نشر في “متسبين” ، العدد ٧٨-٧٩ ، أيلول ۱٩٧٦)

‏ان خلاصة الدرس من الأحداث في لبنان والذي تسطر حروفه يوميا بدماء سكان الأحياء الخربة المخترقة في تل الزعتر هي انه ليس للجماهير في الشرق العربي من نصير سوى نفسها ولا بديل لادراك ووعى هذه الجماهير مثلما لا بديل لقوتها ، وكل قذيفة ترمى صوب مخيم الزعتر تقوض من الأساس أسطورة وحدة العرب : مستغَلين ومستغِلين ۰ وكل حريق يشب في هذا المخيم فانما يلتهم الخرافة المشهورة عن الطابع التقدمي المزعوم والثوري ظاهريا للأنظمة المدعوة “تقدمية” مثل سوريا ۰ بعبارة أخرى : المعارك الدائرة في لبنان ، تعلمنا ان الوحدة القومية كذبة يشيعها الحكام لكي يتمكنوا بواسطتها من السيطرة على المحكومين ، هي ضريبة كلامية ترمى الى بلبلة وعى الجماهير المستغَلة كي يستسلموا لمستغليهم ويذعنوا لهم ۰ وحين لا يجدى هذا الكذب ولا ثسفع هذه الضريبة ، يستخدم هؤلاء الحكام قوتهم الوحشية القتالة ۰

‏فاذا بلأسد فجأة “ينسى” الأحاديث السامية عن “‏الوحدة القومية” لجميع العرب ، واذا بالأسد يجرد جيشه العربي لقمع الجماهير العربية ۰ واذا “بمحامي” الفلسطينيين يصبح سفاحهم ، واذا “بالمناضل” ضد الامبريالية ينفضح عميلا لها ، واذا بالذي تشدق بالنصر على الصهيونية يتعرى عن حليف لها في الواقع ۰

‏ولنذكر أقوال يتسحاق رابين في حافظ الأسد : “سيستمر القتال في لبنان حتى تتم الهزيمة المؤكدة لمنظمة التحرير الفلسطينية ولمنظمات الارهاب واليسار المتطرف” (هآرتس ۱۲–٧–٧٦) ۰ ونشرت نفس الجريدة وفي نفس التأريخ تصريحات لحاكم محلى آخر من أنصار الأسد الا وهو ملك ايلول الأسود : “اننג مقتنع ان الأهداف لسوريا هي اعادة السلام وحل النزاع عن طريق التفاوض” واذا لم تظهر حقيقة حافظ الأسد بعد ، فاننا نذكر أيضا بالاضافة الى تضامنات رابين وحسين ، بما ابداء هنري ‏كيسنجر من تفهم وتأييد للأسد ، اذا هذا هو الأسد: يحظى بتبريكات الصهيونية والرجعية العربية والامبريالية ۰

‏وليس هذا الأسد الذي أمامنا وليد صدفة ، وخاصة باعتبار ماضيه وبالفصل بين أعماله وأقواله الرائعة عن “‏البعث” و”التحرير” و”التضامن مع اللاجئين” و”وحدة الشعوب العربية” ۰

‏فى ايلول ١٩٧٠‏عندما كان الأسد قائدا لسلاح الجو السوري منع تقديم العون الجوي للفلسطينيين الذين وقفوا مدافعين عن أنفسهم أمام الغارات القتالة التي شنها الملك الهاشمي عليهم ۰ وقبل ذلك أيد الأسد حلفا أردنيا سعوديا سوريا ۰ وهكذا يكتب أريك رولو في “‏لاموند” ‏الصحيفة الفرنسية :

‏”ان ثمة أسباب كافية لدى الولايات المتحدة والدول العربية المحافظة لمباركة “اتجاهات التصحيح” ‏والذي بدأ بها الرئيس الأسد لدى وصوله الى الحكم عام ١٦٧٠ ‏، فقد قطع كل صلة له مع “‏يسارية” سلفه والذين كانوا بعثيين كذلك ، الا انهم كانوا من أنصار الخط “‏العنيد” الذي انتحاه الجنرال صلاح جديد ۰ فقد أعاد (أي الأسد) العلاقات مع الولايات المتحدة الى وضعها “الطبيعي” ‏وأنشأ علاقات صداقة مع اشد الأنظمة محافظة في الشرق الأوسط (الأردن ، ايران ، العربية السعودية وامارات الخليج) وفتح أبواب سوريا على مصاريعها أمام الرأس مال ورجال الأعمال والمضاربين من بلدان النفط الثرية” ۰

‏ويستمر رولو في وصفه :

‏”ان المزيد من الليبرالية الاقتصادية – والتي تقوت بعد حرب تشرين قد شكل حافزا للقطاع الخاص وادى الى زيادة النشاط بشكل ملموس في هذا المضمار – ولأجل تأمين الرأسمال الوطني والرأس مال الأجنبي فان السلطات ‏تفكر في امكانية تعويض أصحاب الأسهم في عدد من الشركات الكبرى التي أممت منذ وصول البعث الى الحكم سنة ١٩٦٣ ‏. واعترافا لسوريا بهذا الجميل منها وتشجيعا لها فقد مدت دول النفط يدا لمساعدة وأدخلت الى صندوق الدولة حوالي ستة ملياردات فرانك في الفترة بين ١٩٧٤-١٩٧٥ ٠

‏”وقد كشف النقاب عن ذلك نائب رئيس الدولة والمسؤول عن القطاع الاقتصادي محمد حيدر ۰ وتقدم الولايات المتحدة لسوريا هبة سنوية مقدارها ثمانون مليون دولار ۰ ولا شك أن هذا السخاء الأمريكي سيزداد فيما اذا افلح كيسنجر باشراك الكونجرس في مشاعر “الاحترام والتقدير” التي يكنها للرئيس الأسد ۰ ولا يشك أحد في نوايا الأسد الحسنة ۰ وبايحاء منه ضوعفت قيمة التبادل التجاري مع الولايات المتحدة الى ثمانية أضعاف بالمقارنة عما كانت عليه عام ١٩٧٢ ۰ وارتفعت نسبة الاستيراد من دول السوق المشتركة ، من ٢٦ ‏بالمئة من مجمل الاستيراد الاقتصادي لعام ۱٩٧٠ ‏الى أكثر من ٤٠ بالمئة في العام الماضي ۰ هذا في الوقت الذي أصبح فيه الاستيراد من من الدول الاشتراكية في هبوط مستمر رغم المشاريع الضخمة مثل سد الفرات الذي تعهد به الاتحاد السوفييتي”.

*     *     *

‏انتهى كلام اريك رولو وهو غنى عن البيان ، فالرجل ألذي ادعى بأنه زعيم العرب جميعا انفضح كممثل للمستغلين العرب ۰ لذلك فاننا نعود ونؤكد حقيقة أساسية مشتركة لجميع الاشتراكيين الثوريين في العالم: في المجتمع الرأس مالي – مجتمع الاستغلال السائد في عصرنا – لا توجد وحدة قومية واذا وجدت ((وحدة)) كهذه فهي تعني وحدة واتحاد المستغلين والمستغلين ۰ وهذه ((الوحدة)) لا تكمل ولا تتم الا بتوفر شرط واحد : بتنازل المستغلين والكادحين لمستغليهم – بشرط ‏أن تضع الجماهير مصالحها في خدمة مصالح الأقلية المسيطرة ، وبشرط أن يسلم العمال والفلاحون باستمرار سيطرة البرجوازيين وأصحاب الأراضي وبشرط أن يحفظ ((الهدوء)) ويحترم ((القانون والنظام)) وبشرط أن يحلف جميع السياسيين – الممثلون الحقيقيون للبرجوازية وأصحاب الأراضي وكذلك الممثلون المزيفون للعمال والفلاحين – بقدسية الوضع الاجتماعي القائم ، بشرط أن يستمر العمال في عملهم في المصانع والفلاحون في فلاحة الأرض وان يستمر أرباب الصناعة وأصحاب الرساميل وأصحاب الأرض في تقديس الأرباح على حساب العمال والفلاحين !

‏ولا ينبغي لحقيقة وجود ممثلين عن الحزب الشيوعي في حكومة الأسد أن تحول دون رؤيتنا لحقيقة سيطرة نظام استغلالي ورأسمالي في سوريا ولا ينبغي لوجود ((روابط وثيقة)) و ((تأثير)) للاتحاد السوفياتي في سوريا أن تضللنا عن رؤية حكام سوريا على حقيقتهم كأعداء للجماهير العربية بما في ذلك الفلسطينيين ۰ ولا تستطع حقيقة كون الأسد يحارب الفلسطينيين بسلاح سوفياتي أن تغطى على كون الطبقات المستغلة الحاكمة في العالم العربي حليفة الامبريالية وجزء من النظام الرأسمالي العالمي ۰

*     *     *

 وبحكم كون الأسد من ابرز الممثلين للطبقات المستغلة في ‏العالم العربي فقد حاول التحايل على الجماهير العربية وايهامها انه حاميها ، والمحارب من اجل حقوق الفلسطينيين ۰ وقد نجح في هذه اللعبة لفترة قصيرة ۰ حتى ذعر في النهاية وحصر اللثام عن سحنته ۰ وذعره راجع الى تلاحم الجماهير المستغلة والمسحوقة في لبنان والتي تحارب في سبيل نيل حقوقها وكسر امتيازات البرجوازيين مع الفلسطينيين ۰

ان الطاقة التي يختزنها الصراع الطبقي في لبنان ، فيما اذا اتحدت مع الطاقات الكامنة في كفاح الفلسطينيين من أجل تحررهم القومي ، قد تشكل تهديدا للنظام الاجتماعي في لبنان والذي كان يعد في الأمس القريب ((سويسرا الشرق الأوسط)) ۰ ان تلاحم هذه الطاقات قد يتجاوز حدود لبنان ويؤدى لاشعال حرائق في المنطقة بأسرها ۰ لهذا رأينا الأسد يهرول مذعورا لحصر الحريق واخماده في ‏لبنان ۰

‏وبالاضافة الى فزع حكام سوريا من انهيار الوضع الاجتماعي الراهن في لبنان فانهم يريدون أيضا لجم الفلسطينيين والسيطرة عليهم وتقديمهم مهرا بعثيا الى المطبخ الأمريكي حيث يطبخون فيه تسوية ۰ والبديل الذي يصبو اليه الأسد : انسحاب اسرائيلي من الجولان وموافقة الولايات المتحدة على زيادة نفوذه في الأردن ولبنان وربما في الضفة الغربية أو أجزاء منها ۰ هذا اذا أثبت الأسد للأمريكان بأنه ((لها)) وأنه يمكن ((الاعتماد عليه)) ‏طبعا بصفته زعيم العرب قاطبة وحامى الفلسطينيين !

‏وفى طليعة أهداف الطبقات المستغلة وخاصة البرجوازية يقف هدف أساسي وهو جعل سوريا بلدا ((آمنا)) تستثمر فيه الرساميل الأجنبية ويرسى فيه اقتصاد رأسمالي ، طبعا ، من خلال استغلال العمال والفلاحين ، الذين سيطلب منهم دائما ((المحافظة على الهدوء)) و((صيانة الوحدة الوطنية)) !

‏لقد انزل الغزو السوري للبنان ضربة على رؤوس المضللين في أمر ((الأنظمة المعادية للامبريالية ، التطور الاشتراكي في سوريا وفى مصر من قبل ، والتأثير السوفييتي المتزايد والى آ‏خره ۰۰۰)) ۰

‏فانظروا ، مثلا ، الى موقف الشيوعيين ۰ ففي سوريا يستمرون في الاشتراك في حكومة الأسد السفاحة ۰ وفي اسرائيل يتحفنا الشيوعيون بتفسيرات عديمة المعنى وذلك للتغطية على اعتداء حكام سوريا الذين يتعاطون حمامات الدم ۰ فهذه مثلا (“زو هديرخ” ، ۱۲–٧–٧٦) كتبت : ‏”لا يزال الوضع في لبنان كثير التقلبات والتطورات ، مليئة بالتناقضات” ۰

‏مفهوم ؟ ‏! ۰۰۰ “بينما المساعي مستمرة لتهيئة مناخ للمفاوضات بين الجبهة اللبنانينة الوطنية وبين زعماء سوريا فان ثمة تطورات تعرقل ذلك”؟ انطقوا يا محرري صحيفة ركاح ، قولوا ما هي “التطورات التي تعرقل ذلك” ؟!

‏وفي مكان آخر من نفس العدد “زو هديرخ” وفي مطلع مقال تورد اقتباسا عن معلق سوفييتي يقول: “ان الوضع في لبنان معقد الى درجة انه لا يجرؤ احد على التنبؤ متى سيوضع حد لسفك الدماء ومتى سيعود السلام هناك” ۰

‏وتورد “زو هديرخ” بعد كلام المعلق السوفييتي الذي اقتبسنا بعض درره اليتيمة ، مقالا كاملا لا تذكر فيه سوريا الا مرة واحدة ۰ وهل يقدر احد من القراء أن يتكهن حول الدور الذي تنسبه – “زو هديرخ” – لسوريا ؟ انه دور الوسيط الذي حقق وقف اطلاق النار قبل نصف سنة (في يناير ١٩٧٦‏) ! !

‏وبالاضافة الى ركاح هنالك قوى اكبر وزنا تلقت أيضا ضربة نتيجة للغزو السوري ، منهم زعماء منظمة التحرير الفلسطينية وعلى رأسهم ياسر عرفات ، والذي دعا الى عدم تدخل الفلسطينيين بما يجرى في الدول العربية ، وبالمقابل طالب عدم تدخل الدول العربية بما يجرى لدى الفلسطينيين ۰ هذه المطالبة ذهبت ادراج الرياح ۰ أولا لان الجماهير الفلسطينية المقاتلة قد صوتت بالبندقية من اجل بلورة استراتيجية ثورية لربط نضالها بنضال الجماهير المستغلة في العالم العربي ۰ هكذا يجب فهم الحلف الذي اقيم بين الفلسطينيين واللبنانيين بدون طقوس ومراسيم ۰ وثانية : ان أعداء الجماهير يدركون انه يجب عدم فصل النضالات في العالم العربي الواحد عن الآخر ، لذا فقد تدخل الجيش السوري محاولا كسر القوة المشتركة للفلسطينيين واللبنانيين والتي تشكل تحديا لجميع أنظمة الاستغلال في العالم العربي ۰

‏طبعا نحن لا ننسى في تحديدنا هذا ( ان الحلف أو التلاحم الفلسطيني – اللبناني يشكل تحديا لأنظمة الاستغلال في العالم العربي ) انه يقف في صدر هذا النضال زعماء مثل كمال جنبلاط ويحظون بغير حق بمنزلة ((الزعماء اليساريين)) ۰ ان جنبلاط وأمثاله لا يمثلون خطا اشتراكيا ثوريا بل خطا اصلاحيا برجوازيا ، ان جنبلاط يناضل من اجل تحويل لبنان الى دولة علمانية وديموقرا طية ۰ يعنى برجوازية ۰ يعنى بعد أن يحقق أهدافه فلن يحل المشكلة الاجتماعية للعمال والفلاحين في لبنان ۰

‏بل ان أقصى ما يكسبه اللبنانيون يكون نظام استغلال (( حديث )) أكثر مما هو عليه النظام الحالي ۰

*     *     *

‏يوجد للحركة القومية العربية غاية رئيسية ، وهي توحيد العالم العربي يعنى الغاء التجزئة الامبريالية وبلورة الشعوب العربية في أمة واحدة ۰ والقضية الفلسطينية ، كائنة ضمن هذا ‏الاطار ۰ أي أن تحرير الفلسطينيين قوميا لن يتجاوز ادخالهم الى نفس المرحة التي تعيشها بقية الشعوب العربية ۰

‏وفي لبنان يقوم جيش عربي قومي بطعن الفلسطينيين من الخلف ، بينما رابين وكيسنجر يهللون لقيام الأسد بدورهم ۰

‏فما تأويل ذلك ؟ ‏هل حدث خطأ أو سوء فهم ؟ ‏كلا ۰ تأويل ذلك أن العروبة بحد ذاتها لا تضمن وحدة عربية وتحريرا قوميا للفلسطينيين فالعالم العربي مقسم الى طبقات مستغلة ومستغلة واذا وقع اصطدام بين المصلحة القومية المشتركة وبين المصالح الطبقية المتفاوتة تكون الغلبة للمصلحة الطبقية ۰

‏لذلك فاننا نقول : ان تحرير الشعب العربي الفلسطيني وتوحيد الشعوب العربية لن يتحققا ولن يتجسدا على الوجه الأكمل وبشكل أساسي بدون نضال المستغلين طبقيا ضد مستغليهم ۰ أي لا ‏يوجد تحرير قومي بدون تحرير اجتماعي ۰

‏وبهذا المعنى فان الغزو السوري يكون قد ساهم في تعرية الطبقات الحاكمة في العالم العربي والكشف عن سحناتها البشعة على رؤوس الاشهاد ۰ ولن تعتمد الجماهير بعد على هؤلاء المسيطرين ، ولا طريق أمام الجماهير الا بأخذ مصيرها بأيديها وتكنيس مستغليها من بين ظهرانيها ۰

‏ولئن كانت ملحمة تل الزعتر البطولية قد انتهت بالهزيمة الدموية ، فلقد سجلت خالدة في تأريخ مسار التحرر الكامل للجماهير في الشرق العربي ۰

مركز المنظمة الاشتراكية الاسرائيلية “متسبين”

١٦ آب ١٩٧٦