(عن مجلة “الطليعة” المصرية)
ان المجتمع يبث ما به من أنظمة وعلاقات على الأفراد فتصبح جزءا منهم يحملونها معهم في مختلف مراحل تطورهم فيعيدون تطبيقها في مختلف المجالات ٬ ويثبت بذلك النظم في العلاقات الأصلية . والأسرة هي المدرسة تأتي تبدأ فيها هذه العملية حيث يجد الطفل نفسه ملقى بعد طرده من جنة رحم أمه بدون أسلحة في مواجهة علاقته بالمجتمع (والذي يتمثل في الاسرة) ومركزة في البداية في أمه . فالأم تمثل الحلقة الأخيرة والحيوية في علاقة المجتمع بالطفل . ويتركز فيها جماع القيم الاجتماعية . بهذه الطريقة يضمن المجتمع المحافظة على استمرار كيانه ازاء خطر التجديد عند كل جيل . ان الطفل يريد البدء من جديد ويريد الاكتشاف . انه مليء بحب الاستطلاع والرغبة في التجربة والخلق ٬ وهو لا يقبل بسهولة الافتراضات المطلقة ‒ اذن فهو ثائر في جوهره ازاء رغبة المجتمع في المحافظة على كيانه ومقاومة التجديد .
واذا كانت السياسة هي دراسة علاقات السلطة في مجال الانسان فاننا من هذا المنطلق نستطيع ان نرى عدة مستويات لدراسة هذه الظاهرة . فهناك المستوى المألوف والذي يخص علماء السياسة ونستطيع ان نطلق عليه المستوى السياسي الاوسع (Macropolitical) وتكون العلاقات هنا أقرب الى علاقة فرد بأفراد . فالأدوار والوظائف والمبادئ تتغلب على الصفات الفردية . والمستوى الثاني هو المستوى السياسي الأصغر (Minipolitical) وهو يختص بدراسة العلاقات بين المجموعة الصغيرة حيث أكثر من شخصين يكونون علاقة وتتمثل أساسا في الاسرة الأولية كما نعرفها في مجتمعاتنا ٬ وان كانت ليست هي النمط النهائي أو الوحيد لتكوين مجتمعات صغيرة . ويأتي في النهاية المستوى السياسي الدقيق (Micropolitical) وهو ليس الا تلك العلاقات من خلال المنظور الداخلي ٬ أي علاقات السلطة بين مختلف اجزاء أو أوجه النفس البشرية من الداخل . فالفرد طالما لم يكتمل ولم يتجانس ويتوحد فهو منشق على نفسه ومتصارع داخل نفسه . والصراع غالبا ما يكون بين أشخاص داخل الشخص كثيرا ما يمثلون أشخاصا خارجية .
حينما نتحدث اذن عن السياسة وعلاقات السلطة في المجتمع والنزعات المحافظة في مقابل النزعات الثورية لا بد لنا ان ندرك ان كل هذا موجود على مختلف المستويات . وما يحدث على النطاق الأوسع يجد صداه على النطاق الأصغر الدقيق . بل انه أيضا مبنى على كونه صدى لما يوجد في النطاق الأصغر والدقيق في علاقة مزدوجة الاتجاه فالوضع المحافظة يجلب اليه أفراد محافظين ولكن الأفراد المحافظين هم أيضا يخلقون الوضع المحافظ . وكذلك الوضع الثوري يجلب اليه الأفراد الثوريين ٬ والأفراد الثوريين يخلقون الثورة . واذا كان الوضع المحافظ لا يمكن ان يوجد الا بواسطة أفراد محافظين ٬ وانه لا يقبل ويرحب الا بهؤلاء الأفراد . فان الوضع الثوري لا يمكن ان يوجد الا بواسطة أفراد ثوريين ولا يسمح الا بوجود مثل هؤلاء الأفراد في قمة بناته .
من هذا المنطلق فان الثورة والمحافظة ليستا مجرد عمليات تحدث في الخارج ٬ أي في المجتمع فحسب ٬ ولكنها عمليات ذات جوانب أو مستويات مختلفة . فما يحدث في الخارج ما هو الا تكرار لما يحدث في الداخل وما يحدث في الداخل هو أيضا تكرار ومرآة لما يحدث في الخارج . أي أننا لا نستطيع ان نحقق الثورة الاجتماعية بمجرد تغيير في النظم والعلاقات الاجتماعية بدون النظر الى التغير المقابل في الداخل . وكذلك لا نستطيع ان نثور في غرفة مغلقة أو حتى داخل أسرة . فما نفعله في الداخل لا يمكن ان يتم بدون تغيير مقابل في الخارج . فالثورة الحقيقية تتمثل في تغيير شامل وجذري وتناسق بين الفكر والحس والعمل . ولا يمكن التغيير حقيقيا حين يقتصر على الجزء دون الكل . فالثورة لا يمكن أن تولد وتستمر الا بوجود ثائرين مستمرين في ثورتهم .
وهذا الموقف المتكامل للثورة يتنافى مع موقف من يثور من أجل تغيير أوضاع خارجية كمجرد بديل وهرب من التحدي الحقيقي أن يغير الفرد ما بنفسه . فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . وعلى النقيض الأخر فانه يتنافى أيضا مع من يحول ثورته في داخل دائرته الضيقة على المستوى السياسي الأصغر أي داخل مسؤولية مواجهة القهر الخارجي . الثورة المتكاملة اذن تتصف بحالة من السيولة في الحركة بين ما هو داخلي وما هو خارجي . فالمعركة على أي من المستويين فيها تقوية للأخر وتكملة له مثلما يفعل النوم مع اليقظة والحلم مع الحقيقة والفن مع العلم والحب مع القوة .
واذا كان الغرض من هذه المقدمة هو التمهيد لحديث عن الثورة على المستوى السياسي الأصغر أي الثورة داخل كل فرد وفي علاقاته الشخصية مع من حوله (أي الأسرة أو المجموعة التي قد تكون بديلا أو مكملا للأسرة) فليس في هذا تقليل من المحاولات الثورية على المستوى السياسي الأكبر (Micropolitical) وانما محاولة للعودة الى جانب طال اهماله . فما أسهل الحديث عن الواقع الخارجي السيء وضرورة اصلاحه ٬ وما أسهل وضع اللوم على الخارج في صورة اعداء شريرين سواء كان ذلك من جانب الفرد حينما يتهم المجتمع الذي يعيش فيه بالفساد أو يتهم حكومته ٬ وعلى مستوى المجتمع حينما يتهم فئة منه بالخيانة والانحراف أو يتهم عدوا خارجيا كالاستعمار أو الصهيونية . فما أسهل ان نؤجل معاركنا تحت وهم الانتظار لحين القضاء على العدو الخارجي . الثورة الحقيقية تبدأ هنا والان . اننا كثيرا ما نهرب من الواقع الملموس ‒ هذا المكان وهذه اللحظة ‒ تحت وهم اننا ننتظر التغيير هناك وغدا . وحينما يأتي الغد فانه يصبح بالتالي حاضرا نهرب منه الى مستقبل بعيد آخر ٬ وهكذا نستمر في الهروب من مواجهة الواقع ٬ ويختفى المستقبل ويهرب كالسراب (بينما الماضي يجذبنا كالحلم) . التحدي الحقيقي هو ان نستطيع ان نبدأ الان . لهذا فان المنطلق الذي اخترناه يبدأ بالأسرة والمرأة اقرب ما يكون للفرد ٬ لان ذلك أوقع تمثيل للمجتمع الخارجي ازاء الفرد ومن خلال هذا نستطيع ان نرى الثورة أوضح بالنسبة للثورة داخل الفرد . فالأسرة هي مجتمع خارجي بالنسبة للفرد ولكنها تحمل صفات وامكانيات العلاقة الفردية الانسانية المباشرة ٬ وكذلك تحمل امكانية العلاقة بالآخر ٬ أي انها تحوى التقابل والتفاعل بين علاقات الحب وعلاقات القوة والسلطة . وعلاقة الفرد بنفسه هي في النهاية علاقته بأسرته . فقد نشأ وهو في شديد الحاجة اليها فرضخ وقتل أجزاء نم نفسه لحساب ارضاء الأسرة وامكانيته للتطور . والثورة هي في امكانية الفرد كسر هذه العلاقة الطفيلية بأسرته بحيث يتمكن من الاستقلال فيصبح حرا حقا . فعلاقة الفرد بنفسه لا تتم بالعزل الخارجي عن أسرته بقدر ما تتم بهذا العزل الداخلي الذي يتأتى عن طريق الصراع الداخلي بين الجوانب التي في نفسه والممثلة لأسرته ٬ وبين تلك الممثلة لحقيقة نفسه .
واذا كان الحديث عن الأسرة مرتبط بالحديث عن المرأة فذلك لان المرأة في الأسرة هي الحلقة النهائية في سلسلة القهر الاجتماعي . فالمرأة هي مصب ونهاية الظلم الاجتماعي . ولعل المجتمع عرف بالتجربة ان خير من ينقل الظلم والاستعباد ويعلمه للنشء هم أكثر الناس حظا من الظلم أي العبيد . ولهذا يعمد المجتمع الى الابقاء على قهر المرأة أملا في قهر الطفل ٬ وقهرها بحيث تصبح عبدا طيبا ولكنها لهذا تصبح سيدا سيئا . وكلما زادت طاعتها وزاد خنوعها واستسلامها للمجتمع زادت قسوتها كسيد لهذا الطفل البريء الخام ٬ كالمثل القائل بأن العبد المطيع سيد قاهر .

وكما ان الثورات قلما تتفجر الا بازدياد التناقض بين السيد والمسود ٬ ولا تتحقق الا بثورة المسود على السيد هادفة تحديد الاثنين معا فاننا نستطيع أن نرى دور ثورة المرأة على القهر الاجتماعي في صورة الرجل هي المفتاح للتغيير الحقيقي . فالطفل ثورته عنيفة وجذرية ٬ الا انها تفتقر الى القوة والوسائل المادية . اذ ان الطفل مجرد تماما من الأسلحة ومعتمد تماما في غذائه المادي والوجداني على أمه وبالتالي على الأسرة والمجتمع . ولا يستطيع الثورة بدون مخاطرة الجوع المادي والوجداني القاتل . فهو سريعا ما يستسلم ازاء الثمن المعروض وهو المساندة المادية والوجدانية ٬ ويقتل في نفسه أي رغبة في الانطلاق والتحرر ٬ ويصبح هو بالتالي العبد المسود الخالي من الارادة الحرة والذي سيتولى بدوره السيادة القاهرة حينما يأتي دوره في تأسيس الأسرة . أما المرأة فقد أصبحت تمتلك بحكم الضرورة بعض الأسلحة التي تسمح لها بالثورة والاستقلال ٬ لأن الرجل يصبح في مزيد الحاجة لأن يكون تابعه قويا ٬ فزيادة قوة التابع تضيف الى قوة السيد ٬ والتابع الضعيف يصبح عبئا على سيده . فهو يستهلك بدون انتاج وينفذ بدون مبادرة أو ابداع . وفي حلقة المنافسة على القوة والملكية يجد الرجل مصلحته في تقوية اتباعه فيسمح لزوجته بالعلم والعمل والاستقلال في نفس الوقت الذي يزيد فيه أن يحتفظ بسيادته عليها الا انه سلاح ذو حدين . فالعبد القوي الذي أخذ السلاح وحمله في مجابهة المنافسين الخرين من خارج الأسرة والذي حارب من أجل السيد وحماه وعضده أصبح في مقدوره أن يدير السلاح في وجه سيده وأن يزيد في مطالبه .
هذا هو وضع المرأة في مصر اليوم ٬ فهي تنتقل من عهد التبعية الضعيفة المقهورة المسحوقة الى عهد التبعية المبدعة القوية . وهي في حيره وازمة ازاء الرباط المزدوج التي وضعت فيه . فمطلوب منها ان تستخدم أسلحة التحرر (ان تعمل وتتعلم وتستقل وتحمى نفسها ٬ وفي نفس الوقت يتوقع منها التبعية لزوجها وطاعته والرضوخ لرغباته ٬ يمكنها ان تقوي لتحقق أغراضها ٬ ولكن لا يسمح لها ان تقوي لتأكيد ذاتها في تعارض مع زوجها) . وهي في هذه الحيرة تجد نفسها مطالبة بالشيء وعكسه وتجد نفسها اذا فعلت ما طلب منها عوقبت واذا لم تفعل عوقبت أيضا ٬ مطلوب منها ان تتعلم وتستقل ٬ وتكسب ٬ ولكن اذا ابدت ان أي ممارسة حقيقية لهذا الاستقلال تعاقب أشد عقوبة . انها تكسب ولكن الزوج هو صاحب الكلمة النهائية في كيفية الانفاق . واذا تمكنت وهي من تخالط الرجل ولكن لا يسمح لها بأي درجة من العلاقات الحقيقية معهم ٬ الا اذا وقعت على صك البيع الذي يجعلها ملكية خاصة لرجل في صورة الزواج . وهي تحرم من الحريات بمختلف أنواعها حتى تضطر لبيع نفسها لأول رجل كأقل العبوديتين شدة ٬ فهي بدون زواج عبدة لأسرتها ٬ واذا تزوجت فقد اختارت سيدا أقل قهرا من أبيها . فزواجها اضطراري لأنه الأفضل في سلم الاستعباد .
ولكن الثورة الحقيقية المتكاملة مسئولية والم وجهد مستمر . والمرأة بين وضعها المقهور واملها في التحرر تمتلئ غليانا لا تتحمله فتحاول الهروب منه بشتى الوسائل . فهي تارة تهرب في صورة التمرد في الظلام . فتنتقم من ظالميها وتمارس حريتها في السر ٬ فتمارس حرية كاذبة ٬ اذ أن الحرية الحقيقية لا يمكن ممارستها في الظلام . فالحرية هي تحرر من الخوف وهي ايمان وتكامل وتجانس بدون انشقاق بين الفكر والحس والفعل . والحرية الحقيقية لا يمكن ان تزدهر الا في مواجهتها مع القهر وجها لوجه مثلما لا يمكن أن يوجد الأبيض بدون الأسود والخير بدون الشر والحياة بدون الموت . والحرية التي تمارس في الظلام لا تواجه شيئا ازاءها ٬ فهي بالتالي ممارسة قهرية دافعها الانتقام لا تثرى صاحبها . في كلتا الحالتين فهو عديم الاختيار . وهذا المخرج الذي تلجأ اليه المرأة يضعف الطاقة الثورية فيها ٬ فبدلا من أن تواجه ظالمها علنا تنتقم منه سرا وتقدم له فروض الطاقة في الظاهر . وتظن انها بهذا أخذت حقها وقارت ٬ ولكنها في الحقيقة لم تفعل الا تأكيد عبوديتها بالسالب في السر وبالموجب في العلن .
والطريق الثاني الذي تتخذه المرأة لثورتها هو ان تحاول العودة الى الماضي بان تبالغ في ضعفها وتقلل من قيمة نفسها فتدعو الرجل الى امتطاء جواده وانقاذها كالفارس المغوار فتكتشف بعد حين انها استعبدت نفسها له مرة أخرى فحملته عبء مسئوليتها بدلا من ان تساعده على التحرر والانطلاق . فالسلسلة التي وضعتها في عنقها ٬ وسلمت طرفها الآخر ليد الرجل أصبحت مكبلة ليديه بقدر ما هي مكبلة لعنقها . وتفشل هذه الثورة اذن ويعود الاذعان الى حيث بدءا .
وقد تتخذ طريقا ثالثا بأن تنسحب من حلبة الصراع في صورة الانتحار المباشر ٬ أو غير المباشر في صورة المرض الجسمي أو العقلي . فهي تلغى الصراع بان تلغى طرفا منه ٬ ولعلها بذلك تحرز نصرا ما ٬ فقد جعلت سلاح قاهرها عديم الفائدة وحرمته من لذة النصر فقتلت نفسها بيدها لا بيد عمرو وحققت بطولة الاستشهاد . وهو حل مع الأسف يودي بصاحبه ولا يجزيه في حياته .
وقد تفضل المرأة التي تداعبها الثورة أن تبقى على جسدها وحياتها فتكتفي بالانتحار النفسي وتعمي بصيرتها ويتبلد احساسها ٬ فتقضي على اللذة الحقيقية أيضا وتعيش في قيم جوفاء تكرر ما فرض عليها من قيم . وتؤكد يذلك استعبادها ٬ وتعيش في حالة من اللاوعي والاستسلام كالالة . ولكن الذين ذاقوا طعم الحرية قبلا لا يستطيعون نسيانها ٬ فلا يرضيهم هذا الحل وتعود الثورة تداعبهم من الداخل حتى يبحثوا عن حل آخر .
فيأتي الحل الآخر لا محالة . فالحياة مصرة على الاستمرار ٬ واذا فشلت مرة في التحرر فهي تعيد الكرة ٬ وتبدأ من جديد في دورات من الموت والميلاد الجديد وتنجح عاجلا أو آجلا رغم الف فشل . وتثور المرأة ثورة حقيقية ومستمرة حتى النهاية وتقرر ان تواجه قهرها في الخارج وفي الداخل مواجهة مفتوحة وعلنية بكل ما فيها من ألم وصراع . وتثور على قاهرها دون ان تتركه وتهرب الى الموت أو المرض ودون ان تنتقم منه أو تستسلم له ظاهريا . فهي في ثورتها عليه من أجل حريتها تثور من أجل حرية الانسان بما في ذلك الانسان فيه . فهي تثور عليه ومن أجله . وهنا يستطيع الرجل المستنير أن يتقبل بل ويعضد ثورة المرأة عليه فيكتشف ان تحرير المرأة هو من أجل الانسان ٬ وبقدر ما تتحرر المرأة من عبوديتها للرجل بقدر ما يتحرر هو من عبوديته . والحرية تعني الا يكون هناك سيد ومسود ٬ وبأن يتغلب المسود على حاجته لأن يخضع ٬ وكذلك أن يتغلب السيد على حاجته لأن يسود . فهي في النهاية التخلص من الحاجة بأي من أشكالها . وهي لا تتم الا بين أنداد متساويين .