مصطفى . شاب مصري خريج كلية التجارة جامعة القاهرة . طويل القامة عريض المنكبين . ضخم .
له ضحكة مميزة مجلجلة .
دائما مبتسم حتى وهو حزين .
يعمل بمزرعة للبض والدواجن على بعد 20 كيلومتر من مدينة بنغازي بليبيا . زوجته وولده يقطنون بالقاهرة .
حصل على اجازة بدون مرتب من الشركة لمدة سنة .
*
ابنك بيفكرني بابني . أنا مش زعلان عشان بعيد . طبعا متأثر . لكن !! كل شيء نصيب وجهاد …
عارف اتولد ازاي ؟!
كنت في الجيش .
على فكرة أنا حاربت في 73 .
كنت في الخدمة وأبويا بعتلي تلغراف . ببدلة الميدان جيت جري على مستشفى الدكتور الخاص .
أبويا كان اعطاله 150 جنيه .
الدكتور كان لابس لبس العمليات وواقف على الحوض بيغسل ايديه . بيتعقم . بصللي من تحت النضارة وقاللي : مراتك محتاجة لفتح بطن مستعجل والعملية دي بتكلف 200 جنيه ٬ أنا مش مستعد ابتدي الا لما تجيب ال 50 جنيه دلوقت .
قلتله : دا حنا يدوبك قدرنا ندبر المبلغ ده . أنا عارف . حتقوللي واية اللي جابرك . ما تروح مستشفى عام . قلتلو حاضر بعد الولادة اجيبهم في العيادة .
صرخ في : لأ … دلوقتي .
هرولت بملابس الميدان في شارع الجيش بالعتبه ٬ 50 جنيه . منين ؟
المهم . جبتهم .
وجبنا محمد .
وفضلنا مديونين بالمبلغ لغاية ما جيت ليبيا ٬ 18 ٬ 19 يناير .
أنا لو كنت هناك .
من غير تردد كنت مشترك في المظاهرات . المهم . اقفل الموضوع ده وتعال افرجك ع المزرعة .
*
كان مصطفى شامخا في وجه الشمس . وكانت عيناه تدمعان دون ان يدري . وكان يفيض حبا وعشقا وحزنا دفينا .
الدكتور جون ٬ من هولندا . طبيب بيطري مخصوص لتحديد ولادة الدجاج … أقصد بيض الدجاج ٬ عن طريق ضوء اللمبات الكهرباء يتحكم في نشاط الغدة النخامية للدجاجة . يقدر يضغط النسل . ويفحص الأكل . الأكل بييجي بالطيارة . مخصوص من هولندا كل 15 يوم . أكل حسب المواصفات . المزرعة فيها 60٬000 دجاجة .
حاسب . ما تدخلش على الدجاج من غير ما تطهر حذاءك وتمشي في طريق مخصوص . الدجاج له حرمة . الدجاج بيبيض دهب .
*
يا مصطفى أجل سفرك الآن . العلاقات بين مصر وليبيا سيئة للغاية وممكن ما ارجع واللا ما ارجعش .
مصر أمي اللي حاربت عشانها .
ومصر أمي اللي ولدت الدكتور اللي ما رضيش يعمل العملية لمراتي الا بعد ما يقبض . مصر . هي مصر . هي الحرامية والقوادين والعسكر وبدلة الميدان .
ومضى مصطفى بلا رجعة .
وحسابات المزرعة ظلت بدون توقيعه .
وباص الدجاج أكثر من مليون مرة .
والشركة تمتنع عن صرف العلاوات .
والشركة في طريقها الى الافلاس .
مصطفى يهرول ببدلة الميدان .
شامخا من وجه الشمس .
يبتسم حتى وهو يبكي .
الله . هو مش انت خلصت خدمتك العسكرية ؟ ليه بقى بدلة الميدان !
***
كان يغطيه اعرق تماما .
وكان يبتسم وهو يبكي .
وقال : المرة دي مش هستنى لما يطلب مني الدكتور كذا جنيه ومش هستنى لما تموت الامهات في المستشفيات العامة بحمى النفاس . ومش هستنى تقوم الناس في 18 ٬ 19 يناير ٬ مش هستنى ومش هستنى فيه ولادة جديدة . وفيه سر جديد صعب وخطير لكنه حقيقة .
وصمت مصطفى .
واختفى بين الأشجار المحيطة بالنيل ناحية القصر العيني القديم ويجانب الفندق العالي المهيب جدا والذي بناه الأمريكان في عرض النيل ليعترض الأولاد وهم يسبحون بأجسادهم النحيلة الملأى بالديدان .
(عن مجلة “الهدف” ٬ 24 يونيو 1978)
* خليل فاضل ‒ كاتب مصري يساري ٬ شارك اثناء دراسته في جامعة عين شمس ٬ في الحركة الطلابية سنة 1972 ‒ 1973 . يكتب القصة والشعر ويمارس عمله كطبيب في ايرلندا .