(نشر هذا المقال باللغة العبرية في “متسبين” , عدد 74 , تموز 1975 . ونشر باللغة العربية في الكتاب “الحقيقة عن خربة خزعة” , منشورات المكتب الفلسطيني للخدمات الصحفية , القدس , ايلول 1979) .

“تل أبيب ‒ على رمال بنيت” , “البلاد كانت فارغة وقاحلة” . هكذا ادعى مدونو التأريخ الصهيونيون مرارا وتكرارا وفي قراءات مختلفة . ويدعون ان المنطقة الرملية التي تم شراؤها لاقامة “أحوزات بايت” وهو أول أحياء تل أبيب يعتبر الاثبات القاطع على صحة ادعائها . ولكن , يبدو أيضا انه كان هناك من طالب حتى بحقه في المنطقة الرملية التي كانت تسمى بكرم جبالي :

“قبل عيد الفصح [1909] سرت شائعة تقول انه قام مطالبون بكرم جبالي : فقبيلة “المنطوفي” ‒ قبيلة عربية صغيرة ‒ تدعي ملكيتها لجزء من هذه الأرض وتعتزم استعادتها انفسها” . بعد ذلك بوقت قصير , وفور بناء المنازل الأولى “تلقينا بشرى سيئة تقول ان أفراد قبيلة “المنطوفي” نصبوا خيامهم في كرم جبالي على التلة التي خصصت لقامة المدرسة الثانوية عليها ورفعوا الأعلام العثمانية على الخيام . الرجال تسلحوا من أخمص اقدامهم حتى قمة رؤوسهم بالبنادق والمسدسات والسكاكين والخناجر ; النساء تسلحن بسلاح اخر : كلما تجرأ واحد على الاقتراب من حدود خيامهم انهالوا عليه بالصراخ , وكان ينضم الى صراخهن نبح الكلاب الجوعى . أفراد قبيلة “المنطوفي” ادعوا ان الأرض لهم وان آباءهم وآباء آبائهم حصلوا على هذه الأرض من المشاع . أما المستوطنون اليهود الذين أتوا في غالبيتهم ما مواطني روسيا , وقليلون منهم من مواطني النمسا والمانيا وفرنسا وبريطانيا , فقد توجهوا الى القناصل ليحموهم وينقذوهم من سالبي أرضهم …”

ان التعاون بين المستوطنين وبين ممثلي الدول الامبريالية أعطى ثماره :

“…يوميا كان يخرج الجنود المشاة والخيالة ويطردون أفراد قبيلة “المنطوفي” ولكن أفراد القبيلة كانوا يعودون في كل مرة الى المكان الذي طردوا منه ولم يتحركوا من مكانهم . “المحتلون” ادعوا ان الأرض ملكهم منذ أجيال طويلة , وطلبوا المال بدلا من حقهم في الأرض , وأصدروا بيانا واضحا بأنهم لن يتنازلوا عن الأرض رغما عنهم , حتى وان ادى الأمر الى سفك الدماء” .

عقد رجال “أحوزات بايت” اجتماعا عاما لبحث الموضوع . وفي خلال الاجتماع قال رئيس اللجنة الدكتور حيسين ‒ اطلق اسمه علي أحد شوارع تل أبيب ‒ “… من السهل شراء الأراضي في الولايات المتحدة ولكن ليس في أرض اسرائيل . هنا لا امان من ان يقوم مطالبون بالأرض في كل مرة وفي أي مكان . ففي “الحضيرة” القائمة منذ عشرين سنة لا تزال توجد نزاعات أراضي غير بسيطة . حتى في “بيتح تكفا” توجد الآن نزاعات على أراضي . علي الرغم من ذلك فنحن مضطرون وملزمون بشراء الأراضي . وان كنتم خائفين فلا تقولوا بناء المنازل” (هذه الاقتباسات مأخوذة من “كتاب تل أبيب” , الذي حرره أ. درويانوف وأصدرته “لجنة كتاب تل أبيب” باشتراك البلدية , 1936 , المجلد الأول صفحة 109-112) .

اذا كان هذا ما حدث في “أحوزات بايت” فكم كان ان يحدث في بقية اجزاء تل أبيب . توجد اليوم في منطقة سلطة البلدية بقايا كثيرة لمباني وأحياء وقرى عربية يستعمل الكثير منها للسكن حتى اليوم . لم نلتقط صورا لجميع هذه الأماكن . مدينة يافا لا تزال اجزاء منها مأهولة بالسكان العرب . حي “المنشية” الذي هدمت أجزاء منه بشكل منهجي عام 1948 تجرى له الآن عملية تطوير اذ تتيح عملية ازالة الأبنية العربية بناء “سيتي” تل أبيب التي هي الآن في مراحل البناء . مسجد “حسن بك” لا يزال قائما حتى الآن رغم الهمال المستمر , ومئذنته تذكر المارة بأنه كان مرة حيا عربيا في خط واحد مع مركز تل أبيب .

ولكن توجد أيضا معالم أقل شهرة . وقد تم تغيير الاسم العربي لبعضها بأسماء عبرية لاخفاء ماضيها وأصلها , ولكن مظهرها الخارجي يدل على تأريخها . منطقة تل أبيب الحالية كانت مزروعة بالبيارات والعزب والمخازن التابعة للفلاحين كتلك التي لا تزال قائمة حتى الآن في المحطة المركزية (صورة رقم 11) بين شارع هشومرون وشارع الكتيبة العبرية (“هجدود هعبري”) . لم يطلق على هذه الأماكن في ذلك الوقت اسم قرية ولكنها كانت شكلا من أشكال الاستيطان المنتشر في البلاد . ففي شارع “همسجير” أمام مصنع أمكور وأمام المدرسة الثانوية “شيبح” لا تزال قائمة الى الآن بناية عربية (صورة رقم 1) تعتبر الأثر الأخير لسلسلة من المباني العربية كانت قائمة على طول وادي مصرارة الذي يطلق عليه اليوم اسم “ناحال أيالون” . في شارع هرتسل بالقرب من طريق شلمة ‒ سلامة ‒ تختفي خلف سلسلة الحوانيت قرية عربية اسمها “سكنة دنايطة” أو “سكنة عراينة” (2) , والى الجنوب من ذلك بقليل في شارع هرتسل زاوية شارع ربينو حنانئيل توجد الى الآن عدة مبان من سكنة حماد (4) .

“أبو كبير” كانت قرية عربية كبيرة لا يزال قسم منها موجودا الى الآن ومحاطا بشارع هرتسل وشارع كيبوتس جلويوت (“جمع الشتات”) وشارع بن تسفي (5) . وكان يقطن هذه القرية استنادا الى معلومات “الهاجاناه” خمسة آلاف عربي .

على حدود مدينة تل أبيب مع مدينة حولون يمكن رؤية بعض المباني العربية التابعة لقرية “تل الريش” (6) . أكبر القرى في منطقة بلدية تل أبيب كانت قرية سلامة (كفر سلامة – واسمه العبري حاليا كفار شاليم) , التي كان عدد سكانها 7600 شخص (10) , وقد أعادت بلدية تل أبيب في ساحة أحد المساجد في القرية حديقة العاب للأطفال .

ولكن القرى العربية لم تكن في الأطراف الجنوبية لتل أبيب فقط . بيوت قرية “الجماسين” (جفعات عمل حاليا) لا تزال قائمة الى اليوم في مركز منطقة راقية بالقرب من شيكون بافلي وفي مربع الشوارع بينكاس , طريق حيفا , وايزمان وجابوتنسكي بالقرب من ساحة الدولة (“كيكار همدينة”) , وفي المنطقة التي يقوم فيها “بيت الجندي” (3) . قرية أخرى لا تزال قائمة حتى اليوم في مركز منطقة راقية أخرى هي قرية “صُميل” أو “المسعودية” وقد أقيمت فيها مباني اللجنة التنفيذية التابعة للهستدروت والحانوت المركزية التابة للشيكم ‒ شبكة حوانيت الجيش الاسرائيلي . ويمكن رؤية منازل القرية الى الآن بين الشوارع ‒ ابن جبيرول , جبوتينسكي , بن سروك وأرلوزوروف (8) . وكان سكان قرية صميل يدفنون مواتهم في المقبرة التي يوجد فيها قبر الشيخ عبد النبي على شاطئ بحر تل أبيب بين فندق هلتون وفندق بلازا . وقد تقررت المقبرة اثناء تطوير الشاطئ وتم ترميمها فقط بعد ان اثار الأمر ضجة اعلامية بغيضة ضد اسرائيل (9) .

الى الشمال من وادي عوجة (هيركون) يمكن الى الآن رؤية منازل قرية الشيخ مؤنس (7) . سلسلة المباني المكونة من طابقين وثلاثة طوابق , والممتدة على طول شوارع القرية , تشير الى مستوى تطوير القرية قبل 1948 . ذلك المستوى الذي لم يصل اليه الى اليوم غالبية القرى العربية الواقعة داخل اسرائيل . في أرض القرية بنيت جامعة تل أبيب بجوار الحي الراقي رمات أبيب.

على حدود تل أبيب ‒ رمات غان في المنطقة التي يصب فيها وادى مصرارة في نهر اليركون عثرنا على اثر فقط من قرية “جريشة” (12) .

ماذا حدث لسكان هذه القرى العرب جميعهم تحولوا الى لاجئين حتى قبل الخامس عشر من أيار عام 1948 , يوم اعلان اقامة دولة اسرائيل ؟ بعضهم تركوا قراهم بسبب المعارك , بعضهم تلقوا التلميحات بالهرب , وبعضهم طردوا . فيما يلي نعرض ثلاثة أمثلة فقط قد تشرح كيفية وقوع “المعجزة الكبيرة” التي أبقت وراءها منطقة تل أبيب كمدينة عبرية خالصة .

في كتاب “من أحداث الى حرب” (للكاتب يوسف أوليتسكي , اصدار قيادة الهاجاناه بتل أبيب , الطبعة الثانية) وفي الصفحات 123-124 نقرأ عن أحداث الخامس من كانون الأول عام 1947 :

“… عملية موازية لهذه العملية نفذت في نفس اليوم , وفي نفس الساعة , على أيدي فرقة ثانية كانت قاعدتها في تل حاييم . كانت مهمتها طرد بعض العرب الذين كانوا يقطنون في بعض الغابات والخيام بجوار كفر سلامة . رجالنا تقدموا واقتربوا من الخيام , بدأوا باطلاق النار وأجبروا العرب الذين كانوا هناك على الفرار” .

بكل ما في العبارة من معنى كانت المهمة ‒ الطرد .

ان وجود تل أبيب لم يكن مريحا أبدا للقرى العربية الأخرى المجاورة لها . في صفحة 118 من الكتاب المذكور نقرأ ما يلي:

“وأيضا جاموسين [جماسين] وصميل , اللتان كانتا أصغر من الشيخ مؤنس , وفي كل منهما كانت مئات الأنفس فقط التي لم تعاني أي نقص . وعلى الرغم من ذلك لم يخيم السلام بين القرى والمدينة التي كانوا تحت حمايتها , وبين الحين والاخر تم اختلاق ذريعة ما لمناطحة تل أبيب . فقد ضمت أراضي هاتين القريتين الى منطقة سلطة بلدية تل أبيب وتم اعلان الأمر على أيدي رؤساء القرية , على انه كارثة قومية , وجاءت البلدية لتجبي الضرائب من سكان القرية فاشتكى أهل القرية من التمييز في المعاملة … ألخ وألخ…” .

وألخ وألخ !

في صحيفة “هآرتس” الصادرة بتأريخ 28/3/1948 نجد الجزء التالي :

“ثلاثة وجهاء من قرية الشيخ مؤنس اختطفوا على أيدي رجال منظمة “ليحي” كرهائن , اطلق سراحهم صباح يوم السبت وأعيدوا الى بيوتهم , وكما نذكر اختطف هؤلاء العرب بعد ان القي القبض على أبراهام كوهين , عضو منظمة ليحي , ومعه سيارة ملغومة في نابلس . قوات الحماية [منظمة الهاجاناه] قاومت عملية الاختطاف التي نفذت ضد رجال قرية عربية لا توجد لسكانها علاقة برجال العصابات [المقاتلين الفلسطينيين] . ويقول رجال “ليحي” انهم حققوا مع هؤلاء العرب ووجدوا انه لا علاقة لهم برجال العصابات . بعد ذلك اعادوا لهم كل ما وجدوه معهم , نقودا وامتعة مختلفة واعادوهم الى مشارف قريتهم” .

وفي صحيفة “دافار” الصادرة بنفس التأريخ نقرأ ما يلي :

“جميع القرى العربية الواقعة على طول نهر اليركون من منطقة بيتح تكفا والى الغرب , تمتد على مساحة أربعين ألف دونم , ويسكنها أكثر من ستة آلاف عربي على وشك ان تصبح خالية بعد أيام . عملية الخروج بدأت أمس الأول … هذه القرى كانت تقيم علاقات منتظمة مع المستوطنات اليهودية . لقد عانوا في الأسابيع الأخيرة من المنشقين [المنظمتين الصهيونيتين الارجون وليحي] الذين ضايقوهم بسرقة السيارات واحتجاز الرهائن . من الناحية الثانية ‒ كانوا موجودين تحت ضغط عصابات منطقة المثلث . لذلك قرروا الخروج من المنطقة . وقد ودع أهالي القرى معارفهم اليهود بمودة , وقالوا لهم اذا قامت دولة يهودية حقا فسيعودون اليهم” .

الدولة اليهودية قامت حقا , ولكن الدولة اليهودية هي دولة صهيونية , واللاجئين مشردون منذ 27 سنة بعيدا عن بيوتهم .

هذا فقط قليل من الحقائق . حقائق وتلميحات كثيرة أخرى منتشرة هنا وهناك , في كتابات الصهاينة أنفسهم . لسنا نعرض هذه الحقائق لأننا نعارض توسيع المدينة على حساب القرية . ان نقول هكذا ‒ فهذه حماقة رجعية . ولكن , المسيرة لم تكن مسيرة بناء مدن فقط . كانت هذه مسيرة تطورت خلالها المدينة العبرية الخالصة على حساب سكان القرى العربية الذين تحولوا الى لاجئين . تطوير المدينة ‒ نعم , ولكن فقط اذا تم الاعتراف بحق السكان العرب بالتمتع بهذا التطور بنفس المدى . ولأجل ذلك نطالب بالاعتراف بحق اللاجئين في العودة الى وطنهم .