[عن مجلة “الاقتصاد العربي” ٬ آب 1978]
كانت الأسئلة التي وجهتها الادارة الأميركية الى الحكومة الاسرائيلية حول خطة بيغن للسلام في الشرق الأوسط تحمل في طياتها موافقة ضمنية على هذه الخطة . فهي تستفسر بأدب جم عن الاحتمالات التي تراها اسرائيل ممكنة فيما يتعلق بقطاع غزة والضفة الغربية بعد انقضاء فترة السنوات الخمس الانتقالية التي تقترح الخطة تطبيق ما أسمته “الادارة الذاتية المحدودة” خلالها على المنطقتين . أي ان الولايات المتحدة توافق على الخطة ولكنها تتساءل : ولكن ماذا بعد الفترة الانتقالية ؟ وعلى الرغم مما في الموقف الأميركي من “تهاون” ازاء اسرائيل وتفريط بآمال أصدقائها العرب ٬ لم تجد حكومة بيغن مناصا من أن تعلن بوضوح وبصراحة قاطعة أن لا شيء بعد الفترة الانتقالية سوى استمرار الادارة الذاتية المحدودة . وهذا يعني أن الفترة الانتقالية ليست انتقالية على الاطلاق ٬ بل هي في المنظور الاسرائيلي حالة دائمة وثابتة .
ازاء ذلك كان من الصعب على المرء ان يصدق اذنيه عندما سمع الرد المصري على الأجوبة الاسرائيلية التي وصفت بأنها تتم ب”المماطلة” ٬ وأنهم (أي الاسرائيليين) لم يقطعوا كل الخيوط . ذلك ان اكتشاف وضوح الموقف الاسرائيلي لا يحتاج كثير عناء ٬ بل ان اكتشاف ان هذا الموقف يضرب جذوره بعمق في الفكرة الصهيونية ٬ وعلى الأخص في تراث الجناح المراجع من الحركة الصهيونية الذي ينتمي اليه بيغن لا يحتاج هو الآخر الى أكثر من العودة الى كتابات فلاديمير جابوتنسكي الأب الروحي لهذا الجناح .
في عام 1906 ٬ عقد اليهود الروس مؤتمرا في المدينة التي أصبحت تعرف اليوم باسم هلسنكي ٬ وطالب هذا المؤتمر باعطاء اليهود الروس سلسلة من الحقوق يمكن وصفها بدقة بأنها حقوق الادارة الذاتية .
اراد جابوتنسكي أن يمنح اليهود الروس حقوق الأقلية القومية ٬ وهو يعرف “الأقلية القومية” بأنها مجموعة من “المواطنين لهم الخلفية القومية ذاتها” يعيشون وسط “أغلبية أجنبية” عنهم . ويضيف أن الأقلية القومية “سعيا منها الى تحقيق حقوقها القومية الذاتية” تنظم نفسها في “اتحاد قانوني معلن على امتداد البلاد” يتشكل من لجنة قومية ٬ ولجان مناطق ٬ ولجان مناطق فرعية وهكذا . وتقوم هذه اللجان بمهام الادارة الذاتية فيما يتعلق بشؤون “الدين والتربية والصحة والخدمات الاجتماعية” .
واليوم ٬ وبعد 72 عاما ٬ هذا هو بالضبط ما يريده بيغن للفلسطينيين في الأراضي المحتلة . انه يريدهم أن يصبحوا “أقلية قومية” في اسرائيل كبرى تضم الضفة الغربية وقطاع غزة ٬ أقلية تتولى البلديات المناطقية المنتظمة في لجنة قومية هي اللجنة العليا للبلديات ادارة شؤونها الثقافية والدينية والاجتماعية .
على هذه الخلفية يتبدى لنا ليس مدى تأصل خطة بيغن في التفكير الصهيوني المراجع فحسب ٬ بل أيضا خطأ ما ذهبت اليه بعض مصادر المقاومة الفلسطينية عندما شبهت الادارة الذاتية البيغنية المقترحة بنظام “البانتوستانات” في جنوب أفريقيا . فهذه الأخيرة تعطي للسكان الأصليين سلطة ذاتية ٬ ولو محدودة ٬ على رقع من الأرض يشكلون الأغلبية فيها . أما ما تقترحه خطة بيغن فأقل من ذلك بكثير : انها لا تعطي الفلسطينيين أية سلطة ذاتية على أية رقعة من الأرض ٬ بل فقط فرصة العناية ببعض من شؤونهم من خلال “اتحاد قانوني” ليس في حقيقته اتحادا على الاطلاق ٬ بل مجرد تراكم كمي لأفراد مفتتين . وهذا هو السر في اصرار الخطة على ضرورة اسباغ الشرعية على جهود الاستيطان الاسرائيلي في المناطق المحتلة راهنا ومستقبلا ٬ ذلك انه اذا لم يرد الفلسطينيين ان يمارسوا أية سلطة ذاتية على أية رقعة من الأرض ٬ فمن الضروري لتكريس وضع من هذا النوع الحيلولة دون بقائهم أغلبية في أي مكان . وهناك بالطبع عامل آخر مكمل ٬ لا تصرح به الخطة ولكنه يظل قريبا من سطحها ٬ يأمل بيغن وصحبه أن يلعب دوره في تحويل الفلسطينيين الى أقلية في المناطق المحتلة . ذلك هو هجرتهم الى خارج هذه المناطق أو بالأحرى تهجيرهم منها .
والواقع أن بحث وسائل تحويل فلسطيني الأراضي المحتلة الى أقلية قد بدأ بالفعل ووجد سبيلة الى صفحات الصحف الاسرائيلية . ففي معرض مناقشة ما يسميه البعض “المصيدة الديموغرافية” التي يرى هؤلاء أنها يمكن أن تنجم عن الاحتفاظ بالأراضي المحتلة ٬ أوضح “عاموس بن فيريد” أنه كانت هناك منذ عام 1968 هجرة صافية من المناطق المحتلة ٬ وقال انه اذا استمرت هذه العملية بمعدل خمسة الاف مهاجر فلسطيني في السنة يمكن الاحتفاظ بالأراضي المحتلة وتجنب المصيدة الديموغرافية في الوقت ذاته . وقد رد البروفسور “دوف فريدلاندر” ٬ أستاذ الديموغرافية في الجامعة العبرية ٬ قائلا أنه لا يمكن تصور استمرار الهجرة باتجاه واحد في حالة حلول السلام ٬ وانه حتى اذا افترض المرء استمرار هجرة عربية صافية من المناطق المحتلة فان ذلك ٬ بالنظر الى الفرق الكبير بين التكاثر الطبيعي للعرب من جهة ولليهود من جهة أخرى ٬ لن يوقف عملية اضمحلال الأغلبية اليهودية ٬ بل سيبطئها فحسب . فما كان من عاموس بن فيريد الا ان وضع النقاط على الحروف قائلا ان تقديراته لا تقوم على أساس حلول السلام بل على أساس استمرار حالة اللا حرب ‒ ل سلم أو قيام حالة عدم اعتداء . وفي كلا الحالتين ٬ يمكن ضبط مسائل الهجرة بحيث يسمح لليهود بالهجرة الى البلاد ولا يسمح للعرب بذلك . فاذا ما هاجر الى البلاد 15 ألف يهودي سنويا وهاجر منها 5000 عربي فان اليهود سيشكلون عام 2000 ما يعامل 54.8 % . اما اذا بلغت هجرة الفلسطينيين 15 ألفا في السنة فان النسبة ترتفع الى 65.4 % .
من جهة أخرى ٬ فان الرفض القاطع الذي تجابه به الحركة الصهيونية من أقصاها الى أقصاها حق تقرير المصير للفلسطينيين متأصل هو الآخر في التراث الصهيوني . ولكن اذا كان تقرير المصير في الحالات التقدمية انعكاسا لحق مجموعة قومية قائمة في التعبير عن خواصها القائمة سعيا نحو تحقيق الذات ٬ فانها في حالة الحركة الصهيونية لم تكن كذلك ٬ بل كانت سعيا نحو تحويل اليهود الى مجموعة قومية ٬ أي سعيا نحو اعادة تعريف الذات . ولا شك في ان الوجدان الجمعي الصهيوني يعي أنه اذا كان الاعتراف بحق تقرير المصير لليهود ٬ رغم كونه يقوم على أساس وهمي ٬ جعل من الحركة الصهيونية قوة مادية ضخمة حولت الحقائق وأوقفتها على رأسها . فان الاعتراف بهذا الحق للشعب الفلسطيني حري بأن يحول الحركة الوطنية الفلسطينية الى تيار عارم يعيد ايقاف الحقائق على قدميها .
ان وضع المواقف الاسرائيلية ضمن سياقها التاريخي واعادتها الى أصولها ليس لعبة ترف فكري ٬ بل هو جهد ضروري للحيلولة دون رؤية “المماطلة” حيث يكون التصلب ٬ ودون اعتبار الخيوط موصولة حيث تكون قد قطعت بلا رجعة ومنذ زمن .