كمال جنبللاط
غاب كمال جنبلاط … لكن تاريخ لبنان الحديث سوف يظل يحمل الى الأبد بصمات القائد الذي ما كان لمثله الا ان يسقط شهيدا وهو بعد في ذروة الملحمة .
والذين كانت تحرقهم الحيرة وهو يرون كمال جنبلاط لصيق دوره الشامخ ابدا ٬ قائدا للجماهير في نهوضها كما في كبوتها ٬ في انتصاراتها كما في هزائمها ٬ هؤلاء لم يدركوا سر الرجل ولم يفهموا لماذا تتجدد له القيادة دائما .
كان كمال جنبلاط مزيجا من طموح بلا حدود ٬ واستقلالية تشارف العناد في طلب الاستقلال ٬ وايمان بالديمقراطية يتجسد في الاستعداد لبذل الشهادة من أجل الحرية كل لحظة ٬ ولبنانية يدرك صاحبها عميقا كم ترتهن وحدة لبنان أرضا وشعبا وكيانا وطنيا بصموده في الموقع الذي جعل منه رمزا لوحدة لبنان ٬ وعروبة شفافة يتعانق فيها التراث الزاخر مع أرحب التطلعات الى مستقبل مفتوح الآفاق على وحدة للعرب لبنان في القلب منها وليس على هامشها ٬ (…)
واحساس بالانتماء العالمي الى معسكر التحرر والتقدم لا يخطئ في الأسس ولا تجرفه السياسات الصغيرة … ولأن كمال جنبلاط كان يختزن في شخصيته هذا المزيج الغني من الأفكار والأشواق والتطلعات ٬ نهضت تلك الصلة الفريدة بينه وبين الشعب وانعقدت له القيادة .
لم تكن صفاته تلك تتيح له ٬ كما كان يخيل للبعض ٬ ان يلعب دوره خارج احكام التاريخ على مزاجه وهواه ٬ بل كانت تمنحه بالضبط مؤهلات استثنائية جعلته يمتلك تلك القدرة الفذة على الاستجابة الخلاقة لحركة التطور ٬ وتلك الحساسية النادرة تجاه المنعطفات التي يجتازها نضال الشعب والتي يصبح عندها دور القائد في مواكبة هذا النضال ٬ فعلا وانفعالا ٬ يكاد يعادل مصير القضية برمتها .
لذا نجد أنفسنا ٬ لدى أية قراءة منصفة لتاريخ لبنان خلال السنوات الخمس والعشرين الأخيرة ٬ حيال دور حاسم لكمال جنبلاط كان يأتي ليتوج في كل مرة واحدا من اطوار النضال الوطني الديمقراطي المديد الذي سخا شعبنا بالتضحيات وهو يتمرس به . ولسنا هنا لنعرض كل الاطوار ومعها كل الادوار الحاسمة التي لعبها كمال جنبلاط ٬ والا انقلب عرضنا عرضا لتاريخ لبنان الحديث كله .
يكفي ان نتوقف امام ملحمة النضال الأخيرة التي خاض شعبنا غمارها وما يزال والتي في ذروتها سقط القائد اليوم شهيدا (…)
وكانت المعادلة التي ترتسم امامنا تشير بوضوح الى ان الساحة اللبنانية هي الممر السياسي الاجباري الذي لا بد ان يسلكه المخطط وصولا الى تحقيق هدفه الأخير . وبدا واضحا انه حين يمر المخطط من هنا فلن يغادر لبنان الا وقد اطاح بكل ما جناه هذا البلد من مقومات الوحدة وما حققه من تجاوز لعهد الظلمة الطائفية الطويل .
وامام هذا المنعطف كان علينا قول الكلمة الفصل (…)
ومضت ملحمة النضال الوطني الديمقراطي بقيادة كمال جنبلاط تكبر وتتسع . ومعها كان ينمو ويتعاظم احساس الجماهير العربية بأن ما يجري على أرض لبنان سوف يرسم معالم المستقبل العربي الى أمد طويل ٬ وبأن هؤلاء الوطنيين اللبنانيين الصامدين في الممر انما يدفعون بصمودهم ضريبة باهظة لقاء حجز المؤامرة عن الأمة العربية كلها . ومع استمرار الملحمة كان يتأكد ويتجسم أيضا البعد العالمي لهذه المعركة الوطنية التي يقودها كمال جنبلاط .
واذا كانت المسيرة قد اجبرت على الانكفاء فان عوامل الصمود ظلت كامنة تهدد المخطط بالفشل في كل لحظة (…)
نعرف ان الذين قتلوه أرادوا من وراء ذلك تذليل العقبة الكؤود التي ما زالت تنتصب امامهم في الممر وتمنع المخطط من ان يبلغ منتهاه . لكننا نقولها ٬ ليس من قبيل المكابرة ٬ بل كي تشهد الأيام عليها وعلينا : ان الممر سوف يبقى مغلقا على المخطط وأصحابها . وستبقى العقبة هي العقبة . لأن الواقف هنا هو شعبنا بكل ما يختزن من عظيم العطاء ٬ ولأن الذي كنا نستهدي بقيادته سواء السبيل في حياته سوف يبقى ملهما لنا بعد مماته وستعرف جماهيرنا كيف تحول انتكاسة استشهاده الى منطلق لنهوض وطني شامل جديد .
وبعد ٬
ما اشق الكلام في وداعك أيها الرفيق والصديق والقائد .
وما اشق علينا ان نعتاد لبنان بدونك وأيامنا بلا لقاء معك واجتماعاتنا بغير رئاستك وطريقنا الطويل بغير رفقتك .
اذا كان العالم من حولنا يردد في اذاعاته وعلى السنة مسؤوليته : لبنان بلا كمال جنبلاط … أي بلد سيكون ؟ فكيف بنا نحن ‒ في الحركة الوطنية ‒ وقد رافقك بعضنا منذ عشرين عاما كان خلالها تاريخ الاشياء والأحداث شديد الامتزاج بمجريات العلاقة معك .
والذين من بيننا ربطتهم بك صداقة مديدة ٬ صداقة عمر ٬ وقد كنت خير الأصدقاء … كيف وبمن يعوضون فراغ صداقتك وذلك اللون من الاحساس الذي كنا نستقوي به جميعا على المحن حين نتذكر ان صخرة تظل صامدة يمكن ان يتكئ عليها كل المتعبين اسمها كمال جنبلاط .
ثق ان وفاءنا سيكون أقصى ما يستطيعه الانسان من وفاء . وان الحركة التي اعطيتها عمرك ستكمل المسيرة التي كانت حلمك الأكبر .
(عن مجلة “الحرية”)
[محسن ابراهيم كان أمين عام منظمة العمل الشيوعي في لبنان وأصبح أمينا عاما للحركة الوطنية اللبنانية]
[صدر العدد الأول من مجلة “الحرية” في بيروت في 4/1/1960 ، وكانت آنذاك ناطقة باسم “حركة القوميين العرب” . انتقلت في 22/2/1969 لتصبح ناطقة باسم يسار الحركة ممثلاً على الصعيد الفلسطيني باسم “الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين” ، وعلى الصعيد اللبناني باسم “منظمة العمل الشيوعي في لبنان”.]