(عن مجلة “الحرية” اللبنانية , العدد 723 , 2 ‒ 6 ‒ 1975)
سقطت حكومة العسكر , برئاسة نور الدين الرفاعي , قبل ان تكمل يومها الثالث , تحت ضغط اجماع وطني عارم مدعم بتأهب قتالي .
وكما كان قيام هذه الحكومة سابقة خطيرة في تأريخ لبنان , فقد كان سقوطها سابقة عالمية في قصر عمر الحكومات العسكرية !
وعلى قاعدة الضغط الشعبي المتعدد الأشكال وبمساعدة الدور الايجابي الذي لعبته الجمهورية العربية السورية بشخص وزير خارجيتها , امكن التوصل الى صيغة الترحيل عبر اجتماعات اللجنة العليا للتنسيق اللبنانية ‒ الفلسطينية ولجان التهدئة المختلفة . واذا بالاستشارات النيابية , وما سبقها من اجماع اسلامي , تعيد ترشيح رشيد كرامي لرئاسة الوزارة الجديدة . فكان التكليف . فيما الحملة مستمرة لعزل الكتائب وتحقيق المطالب الوطنية تحت شعار “لا حكومة الا حكومة المطالب الوطنية” .
وسقوط الحكومة العسكرية هو قبل كل شيء انتصار على حلقة جديدة من المخطط الكتائبي الفاشي كانت ترمي الى فرض قيام حكم عسكري تتحمل فيه الدولة بكامل اجهزتها ومؤسساتها تنفيذ البرنامج الكتائبي المعادي للمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية .
وفي الوقت الذي علقت فيه الحركة الوطنية الاضراب العام والتزمت بأقصى درجات الضغط وازالة “المظاهر المسلحة” , استعدادا لاعتماد اساليب النضال الجماهيرية للضغط من أجل قيام حكومة انتقالية والشروع بتنفيذ النقاط الخمس الواردة في بيان استقالة رشيد الصلح , وجدت عصابات الكتائب الرد على هزيمتها الجديدة في التأزيم العسكري المتعدد الأشكال . من القنص الى الرماية المدفعية انتهاء بأعمال الخطف والتعذيب البربرية العنصرية , أعمال معاقبة اللبنانيين على أساس “الهوية” ! وليس سرا على أحد ان عصابات الكتائب ترمي من وراء اشاعة الذعر وتسعير العداوات الطائفية الى تلقين اللبنانيين الدرس التالي : الهدوء لن يعود الى الوضع الا اذا اشتركت الكتائب في الوزارة الجديدة .
وان لهذه الحلقة الجديدة في الخطة الكتائبية دلالات تتعدى بكثير قضية اشتراك الكتائب في المعركة القادمة مثلما تتعدى مجرد كونها تعبيرا عن تكالب الفاسيين على منافع الحكم ومغانمه .
ان جوهر الأمر في سعي حزب الكتائب الى تكريس موقعه داخل السلطة , وزيادة وزنه فيها , هو انه بات شرطا لا غنى عنه من شروط فرض الحل الفاشي على البرجوازيين وسلطتهم السياسية وعلى عموم المسيحيين .
وهذا أمر يكتسب أهمية خاصة بعدما ظهر من تنسيق مشترك ودعم متبادل بين الكتائب وعدد من أجهزة الدولة , المدنية وغير المدنية , على امتداد الأشهر الأخيرة , وعلى الأخص خلال الصدامات الأخيرة .
والذي تتصدى له الحركة الوطنية , قبل ان يكون اشتراك , أو عدم اشتراك وزير كتائبي أو أكثر في الحكومة المقبلة , هو مسألة صلة هذه الفاشية المسلحة بالسلطة . واذا كنا قد اسقطنا حكومة عسكرية , فاننا لسنا متوهمين باننا قضينا على العوامل والقوى الدافعة باتجاه قيام دكتاتورية , مدنية أو عسكرية , ترتكز أولا بأول على الاحتياطي الكتائبي المسلح كذراع ضاربو ضد المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية .
ومهما يكن مثال الحكومة المقبلة , فان جوهر قضية العزل السياسي ضد الكتائب , كوجه رئيسي للمعركة المستمرة ضد الحل الفاشي والحرب الأهلية , هو تحقيق فك الارتباط بين الكتائب من جهة وبين البرجوازية والسلطة والمسيحيين عموما من جهة ثانية . ففي وقت اصاب الشلل كافة مؤسسات السلطة , بما فيها أجهزتها القمعية , تتقدم العصابات الكتائبية لملء هذا الفراغ .
وقد كنا , ولا زلنا , نفهم عزل الكتائب على انه يعني :
- منع البرجوازية اللبنانية من ان “تلزم” تمثيلها السياسي الى حزب الكتائب . لان العصابات الفاشية , اذا كانت تبدو كزمر من القبضايات تحرس الأمن والاستمرار الرأسمالي المزعوم وتقف في وجه اليسار , فانها لا بد سترتد على أسيادها وتجرهم معها الى وضع لن ينجم عنه الا الدمار لنظامها الاقتصادي .
- تحرير المسيحيين عموما , وفقرائهم ومتوسطيهم خصوصا , من الوصاية الكتائبية . لان كل ما في جعبة الشيخ بيار وبطانته بالنسبة اليهم هو مشروع انتحاري يدفعهم فيه الى التحول الى “اليهود الجدد في الشرق الأوسط” ‒ هذه العبارة ليست لنا , وانما لريمون اده في حديثه الأخير الى صحيفة “لموند” .
- منع تنامي الشراكة الخبيثة بين أجهزة السلطة الفعلية المدنية وغير المدنية , وبين الاحتياطي الكتائبي الفاشي , وتحول هذا الحزب بالتالي الى “البلطجي المسلح” المكلف بكافة الأعمال الصدامية القذرة التي تعجز مؤسسات السلطة الفعلية عن الاضطلاع بها ضد المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية , ضد مصالح الأكثرية الساحقة من اللبنانيين . فهذه هي الصيغة الجديدة والوحيدة المتبقية من صيغ “الحكم القوي” !
وتدل هذا هو المدلول الفعلي لشعار عزل الكتائب . وليس الموقف الفئوي يريد نبذ الخصم ورفض التعامل معه أو كافة التطورات الأخيرة , بكل ما حملت من تواطؤ يزداد انكشافا بين الكتائب وأجهزة السلطة الفعلية , على ان المشاريع الجديدة للتصدي للمقاومة الفلسطينية ترتكز الى “الحياد” الخبيث للدولة في صدامات يتولاها الاحتياطي الكتائبي المدجج بالسلاح والمدعوم بكافة التسهيلات والمساعدات المباشرة . ويخطئ كثيرا من لا يرى في ذلك صيغة أشد دهاء وخطورة على مستقبل المقاومة الفلسطينية في لبنان من أية صيغة سبقتها ! ويخطئ أكثر من يعجز عن اكتشاف العقول الامبيريالية واليمينية التي تخطط للشيخ بيار وحزبه !الاعتراف به . ولهذا السبب بالذات , يكتسب شعار عدم اشتراك الكتائب في الحكومة المقبلة أهمية خاصة في الوضع الراهن بنوع خاص .
وليس من قبيل المفارقة بشيء ان تكون الحركة الشعبية هي الداعية الى التهدئة والى قيام حكومة انتقالية لا يتمثل فيها حزب الكتائب . ففي ذلك التجسيد العملي لبرنامج الخلاص الوطني الذي صاغه اليسار والقوى الوطنية والتقدمية ليكون قاعدة أوسع تحالف يلتقي على الحد الأدنى من التغييرات الديمقراطية القادرة على اخراج البلاد من دوامة الأزمة السياسية التي يعيشها وقطع الطريق على احتمالات الحرب الأهلية الزاحفة !
ويترتب على ذلك جملة من القضايا والمهام , أبرزها :
أولا . الحفاظ على وحدة الصف الوطني العريض الذي التف حول معارضة الحكومة العسكرية والمطالبة بعدم اشتراك الكتائب في الحكومة وتنفيذ المطالب الخمسة . والرذ بالصمود السياسي والصلابة القتالية على استفزازات العصابات الكتائبية مع ممارسة أقصى درجات ضبط النفس بالنسبة للانجرار وراء التسعير الطائفي الذي يؤججه الكتائبيون , ومن يلتقي معهم من أزلام بعض التيارات الرجعية الاسلامية , التي اشتهرت , خلال الفترة الماضية , بتواطؤ مع الكتائب وسعيها لفك العزلة عنها ومد الجسور اليها .
ثانيا . الاصرار على ان تأتي التشكيلية الحكومية القادمة تمهيدا فعليا لمعالجة الأزمة من الأساس . أي تنفيذ برنامج الحد الأدنى الذي يؤكد على الحقوق المكتسبة للمقاومة الفلسطينية في لبنان , ويحقق اصلاح النظام الانتخابي وقانون التجنس وتعديل نظام الجيش ويتصدى للاحتكار وتدهور مستوى المعيشة .
ان صيغة “لا غالب ولا مغلوب” قد تجاوزتها مجمل تطورات وتوازنات الوضع اللبناني . وهي , على كل حال , لم تفعل فعلها , الا عندما كانت تغطية لمجابهة سابقة كان فيها غالب وكان فيها مغلوب . وفي النزاع الراهن بين أكثرية المحرومين طائفيا واجتماعيا وبين حزب الكتائب , بوصفه التجسيد المسلح للامتيازات الطائفية والطبقية , لا بد من غالب ومغلوب . لا بد لطرف من ان يتنازل . ولا مساواة مطلقا بين العين والمخرز .
والجميع مدعوون , أكثر من أي وقت مضى الى الاختيار الذي يزداد الحاحا بين الدكتاتورية الفاشية وابنها الشرعي , الحرب الأهلية الطائفية , وبين الخلاص الوطني . والخلاص الوطني لم يكن مرة مجانيا !