرار المزمن ٬ ليست على استعداد أن تضع كل بيضها في سل واحد ‒ سل الوفاق الاسرائيلي ‒ العربي . فهي تعتقد أن البقرة الحلوب السعودية لا تشكل بديلا لحصان الحرب الاسرائيلي : رد الفعل الأميركي الفوري لانهيار الوضع الراهن في أكتوبر 1973 كان زيادة العون العسكري والاقتصادي لاسرائيل بشكل لم يسبق له مثيل . فامداد نصف مليارد دولار سنويا قفز وأصبح عونا مباشرا قدره ثلاثة مليارد دولار سنويا . الأسلحة المعقدة والتكنولوجيا التي لم تخرج بعد من أيدي الجيش الأميركي ٬ تمنح بوفرة للجيش الاسرائيلي . وحصلت اسرائيل على حق انتاج بعض الأسلحة وتسويقها في أنحاء العالم .
وفي الوقت ذاته طلبت الولايات المتحدة ‒ واستجيب الى طلبها ‒ قطع مصر مطلقا عن مصدر امدادها العسكري ‒ الاتحاد السوفياتي ‒ دون اتخاذ شيء لتقليص الفرق الآخذ في الاتساع بين مصر واسرائيل ٬ والآخذ في الازدياد نتيجة لهذا القطع .
كما ان الولايات المتحدة ٬ منذ سنة 1973 وحتى اليوم وفي أوج المفاوضات ٬ تمكن اسرائيل من انشاء مدن استيطانية جديدة في الضفة ٬ مثل حارس وتافوح [أريئيل] ٬ اقامة مستوطنات جديدة وتوسيع القائمة منها ٬ وكل ذلك من خلال دفع ضريبة كلامية على شكل “مذكرات” بأن المستوطنات تتناقض والقانون الدولي . غير أنه منذ زيارة السادات للقدس أضيفت دزينة من المستوطنات الجديدة في الأراضي المحتلة !
ان أسباب هذه السياسة الأميركية بسيطة كما رأينا : لا بديل عن حصان الحرب الاسرائيلي في الشرق الأوسط . لهذا فان مراكز القوى في الولايات المتحدة ملزمة أن تهتم أقصى الاهتمام بحاجيات اسرائيل ومطالبها ٬ وأن تحترس أشد الاحتراس من اضعافها واظهارها كأداة جوفاء وتابعة عديمة القوى للمعقل الامبريالي .
المطالب الاسرائيلية
ما هي نوعية العلاقات التي تريد اسرائيل انشائها ضمن اتفاقية السلام ؟
انها تريدها علاقة أشبه بتلك القائمة بين الولايات المتحدة وبلدان أميركا اللاتينية أي ‒ دمج اقتصادي من خلال صيانة التفوق العسكري ‒ السياسي المطلق . ان اسرائيل لن تتنازل عن طابعها الكولونيالي ٬ وعن كونها “جزءا مكملا” لأوروبا وجسما غريبا في الشرق .
من هنا يمكن فهم الرفض الاسرائيلي لصفقة سلام كامل مقابل اخلاء تدريجي لجميع الأراضي التي احتلت سنة 1967 .
ان اسرائيل غير مستعدة بأي حال من الأحوال دخول نادي الشرق الأوسط “مقصوصة الأجنحة” ٬ هي معنية بتسوية سلام يقوم على توازن القوى الراهن ويأخذ بالحسبان تفوقها العسكري ‒ التكنولوجي ٬ سلام يذر فتحة أمام قوة دفع كولونيالية جديدة عندما يحين الوقت . هذه المصلحة لا تتوافق مع اقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع ٬ أو مع العودة الى حدود 1967 .
فالعودة الى هذه الحدود سوف تشجع الفلسطينيين على مواصلة الكفاح ودولة فلسطينية مستقلة تجعل قطاعا كبيرا وهاما من الأيدي العاملة في الاقتصاد الاسرائيلي ‒ مائة ألف عامل انتاجي حيوي ‒ مستقلا سياسيا عن اسرائيل . عندها تغدو هذه الأيدي العاملة بمثابة قوة قادمة من وراء حدود الدولة ٬ ومن المحتمل ان تتنظم تحت قيادة قومية فلسطينية ٬ أو حتى أن تتخذ طابعا اشتراكيا ‒ ثوريا .
انسحابا كهذا سيكون دليلا على ضعف المستعمرة الاسرائيلية التأريخي ٬ وقد يؤدي الانسحاب الى بعث قومي مناضل لدى نصف مليون فلسطيني من سكان اسرائيل ٬ خاصة وانه في حالة انسحاب كامل مفروض قد تجتهد اسرائيل الى “انهاء الحساب” مع مواطنيها الفلسطينيين ونهب مزيد من الأرض منهم كبديل لطردهم من الأراضي المحتلة . هذه الاعتبارات تجد تعبيرا رمزيا لها بكون وزير الدفاع ٬ عيزر فايتسمان ٬ الأكثر “اعتدالا” في حكومة بيغن تجاه الأراضي المحتلة ٬ وأما يغئال هورفيتس أحد أرباب الصناعة وزير التجارة والصناعة ٬ فهو من معارضي الانسحاب الأشد تصلبا في الرأي .ى يعني ٬ ليس المقصود هنا رغم كل حجب الدخان الاسرائيلية ٬ اعتبارات أمنية .
خاصة وأن اسرائيل لا تقدر أن تسمح بأن يجردها السادات من كل ما احتلته بقوة السلاح ٬ فمن الواضح للجميع أن تسوية سلام وانسحاب كامل قبل الحرب القادمة سوف يفهم ٬ وبحق ٬ كنتيجة مباشرة “لتقصير 1973” ٬ حتى ذلك الوقت تصرفت اسرائيل كدولة كبرى محلية غير تابعة ولم تحلم قط في انسحاب واسع الى هذا الحد .
النادي الشرق أوسطي
يبدو أن اسرائيل تدرك الأفضليات الحاسمة التي بمقدورها أن تجني بدخول مشرف الى نادي الشرق الأوسط ٬ من خلال صيانة قوتها ونيل حصة كبيرة من الثروات الكامنة في المنطقة .
لقد اقتنعت الدول العربية أيضا منذ وقت بضرورة التوصل الى تسوية سلام مع اسرائيل ٬ ومؤخرا ٬ كما رأينا ٬ اتخذت هذه الدول خطوات كبيرة لتقريب هذه التسوية . الا انه لا توجد هنالك دولة عربية واحدة على استعداد لضم اسرائيل للنادي كدولة قوية تحتفظ بأراضي محتلة وبأعداد كبيرة من السكان العرب ٬ اسرائيل كهذه ٬ التي تفوق عسكريا الجيوش العربية مجتمعة ٬ والتي تحتفظ بتوفقها هذا في المستقبل المنظور ٬ تتحول بذلك الى محور السياسة الشرق أوسطية . فكما نرى حاليا في لبنان ٬ فان خطوات السلام الساداتية تفسح لاسرائيل المجال للتدخل والدخول جهرا كواحد من الحلفاء المحليين ٬ دونما أي رد فعل عربي عملي .
صحيح أن اسرائيل تحتل الآن أيضا المقام الأول في لعبة القوى المحلية ‒ لكن لغاية الآن كانت بمثابة عامل خارجي ٬ خطر ومثير للمتاعب . الا انه عامل دون أية حقوق للتدخل ٬ وكل عملية كانت تقوم بها سواء عسكرية أم سياسية كانت تعد مخالفة وتحديا . ازاء ذلك فان اسرائيل تستطيع بعد التسوية ‒ من موقع الحق لا القوة ‒ المطالبة بأن تكون جزءا من قوة الردع في لبنان ٬ مثلا ٬ أو من قوة أمن في الأردن ٬ أو شريك في أي حلف يكون في المنطقة . وفي أي حلف كهذا أو قوة أمن أو حلف اقتصادي ٬ تتحول اسرائيل بشكل طبيعي ٬ بحكم تفوقها الاقتصادي ٬ التكنولوجي ٬ وفوق كل شيء تفوقها العسكري ٬ الى الجسم المركزي .
بايجاز ٬ ستضطر السعودية خاصة ٬ وكذلك مصر ٬ الى مشاطرة اسرائيل لقب الشرف ‒ الأولى بين أكفاء ٬ الحكم وصاحب القول الفصل في شؤون الشرق الأوسط ٬ سواء كان في لبنان أم في الأردن أم في ظفار أو في علاقات مصر ‒ ليبيا .
ليست لدى السعودية حاجة ان تدخل الى “مطبخها” الخاص ٬ حصان حرب فخور واثقا من نفسه وصاحب انجازات مدهشة ومناعة داخلية كاسرائيل . السعودية معنية حقا مثل الولايات المتحدة ومصر ٬ بايقاف العداء واخماد شعلة الحروب المتكررة التي تهدد تدفق النفط الهادئ ٬ ولكن ليس بثمن تنازلها عن مكانة الاسبقية التي تتمتع بها في الشرق الأوسط .
وهنالك دول أضعف من السعودية توجد في مثل هذا الوضع كسوريا والأردن ٬ التي سيحولها دخول اسرائيل للنادي كدولة عظمى محلية ‒ دون انسحاب كامل ‒ الى دمى سياسية واقتصادية ٬ الى ساحة اسرائيل الخلفية .
من هنا أصبح واضحا أن كل تسوية في الوضع الراهن ستحمل بذور دمارها على المدى البعيد : اذا طلب ما اسرائيل أكثر من اللازم (في رأيها) فانها ستعمل على ابطال ذلك في أول فرصة تلوح وعلى ملائمتها الوضع الراهن بحيث يغدو في نظرها توازن القوى الحقيقي . واذا أفسحت التسوية المجال لاسرائيل للدخول كدولة عظمى محلية الى النادي ٬ فان ذلك سيقوض الاستقرار الداخلي في العالم العربي . الطبقات البرجوازية العربية لا تقدر أن تسلم على المدى البعيد بشراسة وغطرسة حصان الحرب الاسرائيلي الذي سيواصل ويحاول بالتأكيد رفس البقرة الحلوب السعودية في بطنها .