aghourriya

[عن مجلة “الحرية” اللبنانية , العدد 723 , 2-6-1975]

لا يرى الاسرائيليون , أو بشكل أدق خبرائهم ومعلقيهم في الأحداث التي تجري وجرت في أنحاء العالم العربي , الا تعبيرا عن صراعات قومية وطائفية ومذهبية . وهذه الرؤيا التي تحاول تجاهل جوهر هذه الصراعات لا تعكس في واقع الحال قصورا ذاتيا عن رؤية حقيقة الأحداث , عناصرها , أسبابها ونتائجها , بقدر ما تعكس عمليا , الرغبة الذاتية في احلال الواقع الذي يريدونه مكان الواقع الفعلي واحتمالات تغيره . وهذه النزعة في الرؤيا , تعكس على المدى المستقبلي الخوف الاسرائيلي ‒ الصهيوني على مستقبل الكيان العنصري الذي أقامته الحركة الصهيونية على جزء من الأرض الفلسطينية . وأكثر ما تخشاه اسرائيل والحركة الصهيونية هو الطابع الاجتماعي ‒ الطبقي ‒ حتى غير المبلور ‒ للصراعات والتغييرات التي تطرأ على موازين القوى الداخلية في العالم العربي لصالح حركة التغيير الثوري . وهذه الخشية ذات شقين : فمن ناحية , فان البذور الكامنة في جوهر الصراعات على الساحة العربية , تحمل في طياتها اخطارا أكيدة على صعيد مستقبل الصراع القائم حاليا بين الكيان الصهيوني والعالم العربي بتركيبته الحالية . ومن ناحية أخرى , احتمالات تأثير ذلك على البنية الداخلية للمجتمع الصهيوني مستقبلا . اذ ان الاخلال في موازين القوى في العالم العربي , بشكل عام , وفي كل بلد منه بشكل خاص , لصالح قوى التغيير , يشكل عملية اخلال تراكمية في موازين القوى أيضا على صعيد الصراع الحالي .

وبالضرورة , فقد أملت هذه الرؤيا وهذه الخشية توجها سياسيا واعلاميا محددا ودائما , يتكثف ويتضاءل تبعا لمتطلبات الوضع . ويتجسد هذا التوجه السياسي والاعلامي في حملات التحريض المستمرة , والمواقف العدائية لكل ما هو تقدمي والدعم السياسي , واعلان الاستعداد لتقديم الدعم العسكري (كما حدث أكثر من مرة بالنسبة للأردن) للفئات الانعزالية وللأنظمة الرجعية احيانا . والكيان الصهيوني لا يخفي توجهه هذا . فمن اعلان حرصه المزيف على الابقاء على “طابع لبنان المسيحي” , أي استمرار سيطرة التوجه الطائفي ‒ الانعزالي على الحياة السياسية والاجتماعية , الى الاعراب عن استعداده للمساعدة على اقامة كيانات هزيلة داخل بعض الدول العربية .

أحداث لبنان الأخيرة

لم يكن التوجه الاسرائيلي في التعقيب على ما حدث في لبنان مؤخرا , جديدا . فمن خلال تتبع الأحداث بالعرض والتحليل , كان الاعلام الصهيوني اضافة الى تبنيه لوجهة نظر الفئات الرجعية ‒ الانعزالية , يعرب عن قلقه ويتباكى على “مصير المسيحية” في لبنان ازاء ما يسميه “بالخطر العروبي ‒ الاسلامي” الذي يتهددهم .

ولم يتوقف الأمر على ذلك , بل دعت بعض الصحف الى ضرورة تأييد ودعم هذه الفئات . وفي هذا السياق كتبت صحيفة “أومر” شبه الرسمية (25-5-75) تقول: “على الرغم من كون المسيحيين في لبنان قد أظهروا نحو اسرائيل نفس التوجه والنظرة مثل المسلمين , فانه يتوجب على (اسرائيل) ان تؤيدهم في النزاع الذي يخوضونه من أجل وجودهم . وهذا يعود لكون “المخربين ” يقفون على رأس قائمة أعدائهم , ولكون اسرائيل يجب ان تحرص على البنية التعددية للسكان في دول الشرق الأوسط” .

وقد ركزت وسائل الاعلام الصهيوني بشكل تحريضي سافر على الأخطار التي يتعرض لهل الكيان اللبناني من جراء استمرار الوجود الفلسطيني في لبنان , معربة عن قلقها للاختلال الذي أحدثه هذا الوجود في التوازن التقليدي بين الطائفتين , لكنها من ناحية أخرى أعربت عن ارتياحها أيضا لانشغال المقاومة في حروب داخلية .

ترحيب بالحكومة العسكرية

ولم يخف الاعلام الصهيوني قلقه من طابع المعارضة الداخلية التي برزت لدى تشكيل الحكومة العسكرية , تلك الخطوة التي كما يبدو , اعتبرها العدو الصهيوني , كما اعتبرتها الفئات الانعزالية ‒ الطائفية , انتصارا للخط المعادي للحركة الوطنية اللبنانية , ومؤشرا الى احتمالات تفجير واسع للصراع ضد المقاومة . وفي هذا السياق أعرب الاعلام الصهيوني عن قلقه لكوم المعارضة لم تقتصر على التيارات والأحزاب اليسارية , بل شملت قاعدة عريضة ضمن الزعامة الاسلامية التقليدية والتيارات الوسطية بين المسلمين والمسيحيين . وازاء ذلك بدا الاعلام الصهيوني يتحدث عن عجز الجيش اللبناني على ضبط الأمور , وعن احتمالات التدخل الخارجي في لبنان , حيث قالت احدى الصحف الاسرائيلية بأنه “يتوجب على الحكومة العسكرية الجديدة ان تتصرف بحذر , لأنها تعلم ان سوريا واسرائيل سويا تتابعان بتيقظ ما يحدث داخل لبنان” !

وفي هذا السياق أيضا أبرز الاعلام الصهيوني , التحرك السوري , مشيرا الى زيارة كل من نائب رئيس الوزراء , ووزير الخارجية السوري عبد الحليم خدام , ونائب وزير الدفاع اللواء ناجي جميل الى لبنان . وربط بين ذلك وبين اجتماع الرئيس الأسد وكبار المسؤولين السوريين مع قادة المقاومة في دمشق , وما تبع ذلك من اعلان عن بدء المحادثات بين سوريا والمقاومة حول تشكيل قيادة عسكرية مشتركة .

وازاء هذا الوضع , ذكرت وسائل الاعلام الصهيوني , ان الحكومة الاسرائيلية ستبحث في جلستها الأسبوعية (الأحد 25-5) مسائل سياسية , غير ذات صلة بموضوع التسوية , ورغم انه لم يكشف النقاب عن ماهية ومضمون تلك المسائل السياسية فقد جاء العدوان الاسرائيلي على جنوب لبنان الذي أعقب تلك الجلسة , ليكشف طبيعة الأمور التي بحثت فيها .

أهداف العملية الأخيرة

لقد هدف العدوان الاسرائيلي بشكل رئيسي الى فتح جبهة أخرى ضد المقاومة تقيد من امكانات تحركها في حالة انفجار الوضع , ومن هنا الاعلام الاسرائيلي , بان اسرائيل احاطت لبنان علما بان عملية الجيش الاسرائيلي , لا تستهدف المساس بالجيش اللبناني , بل ضرب المقاومة فقط . والهدف الثاني للعملية , كان حسب المنطق الاسرائيلي تشجيع العناصر المغامرة داخل لبنان , للمضي في تأجيج الاشتباكات .

وفي هذا الصدد أعرب يتسحاق رابين , رئيس الوزراء الاسرائيلي عن أسف اسرائيل ازاء الحادث الذي وقع , والذي اشتبكت خلاله وحدات من الجيش الاسرائيلي مع وحدات من الجيش اللبناني . وأضاف رابين انه ليس ثمة نزاع بين اسرائيل والجيش اللبناني , وان “ظلام الليل يجعل وقوع خطأ في التمييز أمرا ممكنا” بين الجيش والفدائيين (وكالة الصحافة الفرنسية , 28-5-75).

وجاءت ردود الفعل الصحفية التي وجهت انتقادات للعملية لناحية توقيتها , لتكشف أهداف العملية بصورة جلية .

فقد ذكرت صحيفة معاريف انه “ما كان ينبغي القيام بهذه العملية , وانه كان يجب البحث عن وسائل أخرى غير التدخل بقوات كبيرة” . وتساءلت صحيفة أخرى عما اذا كانت هناك ضرورة مطلقة للقيام بهذه العملية “خلال الأزمة الحالية في لبنان” وكانت أكثر الصحف ايضاحا في نقدها لتوقيت العملية , صحيفة دافار الرسمية التي أعربت عن أسفها لان هذا الاشتباك (مع الجيش اللبناني) “وقع في لحظة ربما كان الجيش اللبناني يجد نفسه فيها مجبرا على التحرك ضد المخربين الفلسطينيين” .

ومهما يكن , ومهما يبدو للمراقب احيانا , من خطأ التقديرات الاسرائيلية لحقيقة مجرى وتطور الأحداث واحتمالاتها , فان الموقف الاسرائيلي في مثل هذه الظروف تمليه منطلقات وتوجه يؤكدان حقيقة أصبحت جد واضحة ومعروفة تتجسد في كون اسرائيل قد نصبت من نفسها حاميا ومدافعا عن كل تخلف في العالم العربي , وتسعى للحفاظ على كافة مظاهره والحيلولة ‒ قدر المستطاع ‒ دون أية انجازات ومكاسب للحركة الوطنية العربية وللمقاومة الفلسطينية اينما كانتا وعلى أي صعيد .