قبل أربعين عاما ٬ وبالتحديد في 19 نيسان 1936 ٬ بدأ أبناء الشعب العربي الفلسطيني اضرابا شاملا ٬ وبشكل أساسي كان الاضراب موجها ضد الاستعمار البريطاني المتحكم في البلاد ٬ وضد سياسته الملتزمة بدعم الحركة الصهيونية التي كانت تسعى لاقامة دولة يهودية في فلسطين بكاملها . وتجاهلت السياسة البريطانية وجود الشعب العربي الفلسطيني وحقه في تقرير المصير والسيادة السياسية في وطنه .
وفي غضون السنوات 1930 ‒ 1935 ارتفع عدد السكان اليهود ٬ تحت القيادة الصهيونية ٬ من ربع مليون الى أربعمائة الف نسمة نتيجة للهجرة الواسعة من أوروبا . وبلغ عدد السكان العرب الفلسطينيين وقتئذ في البلاد قرابة المليون نسمة ٬ وبالنسبة للفلسطينيين فقد شكل هذا التغيير الديموغرافي خطرا عظيما ٬ اذ لم يهاجر اليهود الى هذه البلاد فرارا من الاضطهاد ٬ وانما لهدف سياسي واضح : خلق أكثرية واقامة دولة يهودية مقصورة على اليهود ٬ والتي كان تطبيقها يجري بالحتم على حساب أبناء البلاد .
وخلال هذه السنوات شنت الحركة الصهيونية حملة واسعة لشراء الأراضي العربية : فتم شراء أراضي وادي الحوارث (عيمق حيفر) من أصحابها الأفندية . وقام المستوطنون الصهيونيون بطرد الفلاحين المستأجرين من أراضيهم بمساعدة الشرطة البريطانية . لقد قال جورج أنطونيوس وهو من المفكرين الفلسطينيين البارزين في الحركة القومية الفلسطينية أنه يعارض استمرار الهجرة اليهودية الهادفة الى اقامة دولة يهودية في البلاد ٬ لأنه ليس من المناسب أن يدفع الشعب الفلسطيني ثمن اللاسامية الأوروبية في الماضي والحاضر هذا في الوقت الذي يعد العالم العربي هو الوحيد الذي عامل الجاليات اليهودية التي عاشت لديه معاملة حسنة . (وفي هذه الأيام كذلك تسمع دعوات مشابهة ) .
لقد اقترح وقتئذ اقامة مجلس تشريعي تمثيليّ ذي صلاحية محدّدة يشترك فيه فلسطينيون ويهود وخمسة موظفين بريطانيين . فعارضت الحركة الصهيونية هذا الاقتراح ٬ وذلك رغم أن نسبة السكان اليهود لم تتجاوز 30% من مجموع سكان البلاد . لقد أراد الصهيونيون ضمان أكثرية ساحقة لأنفسهم في المجلس المقترح ٬ ونتيجة لضغوطهم صوّت البرلمان البريطاني ضد اقامة المجلس .
وكان واضحا للفلسطينيين أن الاستعمار البريطاني يعتبر الحركة الصهيونية اداة لخدمة مصالحه ٬ وان الكفاح ضد تحويل البلاد الى دولة يهودية يجب أن يتركز في المقام الأول ضد الاستعمار البريطاني حامي الصهيونية .
وفي سنة 1935 اجتاحت البلاد أزمة اقتصادية أدّت الى طرد عمال وبطالة ٬ وبشكل طبيعي فقد كان المتضرر الرئيسي هم العمال الفلسطينيين ٬ فهؤلاء كانوا أساسا فلاحين طردوا من أراضيهم . وكسبا للقمة العيش فقد تحولوا الى عمال ٬ وفي الأزمة الاقتصادية طردوا ثانية من مصدر عيشهم . بالاضافة الى ذلك فقد نشطت خلال سنين حملة صهيونية ‒ ايديولوجية من أجل “العمل العبري” و”اغتصاب العمل” ٬ والذي يعني طرد العمال العرب واحلال عمال يهود مكانهم .
استمر الاضراب الشامل ستة أشهر كاملة مشكّلا بذلك حدثا نادرا في التأريخ ورافقت الاضراب ثورة شعبية ٬ على اثر اعلان اللجنة العربية العليا وقف دفع الضرائب . بالاضافة الى الكفاح السياسي بقيادة اللجنة العربية العليا ورأسها المفتي الحاج أمين الحسيني ٬ فقد نشأ نضال مسلح ضد الانجليز . وبدأت منظمات سرية من الفلاحين المحليين وعدد من المتطوعين من سوريا ٬ تهاجم أهداف بريطانية وتلحق الأضرار بخطوط الكهرباء والتلفون وسكك الحديد وخطوط المواصلات الأخرى ٬ وهاجمت كذلك جنودا ورجال شرطة بريطانيين . كما ووقعت اعتداءات على اليهود . وحتى نهاية 1937 قتل تسعون من اليهود ٬ نصفهم مدنيون والنصف الآخر من الخفراء أو رجال شرطة في خدمة البريطانيين .
لقد اكتسب الاضراب العام طابع الانتفاضة . ولم يكن هدف الاضراب في المرحلة الأولى منه طرد البريطانيين من البلاد ٬ بل وسيلة ضغط لتغيير سياسة بريطانيا الموالية للصهيونية ٬ والمطالبة بتقليص الهجرة اليهودية وحظر شراء الأراضي العربية ٬ والعمل في سبيل اقامة حكم ذاتي في البلاد . هكذا كان رأي زعامة الشعب العربي الفلسطيني ٬ والتي كانت مؤلفة من ممثلي المجتمع التقليدي : رؤساء الحمائل ٬ الأفندية ٬ رجال الدين ودوائر برجوازية من المدن .
لقد أخفق الاضراب العام في تحقيق أهدافه ٬ لأنه لم يشمل جميع سكان البلاد . وأما المستعمرات اليهودية ٬ تحت قيادة الصهيونية ٬ فقد اعتبرت السلطة البريطانية حاميا لها وليس عدوا . ولهذا أدّى الصهيونيون دورهم في كسر الاضراب ٬ اذ سيطروا على فروع الاقتصاد التي أضربت ٬ وبذلك أضعفوا تأثير الاضراب على اقتصاد البلاد . ومع ذلك اضطر الانجليز الى البحث عن حل وسط .
فأقيمت لجنة (بيل) لتقصى الأوضاع . وساد هدوء نسبي في فترة عملها . وكان ذلك نوع من هدنة بين الفلسطينيين والسلطة الامبريالية . وجاءت توصيات هذه اللجنة قاصمة لطموح الفلسطينيين الوطني ولآمال الزعامة التقليدية التي كانت لا تزال ترفع شعار النضال المحدد للتأثير على بريطانيا كي تغير سياستها . لقد أوصت لجنة بيل باقامة دولتان في البلاد . وحسب هذه التوصيات ٬ حدّدت للدولة اليهودية العتيدة مساحة صغيرة نسبيا ٬ يشكل فيها اليهود أغلبية ضئيلة من مجموع السكان . وأوصت اللجنة كذلك باجلاء ربع مليون فلسطيني قسرا ٬ كانوا يقيمون في المنطقة التي حددت للدولة اليهودية المقترحة ٬ الى مجال الدولة العربية المقترحة . لقد كانت هذه التوصيات بمثابة اعلان حرب من قبل الامبريالية البريطانية على الحركة القومية الفلسطينية خاصة والشعب الفلسطيني عامة .
في أواخر ايلول 1937 استؤنفت الثورة المسلحة . فقام ثلاثة فلسطينيين بمحاولة لاغتيالى الحاكم البريطاني في الجليل ‒ أندريوس . واذا كانت العمليات في المرحلة الأولى قد وجهت ضد المستعمرات اليهودية ٬ ففي المرحلة الثانية من الاضراب والانتفاضة الشعبية ٬ أصبح العدو هو السلطة البريطانية ٬ الجيش ٬ الشرطة والادارة .
وفي هذه المرحلة اتخذت الثورة شكلا أوضح ٬ فان اخفاق الزعامة التقليدية واعتقال وطرد الكثير من أفرادها على يد البريطانيين ٬ أخلى دفة القيادة لعوامل جديدة واكتسبت الثورة صبغة انتفاضة فلاحية هدفها طرد البريطانيين نهائيا وتأسيس حكم مستقل من جهة ٬ ونضال اجتماعي ضد كبار ملّاكي الأراضي والبرجوازية في المدن من جهة أخرى . وقد حظى قواد المنظمات السرية الفلسطينية (“العصابات” في القاموس الصهيوني) بولاء الأهالي ٬ كما ولاقت مواقف هؤلاء القواد التأييد الشعبي ٬ خاصة في أوساط الفلاحين أو الفلاحين المشردين . وكانت هذه المنظمات محلية على نطاق مناطق صغيرة ٬ وشارك فيها بشكل رئيسي أهالي القرى الواقعة في مناطق العمليات . وكان مرجع ضعف هذه المنظمات هو تفسخها وارتباطها الشديد بمناطقها المحلية ٬ ومن هنا عدم مقدرتها على الاتحاد لخوض كفاح قومي قطري وشامل . وبعبارة أخرى فان عجزهم ناجم عن فشلهم في تنسيق عملياتهم حسب الضروريات العسكرية . ولم يكن في حوزتهم سوى القليل من الأسلحة القديمة والتي في غالبها مكونة من بنادق تركية من القرن الماضي وغير صالحة للاستعمال .
في هذه الظروف بدت مكاسب الثورة في ضوء آخر . في صيف 1938 وصلت الثورة أوجها . فسيطرت المنظمات المسلحة على معظم قرى السامرة (منطقة نابلس) ومنطقة الخليل والمثلث والجليل . وأغلقت الطرق في هذه المناطق واضطر البريطانيون الى استخدام المصفحات الكبيرة والطائرات لتأمين تحركاتهم على هذه الطرق ٬ واستولت القوات الفلسطينية على بئر السبع لمدة شهر وعلى القدس القديمة أسبوعين وانتقلت جنين وطولكرم الى أيدي الثوار .
وتنظمت في الأماكن المحررة أجهزة حكم ذاتية وأقيمت محاكم محلية في المدن والقرى لمعالجة المشاكل القضائية ٬ بما في ذلك القضاء المدني . وأقيمت ادارات بلدية محلية . وفي القرى لم تعد الادارة مقصورة على الزعامة التقليدية ٬ وانما أصبحت القرى تدير نفسها بنفسها .
واشتدّ النضال الاجتماعي في المدن ٬ وتجلى ذلك مثلا في الصراع حول الزيّ الخارجي . فأصدر الثوار أوامرهم الى سكان المدن باعتمار الكوفية . وكان الطربوش المدينيّ بالنسبة للقرويين رمزا لمنصب الأفندي أو التاجر المديني الذي يستغل علاقته مع الحاكم الأجنبي لكي يستمر في استغلاله للفلاحين .
لم يفلح الفلسطينيون في الاستفادة من مكاسبهم لوقت طويل ٬ وذلك لتفسخهم . واما الانجليز فقد صمموا على قمع الثورة مهما كلفهم ذلك . فجرّدوا الى البلاد جميع وحدات الجيش المتنقلة الموجودة لديهم (باستثناء الوحدات المتواجدة في المستعمرات) . واستخدموا الطائرات المقاتلة لضرب تجمعات الثوار . واقاموا محاكم عسكرية ذات صلاحية لاصدار أحكام الاعدام دون امكانية الاستئناف . وأعدم شنقا أكثر من مائة مقاتل فلسطيني لاشتراكهم في الثورة ٬ وعوقبت القرى القريبة من مواقع عمليات الثوار عقابا جماعيا : هدمت مئات البيوت وصودرت الممتلكات وفرضت الغرامات الباهظة الخيالية على القرى . واجبر الفلاحون على دفع الأموال مقابل الاحتفاظ بوحدات من الجيش البريطاني في قراهم .
كما وواجه الفلسطينيون خطرا اضافيا مصدره المستوطنات الصهيونية . اذ أثبت الصهيونيون مرة أخرى أنهم يتعاونون مع الاستعمار ٬ وليسوا معنيين باستقلال البلاد دون اقامة دولة يهودية فيها . ان وقوف الحركة الصهيونية الى جانب الاستعمار البريطاني حال دون اتخاذ الثوار لليهود شركاء لهم في معركة التحرير . ان المسؤؤلية لسقوط الضحايا اليهود من خلال الثورة تقع على الحركة الصهيونية بدون شك . وتشكل الصهيونية لليهود شرك موت في البلاد ٬ هكذا فعلت في تلك الفترة وكذلك تفعل في هذه الأيام .
لقد تصدى الصهيونيون تحت قيادة ضباط بريطانيين لمحاربة الثوار ٬ ومن أبرز هؤلاء الضباط وينجيت . لقد قتل المئات من الأهالي العرب في عمليات “انتقام” من القرى العربية كانت تقوم بها وحدات يهودية . واقيمت هذه الوحدات ضمن اطار الشرطة البريطانية . وبالاضافة الى التطوع المشروع لمساعدة النظام البريطاني ٬ نشطت كذلك منظمات غير مشروعة (اتسل و”الهجناه”) ٬ التي قامت بعمليات ارهابية ضد السكان العرب : وضع المتفجرات الزمنية في تجمعات السكان العرب ٬ كما وقع في أسواق حيفا ويافا والقدس ٬ وقتل عابري السبيل من العرب في الطرق والأحياء اليهودية في المدن الختلطة ٬ منذ 1936 وحتى انهاء الثورة 1939 قتل قرابة ألف عربي فلسطيني نتيجة لعمليات ارهاب يهودية . وفي شهري تموز وآب 1938 قتل حوالي مائتي عربي في عمليات ارهاب قام بها اتسل . (وللمقارنة : خلال سنوات الثورة قتل خمسمائة وعشرون يهوديا ٬ أكثر من نصفهم قتل اثناء خدمته في الجيش والشرطة تحت قيادة بريطانية) .
لم تستطع القوات الفلسطينية الوقوف في وجه القوات المتفوقة . ولعدم اتحادهم تمكن البريطانيين من الانفراد بهم وضربهم في المنطقة تلو الأخرى حيث اضطرت كل قوة فلسطينية على الدفاع عن نفسها على انفراد . لقد بلغت ضحايا الشعب الفلسطيني من القتلى ما يربو على الخمسة آلاف قتيل وأكثر من خمسة عشر ألف جريح ظلوا مشوهين . لقد سقط في المعركة جيل كامل من الشباب . وكان للهزيمة تأثيرها النفسي . وهذا أحد أسباب فشل الشعب الفلسطيني سنة 1948 في صيانة مكانته أو حتى في اقامة سلطة ذاتية في جزء من البلاد . واضطر الى قبول حكم اسرائيل ومملكة الأردن ومصر . بينما شردت بقية أبناء هذا الشعب كلاجئين الى الدول العربية .
* * *
ويحاول التأريخ الصهيوني طمس الجوهر الحقيقي للثورة من خلال استعمال اصطلاحات “عصابات” و”حوادث” . وتنكرت الصهيونية منذ بدايتها لوجود الشعب العربي الفلسطيني ولحقوقه القومية في البلاد . وجرّ هذا التنكر المعاناة ليس على الفلسطينيين فحسب وانما على اليهود أنفسهم الذين لم ينعتقوا من الصهيونية ٬ لايجاد طريق للسلام والحياة المشتركة مع الفلسطينيين .
ورغم ما لحق بالشعب الفلسطيني من هزائم على يد الصهيونية وحلفائها الامبرياليين فأنه مستمر في كفاحه .
لقد فوّت يهود اسرائيل فرصا كثيرة لكسر تلك السلسلة المتتالية من الحروب والضحايا ٬ وآثروا تجاهل الشعب الفلسطيني ما داموا واثقين بالانتصارات وبالمقدرة على دوس حقوق الشعب دون أن يتسبب ذلك في أخطار لهم . واليوم لا يبدو المستقبل الصهيوني زاهرا الى هذا الحد . وستبقى الصهيونية هي المسؤولة تأريخيا عن الضحايا المتزايدة كل يوم . لذا ينبغي على يهود اسرائيل اختيار طريق آخر قبل فوات الأوان ٬ والانعتاق من الصهيونية والاعتراف بالحقوق الانسانية والقومية لأبناء الشعب العربي الفلسطيني كي يعترف كذلك بحقوقهم الانسانية والقومية .