ويجري النضال من أجل حقوق الانسان والحريات الديمقراطية في بلدان أخرى من أوروبا الشرقية . في مطلع سنة 1977 تبلورت فئة من رجال الفكر التشيكوسلافيين ٬ وباشروا النضال من أجل تحقيق قرارات مؤتمر هلسينكي لأمن أوروبا ٬ المتعلقة بحقوق الانسان .
واتخذت هذه الجماعة اسم “ميثاق 77” وحظيت بالتأييد العلني لرجال فكر من المجر ٬ رومانيا ٬ ألمانيا الشرقية ٬ بولندا ويوغوسلافيا ٬ كما وأن الاشتراكيين الثوريين القلائل الذين يعيشون ويعملون في تشيكوسلوفاكيا ٬ قدموا تأييدهم الى “ميثاق 77” وأحد هؤلاء هو (بيتر أوهل) وجه رسالة مفتوحة الى اليسار الثوري في الغرب ٬ لكي يعبر عن تأييده في النضال من أجل حقوق الانسان في بلدان أوروبا الشرقية .
عرف بيتر أوهل لأول مرة في الغرب عندما حكم في 1971 في تشيكوسلوفاكيا ٬ بتهمة عضويته في الحزب الاشتراكي الثوري ٬ والذي حلته الشرطة في نهاية سنة 1970 . أسس هذا الحزب حول حلقة طلاب في كلية الفلسفة بجامعة كارل في براغ . وقد قطع هذا الحزب صلاته السياسية مع سائر أجنحة البيروقراطية ٬ بما فيها الجناح الليبرالي بزعامة دوبتشك . والتزم هذا الحزب مواقف ثورية في قضايا معينة مثل كسر الدولة البيروقراطية بوسائل تعبئة الجماهير ثوريا ٬ وتبديلها بنظام ديمقراطي عمالي .
نشرت رسالة أوهل في عدة مجلات اليسار في أوروبا الغربية ٬ والفقرات المقتبسة أدناه ٬ مترجمة عن المجلة اليسارية “الأسبوعية الحمراء” الصادرة في بريطانيا ٬ كتب أوهل يقول :
أيها الرفاق :
يبدي اليسار الثوري في بلدان الديمقراطية البرجوازية ٬ الاشمئزاز أحيانا من الدفاع عن حقوق المواطن والحريات الديمقراطية [في بلدان أوروبا الشرقية] ٬ هذا الاشمئزاز ناجم عن المعارضة ٬ الصادقة على الغالب ٬ للحركات الاصلاحية التي هدفها الرئيسي والوحيد أحيانا ٬ هو على الأقل ٬ تحسين جزئي في مجال العلاقات الاجتماعية ٬ والقيام بذلك ٬ على الغالب ٬ عن طريق ما يسمى “حوار ثنائي” مع سلطة الدولة .
اننا ندرك جيدا ٬ ان التطور الحر للمجتمع ٬ القائم على التطور الحر لكل فرد في المجتمع ٬ قابل للتحقيق فقط في مجتمع لا طبقي . مجتمع كهذا يكون وليد مرحلة متواصلة من تطور الديمقراطية ٬ هذه المرحلة تدشنها الثورة الاجتماعية العمالية .
ان المرحلة الأولى للتطور الشيوعي يجب أن تجلب لكل فرد في المجتمع حقوقا وحريات أكثر مما تقدر أن تضمنه خير البرجوازيات الديمقراطية . خاصة على ضوء التحليل النقدي للثورات البروليتارية التي وقعت لغاية الآن ٬ وللعوامل التي أدت الى انحلالها . هذا الاعتقاد مقبول لدينا جميعا ماركسيين واشتراكيين ثوريين .
ويشاركنا فيه كل الاصلاحيين ‒ وان كانوا يستعملون مصطلحا آخر ‒ ومؤخرا ٬ ذلك الجناح الحديث منهم ٬ وهم الشيوعيون الأوروبيون (أيرو ‒ كومونيزم) وبخلاف هؤلاء فان الثوريين لا يعانون من الوهم وكأن بالامكان تحقيق الاشتراكية وتحرير الانسان والمجتمع عن طريق دقرطة المجتمع البرجوازي تدريجيا ٬ من خلال الابقاء على علاقات انتاج رأسمالية ٬ أو من خلال الغائها تدريجيا . كما أن الثوريين لا يتوهمون أنه من المعقول أن يوافق نظام فاشستي ٬ أو أي نظام توتاليتاري آخر ٬ على قدر ما من توسيع حقوق المواطن أو الحريات الديمقراطية ٬ أو أن يكون مستعدا للاشتراك في محاورة ثنائية في هذا الأمر .
الا أننا نستطيع أيضا ٬ أن نتفهم أن كثيرا من المناضلين من أجل حقوق الانسان ٬ ضد أنظمة ذات صبغة أوتوقراطية أو عسكرية ٬ بيروقراطية أو أي شكل من أشكال الديكتاتورية ٬ يدركون هم كذلك أن مساعيهم لن تؤدي الى النتائج التي يطالبون بها علنا . وفي الوقت نفسه يعلمون هم أن المطالبة بحريات المواطن والحريات الديمقراطية ٬ والتي لا يمكن تحقيقها تحت حكم الأنظمة الديكتاتورية ٬ تستطيع أن توقظ طبقة العمال وشرائح هامة أخرى بين السكان العاملين ٬ وأن تعزز نضالهم هم ٬ وأن تهز قاعدة الديكتاتورية ٬ وأقرب مثل وبرهان على ذلك هي اسبانيا .
ان الأوهام المؤيدة للرأسمالية والأساطير الرجعية التي قد تقود هذا النضال (من أجل حقوق الانسان والحريات الديمقراطية) في بداية مسيرته ٬ تضعف بقدر ما تصاعد الوعي الذاتي والثقة بالنفس لدى طبقة العمال .
أعتقد أن مهمة الثوريين هي الوقوف في طليعة هذا النضال ٬ ومكافحة الأوهام والأساطير ٬ وعليهم أن يذكروا في نفس الوقت أنه لا يمكن لأي نضال من أجل حقوق الانسان ٬ حتى وان كان تحت قيادة الحزب الشيوعي الاسباني ٬ أن يحل محل نشاط الجماهير الثوري ٬ التي تقلب العلاقات الاجتماعية رأسا على عقب كما يتطلب التاريخ .
على كل حال ٬ النضال في سبيل حقوق الانسان هو احدى الطرق المؤدية الى الثورة . هو احدى الطرق التي يمكن أن تنشأ فيها ظروف ذاتية مبكرة حيوية لثورة اجتماعية وسياسية ٬ حتى وان زعم زاعم أن هذه الاستراتيجية مناسبة لبلدان الديمقراطية البرجوازية ٬ فأنه من الواضح أن هذه الاستراتيجية هي عملية ٬ وأحيانا وحيدة ٬ في النضال تحت الأنظمة الديكتاتورية العسكرية أو البيروقراطية وتحت الأنظمة الفاشية . كل واحد في اليسار الثوري يعترف بذلك عندما تكون المسألة هي تقييم حقوق الانسان في البلدان التابعة لمل يسمى “مجال النفوذ الغربي” ٬ ولكنهم يتحفظون لدى تقييمهم مثل هذه الحركة في بلدان أوروبا الشرقية . يبدو لي أن الفارق ٬ وأحيانا الحيرة ٬ في منهج اليسار ٬ في أوروبا الغربية وأمريكا اللاتينية ٬ تجاه هذه القضية ٬ ناجم عن تحليل مختلف ٬ وعلى الغالب اصطناعي وحتى خاطئ ٬ للنهج الاجتماعي والسياسي المعمول به في هذا الجزء من العالم (أي أوروبا الشرقية) .
أستطيع أن أفهم جيدا ٬ كمناوئ للبرلمانية ولباقي خردوات الديمقراطية البرجوازية ٬ أنه قد يكون لمطالب “ميثاق 77” ‒ وميثاق 77 ٬ هو غاية في الجدية وأنا متفق معه ‒تأثير سلبي على الماركسية ٬ ذلك لأن “ميثاق 77” يجعل هدفه الوحيد ٬ التنفيذ الناجع للمبادئ المتضمنة في الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق مدنية ٬ سياسية ٬ اجتماعية ٬ اقتصادية وثقافية ٬ أو لأن هذا الاتفاقيات التي صادقت عليها الدولة التشيكوسلوفاكية وقبلتها ٬ تشكل القاعدة والمنطلق لنشاط أصحاب “ميثاق 77” . (ملحوظة : ليس للعمال التشيكوسلوفاكيين ميل سلبي متين تجاه الديمقراطية البرجوازية ٬ كما وددت لو أن لهم وموقفهم الراهن هو وليد تجربتهم الشخصية مع الستالينية والنظام الأوتوقراطي) .
شيء آخر قد ينفر الناس ٬ وهو ٬ أن الحقوق الواردة في الاتفاقيات الدولية هي جزئية أو معدة لخدمة مصالح رجال الفكر أكثر من مصالح العمال ٬ أو أن لهذه الاتفاقيات قيمة اعلامية فحسب ٬ كما كان من أمر الاعلان العالمي لحقوق الانسان قبل سنوات ٬ أو حقيقة أن هذه الحقوق تشكل تعبيرا للمساعي نحو تجديد التسليم الطبقي ولمفهوم التعايش السلمي الذي يمكن ٬ مؤقتا ٬ من اطالة بقاء أنماط اجتماعية وسياسية صائرة وفق سنة التاريخ الى خراب .
“ميثاق 77” لا يعد معارضة سياسية ٬ كما أنه لا يريد أن يتجانس . لذا فانه متنوع سياسيا . هدفه هو النضال من أجل حقوق المواطن والحريات الديمقراطية على أساس المعاهدات الدولية التي تشكل جزءا من مجموعة الأنظمة والقوانين في تشيكوسلوفاكيا . هذا الهدف ضيق أكثر من اللازم . رغم ذلك ٬ فان “ميثاق 77” هو أهم الحركات في هذه البلاد في السنوات الأخيرة . وله أصداء ذات مغزى بين العمال . انه يعبر عن مصالحهم حتى جزئيا وبشكل غير مباشر .
وحسب البند الوارد في الميثاق والمتعلق بالحقوق الاجتماعية الاقتصادية والثقافية ٬ فانه يجب أن يمنح العمال أيضا حق انشاء النقابات المهنية وتنظيمات أخرى لحماية حقوقهم دون أية مضايقة . وجاء في البند اياه أنه يجب منح العمال حق الاضراب . ومن الممكن أن يكون هذا البند منطلقا نحو تحرير العمال ٬ التحرير الذي يكسبونه بأنفسهم وبواسطة منظماتهم .
عندما أقول منطلقا ٬ فأني أفكر في الظروف الذاتية المبكرة ٬ والتي يتحتم وجودها للانطلاق على هذا الدرب ولست متوهما بأي “حوار ‒ ثنائي” اصلاحي أو حتى بأي طريق عفوي يؤدي الى تجسيد هذه الحقوق .
أي طريق هذا يمكن أن يكون اذا لم يكن طريق الاصلاحية ؟ الماركسي الثوري الذي يتحدد نشاطه بتهديد الاعتقال من ثلاث الى عشر سنوات ٬ لا يستطيع الاجابة على هذا السؤال … أن الدعم الفعال أو السلبي الذي أبداه العمال ‒ خاصة الشباب منهم ‒ بهذا الشكل أو غيره “بميثاق 77” ٬ لهو الاحتمال على هذا الطريق …
بيتر أوهل
* * *
رغم السنوات التي قضاها بيتر أوهل في معتقلات البيروقراطية ٬ فأنه ما زال يدافع بأصرار عن مواقفه الثورية . وكل من يدرك مثله ٬ أن النضال من أجل ديمقراطية اشتراكية في بلدان “الكتلة الشرقية” هو جزء لا يتجزأ من النضال العام من أجل الاشتراكية ٬ يجب عليه أن يعبر تأييده للنضال في سبيل حقوق الانسان والحريات الديمقراطية هناك . كما كتب أعضاء الحزب الاشتراكي الثوري في برنامجهم :
حتى أوروبا الوسطى والشرقية التابعة لنا ٬ لا يمكن أت تكون بمعزل عن بلدان أخرى ٬ لأن الفرضية الأساسية الاشتراكية هي التعاون والاخوة بين بني الانسان في كل المعمورة ٬ لذا فأننا نتعاطف مع الأنصار في أمريكا اللاتينية ٬ ومع الطلاب والعمال الفرنسيين ٬ الذين قدموا لعمال أوروبا الغربية بديلا اشتراكيا لمستقبلهم ٬ في أيار 1968 ٬ وللفيتناميين الذين يكافحون الامبريالية الأمريكية .
لأن العالم واحد هو . وعلى بني الانسان ان يقرروا اذا كانوا يقبلون ببديل الأسياد نيكسون وبريجنيف أو فرانكو ٬ البديل المؤدي الى الخمول والخوف وعدم الحرية ٬ أو بديل المجتمع الحر الاشتراكي .
لم يبق لنا سوى أن نتفق مع بيتر أوهل في هذه النقطة ٬ وأن نحاول الاجابة باختصار على السؤال الذي طرحه ٬ بالاقتباس التالي من مبادئنا الأساسية :
اندلعت في روسيا عام ١٩١٧ ثورة عمالية , لكن السلطة لم تبق في أيدي مجالس العمال والفلاحين والجنود ٬ وانما استأثرت بها شريحة بيروقراطية ركزت في قبضتها السيطرة الفعلية على الانتاج الاجتماعي وعلى المجتمع بأسره . وحسب النهج الذي اقامته البيروقراطية ٬ لا يوجد انتاج سلع عام وليست هنالك ملكية فردية لوسائل الانتاج الرئيسية ٬ لكن جماهير العاملين مستغلة ومضطهدة ٬ بحكم كونها مسلوبة أية سيطرة على عملها ووسائله وثماره ٬ وعلى العملية الاجتماعية بأسرها . لقد قامت أنظمة بيروقراطية مماثلة في أعقاب الحرب العالمية الثانية في عدد من البلدان الأخرى . ان سياسة هذه الدول الخارجية لا تقوم على اساس دعم النضال من اجل ثورة اشتراكية عالمية ٬ وانما على اساس تعزيز مواقفها في الساحة الدولية . ان نظام القمع البيروقراطي يشكل هو ايضا عدوا للثورة الاشتراكية ٬ ويعتبر نضال العاملين الثوري في هذه البلدان ضد البيروقراطية المتحكمة جزءا من عملية الثورة الاشتراكية العالمية .
ليست مهمة المنظمة الاشتراكية الثورية الاستيلاء على السلطة والقبض على زمامها ٬ وانما المساعدة بكل امكانياتها للاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها في ايدي مجالس منتخبة من قبل جماهير الشعب . ان استيلاء مجالس كهذه على السلطة يشكل سمة مميزة وخطوة حاسمة للثورة الاشتراكية .
المجالس هي شكل من التنظيم الذاتي للجماهير ٬ وتكون مهمة المجالس داخل الخلايا الانتاجية ادارة مراحل الانتاج في كل مشروع من خلال خضوعها للتخطيط المركزي الذي تقرره الجماهير عن طريق مجالسها . في البداية يكون من مهام المجالس تنظيم الدفاع الجماهيري في وجه محاولات أعداء الثورة من بقايا الطبقات ذات الامتيازات . ان سلطة المجالس بحكم طبيعتها لا يمكن ان تكون حكم اقلية ضد اكثرية ٬ وانما تشكل نمطا للمشاركة الديمقراطية الواسعة للجماهير في ادارة العملية الاجتماعية بأسرها .
هيئة تحرير متسبين
في هذا العدد :
المعارضة اليسارية للأنظمة في أوروبا الشرقية
بولندا : رسالة مفتوحة الى الرأي العام في الغرب ‒ بقلم آدم ميخنيك