(عن مجلة “الحرية” اللبنانية ٬ 5/1/1976)
كان عام 1975 بالنسبة الى مصر عام اتفاقية سيناء التي طعنت التضامن العربي ووحدة الموقف الوطني وطعنت القضية الفلسطينية ٬ وكان ‒ أيضا ‒ عام الانفتاح الاقتصادي في الداخل (الحرية الاقتصادية وتبلور ظهور طبقة رأسمالية طفيلية) وعلى الخارج (أي على الرأسمال الأجنبي والأميركي خاصة) .
وكانت اتفاقية سيناء هي الثمرة الفاسدة للانفتاح ‒ الذي وصل الى حد الانبطاح ‒ على الأميركيين ٬ وكانت الطبقة الرأسمالية المحلية الطفيلية هي بدورها الثمرة الفاسدة ‒ أيضا ‒ للانفتاح الاقتصادي ..
لقد كان عام 1975 عام التراجعات ٬ وعام الانفتاح السياسي والاقتصادي .. ولعل أكثر ما يعبر عن حقيقة هذا العام هو هتاف الجماهير المصرية “أين طعامنا يا بطل العبور”! .. ولم يكن هذا الهتاف مجرد احتجاج على الجوع والفقر والبؤس الذي زاد ثقله على عمال وفلاحي مصر بل تعبير حقيقي عن نتائج سياسة الانفتاح الاقتصادي وثمراتها الفاسدة التي زادت من بؤس الجماهير من جراء التضخم والغلاء وزيادة الاستغلال وفقدان التنمية الحقيقية .. وكان الوجه الاخر لذلك هو تبلور وظهور طبقة رأسمالية محلية طفيلية استفادت من التراجعات ومن الحريات الاقتصادية الجديدة كحرية الاستيراد وحرية التجارة الخارجية والداخلية ٬ فتكالبت على الأرباح السريعة في قطاعات غير انتاجية كالخدمات والعقارات والتجارة والتهريب والسمسرة الخ ..
وظهرت في شوارع القاهرة ظواهر غير مألوفة لم تشهد مثلها من قبل اعادتها الى عهود الباشوات ايام الملك فاروق ٬ السيارات الأميركية الطويلة الفارهة لعدد من المليونيرية الجدد الذين يتصرفون بأسوأ مما كان يتصرفه الباشوات السابقون ٬ فهم أكثر تبذيرا وأكثر احتقارا للجماهير وأكثر فسادا وأكثر بطرا ..
وفي ليلة رأس السنة كان يصرف بعضهم على طاولة واحدة ما يوازي مدخول عائلة عمالية في سنة واحدة !
وقد ضجت الجماهير في القاهرة من هذه المظاهر التي كانت تشاهدها بأم عينها ٬ وانعكس ذلك سياسيا وصحفيا ٬ ومنذ ايام اشتد النقاش والجدل حول هذه الظاهرة من المليونيرية الجدد الذين وصفوا بأنهم “قطط سمان” يمتصون دماء الشعب !
أكد أحد الصحفيين “المعتدلين” في مقال نشرته جريدة “الجمهورية” ان هناك الان حوالي 500 مليونير في مصر أثروا على حساب الشعب ٬ وأضاف الكاتب يقول : علينا ان نذبح “القطط السمان” أي المنتفعين والمستغلين الذين سمنوا بامتصاص دماء الشعب .
وهذا المقال ‒ كما يقول المراقبون ‒ موجه الى القلة القليلة من المصريين الذين جمعوا الثروات الكبيرة منذ ان أعلن السادات سياسة الانفتاح الاقتصادي منذ ثلاثة أعوام .
ان هذا الانفتاح الاقتصادي ادى ‒ كما تؤكد الاحصائيات الرسمية نفسها ‒ الى النتائج التالية :
- ان توزيع الدخول بحسب الاسرة يجعل 34% من مجموع الاسر المصرية يحصل على 11% من مجموع الدخل القومي . بينما 5% فقط من مجموع هذه الاسر نصيبه 22% من الدخل القومي .
- ان عدد الاسر المستفيدة من الانفتاح الاقتصادي حوالي 20 ألف اسرة يتراوح دخل كل منها بين 10 ألاف ‒ 50 ألف جنيه في العام الواحد (يقدر الدخل السنوي للفرد 110 جنيه فقط) .
- ان 2.3% من مجموع المصريين يستهلكون 24% من مجموع الاستهلاك القومي وعلى أحسن الفروض فان 9.8% من المصريين هم أصحاب الدخول المرتفعة يمثلون 44.5% من مجموع الاستهلاك . (مجلة الطليعة المصرية)
وهذه “القطط السمان” تعمل و”تنتج” في الميادين والقطاعات التالية :
- شراء السلع الضرورية من الجمعيات الاستهلاكية بأسعار محددة وبيعها بضعف السعر في المحال الخاصة .
- تجارة البضائع المهربة .
- المقاولات والمضاربة العقارية .
- استيراد البضائع الاستهلاكية الكمالية .
وانعكاسا لهذا الوضع دارت مناقشة حامية في اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي .. اذ فجر العضو كمال احمد ‒ احد أصحاب المنبر الناصري ‒ قضية مكاسب العمال والفلاحين وكيف انهم لم يستفيدو شيئا بينما ظهرت طبقة جديدة استولت على كل شيء واصبحت كالقطط السمان التي يجب القضاء عليها .
وقد روت جريدة “الأهرام” ما جرى في هذه المناقشة بين العضو الناصري والأمين العام للاتحاد الاشتراكي الدكتور رفعت محجوب على الشكل التالي :
قال كمال احمد ان العجز الان في ميزان المدفوعات بلغ 2400 مليون جنيه وتساءل عن سبب ذلك . وانتقد ان يكون التخطيط على ضوء رغبة المستثمرين الأجانب تحت شعار الانفتاح الاقتصادي .
وقال انه بعد 25 سنة من كفاح الشعب المصري لم يحصل العمال والفلاحون على شيء نتيجة كفاحهم بينما هناك طبقة جديدة استولت على كل خيرات البلد من العمارات والشقق الفاخرة والسيارات الفارهة ..
وطالب باعلان اسماء الذين أخذوا عمولات وسمسرة تقدر بالملايين وأصبحوا كالقطط السمان التي يجب القضاء عليها فورا .
وعقب الدكتور محجوب على ما اثاره كمال احمد من ان العمال والفلاحين لم يحصلوا على شيء فقال ان الظروف غير الطبيعية التي مرت بها مصر وهي الحروب والنكسة وزيادة عدد السكان كانت من الأسباب التي أدت الى الموقف الاقتصادي الحالي ‒!‒ وقال انه اذا كان لدينا الان قطط سمان يجب القضاء عليها ٬ فقد كان الواجب والأهم ان نقضي على طبقة البقر السمان التي كانت موجودة لدينا عام 1964 والتي أثرت اثراء فاحشا !
وهكذا لم يجد الأمين العام للاتحاد الاشتراكي تبريرا لظاهرة القطط السمان الا بالعودة الى الوراء ليقول ما معناه ان العهد الناصري لم يكن أحسن وأفضل من عهد السادات !
وطبعا لا يستطيع الدكتور محجوب ولا بمقدوره ‒ وهو اقتصادي خبير وأستاذ جامعة ‒ ان يرجع سبب ظهور هذه القطط الى سياسة الانفتاح الاقتصادي ولا الى القوانين الجديدة التي سمحت بحرية الاستيراد وحرية الاستثمار وحرية التملك . ولا يستطيع الأمين العام للاتحاد الاشتراكي ولا بمقدوره ان يقضي على هذه “القطط السمان” لأنها هي التي جاءت به ووضعته في الامانة العامة وهي تسمح له بأن يظهر نفسه بعيدا عنها وكأنه لا علاقة له بها ٬ ولكنها لا تسمح له بأن يقضي عليها لأن اسنانها حادة من داخل الاتحاد الاشتراكي نفسه ٬ ولأنه هو نفسه لا يملك الجرأة ولا القدرة على “التنظيم” الذي يستطيع من خلاله ان يضربها !
* * *
لقد كان من نتائج الانفتاح الاقتصادي التضخم والغلاء وعجز متزايد في ميزان المدفوعات … وكما يقول الدكتور فؤاد مرسي الذي كان يوما وزيرا للتجارة وذهب مع مجيء الانفتاح الاقتصادي :
“واليوم وبعد عام كامل نستطيع ان نقول ان التضخم قد انهك اقتصادنا القومي وافقر شعبنا العامل” .