احتجاج العمال في رادوم ٬ 1976

احتجاج العمال في رادوم ٬ 1976

للمرة الأولى منذ اثنتي عشرة سنة ٬ وللمرة الثانية في حياتي ٬ تمنحني سلطات بولندا الشعبية جواز سفر . وفي آب الماضي استطعت الخروج الى الغرب . كان قرار العودة الى بولندا بالنسبة لي أمرا بسيطا . دائما ادعيت ان مكاني في بولندا . لم أفكر لحظة واحدة بالبقاء في الغرب الا أن العودة ليست بالشيء البسيط أو السهل بالنسبة لي . أنا أعود الى “البقعة الكبيرة” لكي أتواجد في “البقعة الصغيرة” ٬ أي في السجن كما يقول بوكوفسكي . بلغني أمس ان اثنين من أصدقائي ‒ ي. كورون وي.ي. ليبسكي ‒ اتهما بمخالفة ٬ وحسب القانون تكون العقوبة خمس سنوات سجن . وظهر في لائحة الاتهام اسم ثالث ٬ هو اسمي …

هذه الحقيقة دفعتني الى كتابة هذه الرسالة عشية عودتي . وسأبدأ بعرض الحقائق . التهمة المتهم بها صاحبي بشكل مباشر ٬ وأنا بشكل غير مباشر هي : “كل مواطن بولندي يقيم اتصالا مع شخص يعمل لصالح منظمة غربية ٬ بهدف الاضرار بالمصالح السياسية لبولندا الشعبية يعاقب بالحبس مدة تتراوح بين ستة أشهر الى خمس سنوات” (بند 132 من قانون العقوبات) .

لن أدافع عن نفسي حيال هذه التهمة ولن أشرحها ٬ لأنني ان فعلت ذلك أكون قد قبلت دور المتهم . وأنا أرفض قبول هذا الدور . عوضا عن هذا أود ان أعرض بايجاز ٬ ما فعله صاحبي وأنا ٬ وما أدى الى وضعنا في قفص الاتهام .

جاء في لائحة الاتهام ان نشاطنا الجنائي قد بدأ سنة 1975 ٬ ليس هذا التاريخ عفويا ٬ ففي هذه السنة وللمرة الأولى منذ سنة 1970 (سنة انتفاضة العمال على الساحل البلطيقي ٬ وكانت انتفاضة مأساوية من حيث نتائجها) بدأت في بولندا أزمة اجتماعية شديدة جديدة . وقد تمثل الجزء الأول من هذه الأزمة في النزاع بين السلطات وبين فئة من الانتلجنسيا (المثقفين) . السبب المباشر للنزاع هو البرنامج لادخال تغييرات في الدستور وهذه التغييرات تهدف الى اضفاء صبغة قانونية على “مهمة الحزب القيادية” و”للصداقة غير المنفصمة مع الاتحاد السوفياتي” ٬ أي اضفاء فعالية قانونية على تبعية الشعب البولندي المزدوجة : أي تبعيته لجاره في الشرق وبالفئة الحاكمة في بولندا .

لقى هذه المشروع معارضة الاف المواطنين الذين بعثوا برسائل الاحتجاج الفردية والجماعية الى السلطات ٬ كما وأعربت الاسقفية البولندية عن احتجاجها لهذا المشروع . وعرفت توقيعات أصدقائي وتوقيعي كجزء من (رسالة ال‒59) ٬ التي باشرت عملية الاحتجاج وغدت رمزا لهل . وهذه الرسالة لم تعترض فحسب على التغييرات المخططة سالفة الذكر ٬ بل تضمنت مطالبة السلطات باحترام حقوق المواطن الأساسية ٬ المضمونة في الدستور : حرية الضمير والعبادة ٬ حق العمل ٬ حرية التعبير والاستعلام وحرية البحث العلمي . تحت ضغط الاحتجاج ٬ وربما نتيجة لخوف السلطات البولندية من المواجهة الحتمية المقبلة ٬ والتي ستكون أشد حدة ٬ لأنها كانت سوف تجري مع العمال ٬ وافقت السلطات على بعض التنازلات .

في 25 حزيران 1976 اندلع اضراب في بولندا شل جزءا كبيرا من اقتصاد الدولة . لم يقم أحد بتنظيم الاضراب . لقد كان عفويا وتفشى في جميع البلاد . وفي مدينتي رادوم وأورسوس تفجر احتجاج العمال الى خارج المصانع . ووقعت حوادث مثل احتراق مبنى لجنة الحزب ٬ معارك في الشوارع مع الشرطة ٬ وانزال قطار عن السكة الحديدية . لقد جاء رد فعل العمال يوما واحدا بعد الاعلان عن رفع أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية . وفي اليوم نفسه ألغيت خطة رفع الأسعار . الا أن الهدوء لم يستتب . وبدأت حملة اعتقالات جماهيرية في أوساط العمال الذين اشتركوا أو كانوا سيشتركون في عمليات الاحتجاج . عذب المعتقلين وضربوا . انها لاحدى مساخر القانون . أدين نفس الأشخاص عدة مرات وبالتهم ذاتها ! وظهر وكلاء الشرطة في جلسات المحكمة وأدلوا بشهاداتهم حول سلوك أناس لم يتواجدوا في أماكن الاصطدامات . بهذا الأسلوب انتقمت السلطات ٬ أو على الأقل ذراعهم التنفيذية ‒ الشرطة ومصلحة الأمن ‒ من العمال الذين كانوا سبب أهانتها .

ردا على اتساع نطاق التعسف السلطوي ٬ أنشأ حوالي عشرين من رجال الفكر البولنديين المعروفين ٬ لجنة الدفاع عن العمال (ك.و.ر)٬ في ايلول 1976 . ومن بينهم الأديب المعروف (ييجي أندجيفسكي) والاقتصادجي المشهور أ. ليبينسكي ٬ وهو من قدماء زعماء الحركة العمالية ٬ ومن بين الأعضاء المؤسسين للجنة ي. كورون ٬ ي. ليبسكي .

وضعت اللجنة في طليعة أعمالها المساعدة القضائية والمادية للعمال الملاحقين . ووجهت نداء الى الأهالي البولنديين بالاخبار عن خرق القانون على أيدي السلطات ٬ والاحتجاج على ذلك ٬ كما وتضمن النداء ارسال تبرعات مالية لمساعدة العمال الملاحقين وعائلاتهم . وبدأت اللجنة بنشر اعلانات باستمرار ٬ تندد بالارهاب المعادي للعمال ٬ وتكشف النقاب عن تجاوز صلاحيات القانون وتطالب السلطات بوضع حد لهذه التصرفات . بدأت تصل الى اللجنة تبرعات المواطنين البولنديين بعشرات الوف الزلوطي (العملة البولندية) .

منذ اللحظة الأولى عملت اللجنة في وضح النهار . جلساتها كانت مفتوحة . وظهر ممثلو اللجنة علنا في المحاكمات التي جرت ضد العمال . جمعت التبرعات علنا ونشرت اعلانات عن كيفية استخدامها . وكانت الاتصالات مع المراسلين الأجانب علنية والهدف منها تزويد الرأي العام العالمي ٬ ومواطني بولندا بشكل غير مباشر ٬ بالمعلومات عن الاضطهاد ونشاطات اللجنة ونشاطات مدنية أخرى . كما وتم نقل المعلومات هاتفيا وعلنا الى الأصدقاء الموجودين في الغرب ٬ عما يجري في البلاد . لقد خرجت الجنة سوية مع مئات المتعاونين معها ضد احتكار النشاط والمعلومات ٬ الذي يستند عليه المنهج التوتاليتاري الذي فرض على بلادي . وتحت ضغط الرأي العام بدأت السلطات بالتراجع . وبفضل نشاط اللجنة ٬ الى حد كبير ٬ تم اطلاق سراح معظم العمال الذين أدينوا بعد حزيران 1976 . وكان من بين الذين أطلق سراحهم أناس أدينوا قبل شهرين باسم القانون لتسع سنوات من الحبس . ولا يعني هذا أن القمع قد توقف . انه مستمر ٬ لكن ٬ ويجب الاعتراف ٬ بشكل ألطف .

أملا في انخفاض مستوى التعبئة في صفوف العمال الأكثر جرأة ٬ صعدت السلطات القمع ضد أعضاء اللجنة وضد المتعاونين معها . فتزايدت أعمال التفتيش في المنازل والتحقيق والاعتقال . يبدو انه منذ الحظة التي وضعت فيها لائحة الاتهام ضدنا ٬ دخل الاضطهاد مرحلة جديدة ضد أوساط أهل الفكر الذين اسمعوا صوتهم من أجل العمال ووقفوا الى جانبهم .

أود أن أثق هذه الرسالة ستصل الى أيدي أصدقائي في بولندا . لذا أود أن أوضح لماذا لم أرجع الى بولندا منذ اقامة اللجنة ٬ لماذا لم أشترك في تاريخها القصير لغاية الآن ٬ والحافل بنتائج سياسية ونفسانية ؟ لماذا تغيبت عن البلاد عندما ضرب أعضاء اللجنة وشركائها ؟ لم يتملكني الخوف ٬ بيد أني كنت وما زلت قلقا لمصير أصدقائي في بولندا ٬ زد على ذلك أن وضعي يعد خطيرا هناك . لقد اعتقدت انني بوجودي هنا في الغرب أكون أقدر على المساعدة في سبيل قضيتنا المشتركة ٬ ولتوسيع تلك القطعة من الحرية والعدالة في بلادنا . هنا في الغرب استطعت الادلاء بشهادات ٬ حاولت طبقا لمقدرتي أن أشير الى الوضع الحقيقي في بولندا والى مقاومة الأهلين ٬ وظهرت شهاداتي في مقالات في الصحف الغربية ٬ وفي مقابلات أجريت معي ٬ في محادثات مع شخصيات سياسية ٬ مع نشطاء نقابات مهنية ومع صحفيين في بلدان أسعفني الوقت لزيارتها : فرنسا ٬ انجلترا ٬ السويد ٬ المانيا الفدرالية (الغربية) ٬ الدنمارك وايطاليا . لقد تصرفت هكذا لكوني مقتنعا بوجود حليف هام لنا في الغرب : الرأي العام ٬ لهذه البلدان وفي طليعتها اليسار الغربي والحركة النقابية . لقد آمنت أن ما أفعله سوف يخدمكم أيضا ٬ وعرفت أنني من المحتمل أن أدفع ثمنا باهظا ٬ لقاء ما أقوم به ٬ سوية معكم ٬ هذا الادراك المزدوج سهل علي المكوث في الغرب ثمانية أشهر .

اليوم أغادر باريس ٬ وقبل ذلك أود أن أتوجه ثانية بالدعوة الى الرأي العام في الغرب وخاصة اليسار . التهم التي صيغت ضدنا رسميا تبدو سخيفة لكل من يعرفنا في بولندا والغرب . السبب الحقيقي لاتهامنا هو شيء آخر ٬ يتهموننا وبشكل غير مباشر ٬ ويتهمون مئات من أصدقائنا بأننا لا نحترم احتكارية الدولة للتعبير والنشاط . ليست العلاقات مع منظمة خيالية هي التي تقلق السلطات ٬ وليس هو هذا السبب لمحاكمتنا .

ان ما يقلق السلطات خاصة العلاقات مع “الأجانب” ٬ مثل النداء الى الرأي العام الديمقراطي في الغرب ٬ ومن ضمن موقعيه اثنان منا (نوفيل أوبزرفتور ٬ تموز 1976) ٬ مثل الرسالة التي بعثها ياتسك كورون الى السكرتير العام للحزب الشيوعي الايطالي برلينجر (وطلب فيها كورون التدخل لصالح العمال المضربين الذين جرت محاكمتهم وقتئذ ‒ المترجم) ٬ مثل زيارتي مع لشك كولاكوبسكي لدى جيانكارلو بايته ٬ عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الايطالي ٬ ولدى بتينو كراكسي سكرتير الحزب الاشتراكي الايطالي ٬ ومثل لقاء لشك كولاكوبسكي مع فيلي براندت .

في السنتين الأخيرتين سعى الرأي العام في الغرب وخاصة اليسار الغربي ٬ كثيرا لانقاذ الناس المضطهدين في أوروبا الشرقية ٬ ضحايا الملاحقة والسجون والغولاغ ٬ وكفي بذكر العمليات لحماية بليوشتش ٬ بوكوبسكي ٬ ميلر (زعيم الطلبة التشيكوسلوفاكيين ٬ في 1968 ٬ 1969 ‒ المترجم) وشترن . وفي الغرب دافع اليسار بشكل تضامني عن موقعي “ميثاق 77” وعن العمال البولنديين الذين جرت ملاحقتهم بعد حزيران 1976 .

كل عمليات المناصرة هذه جرت بعد محاكمة المتهمين أو اعتقالهم أو اجلائهم . ولأسباب واضحة يصعب عادة تعبئة الرأي العام قبل معرفة العمليات التي تتخذها السلطات ٬ وقبل معرفة عوامل الملاحقة أو ذرائع الاعتقالات .

الا أنه في مثل هذه اللحظات بالذات ٬ يستطيع تدخل الرأي العام أن يكون أنجع وأشد تأثيرا على تصرف السلطات في هذه البلدان ٬ وأن يردعها عن ممارسة وسائل الاضطهاد التعسفي ٬ هذه الوسائل التي ليس فحسب أنها لا تحملّ شيئا ٬ بل تخلق فجوات الكراهية والمرارة .

انني أتوجه أولا الى اليسار في الغرب ٬ أعتقد أن مساعدة المضطهدين في شرق أوروبا حيوية لنا مثلما هي حيوية لليسار الغربي ٬ سواء كان المضطهدين شيوعيين أو اشتراكيين أو نشطاء نقابيين . وسواء شاءوا أم أبوا ‒ فنحن نشكل جزءا من مسيرتهم . لهذا السبب يتوجب على اليسار بالذات أكثر من سواه ٬ النضال كي تحترم اليوم ٬ حقوق الانسان الأساسية في شرقي أوروبا ٬ وكي تستعاد غدا الحرية الكاملة والديمقراطية .

*

في هذا العدد :

المعارضة اليسارية للأنظمة في أوروبا الشرقية

تشيكوسلوفاكيا : النضال من أجل الديمقراطية هو نضال ثوري !