[عن مجلة “الحرية” اللبنانية , العدد 723 , 2-6-1975]
لا شك ان الهجمة الكتائبية على المقاومة وعلى القوى الوطنية اللبنانية تعود أول الى تفاقم أوضاع الرجعية اللبنانية المتخلفة بفعل التطور الاجتماعي السياسي الذي تشهده لبنان في السنوات الأخيرة . الا ان البعد الدولي للأزمة الأخيرة التي افتعلتها ميليشيا الكتائب الفاشية جانب لا يستهان به . خاصة وان العالم يشهد في الأشهر الأخيرة تحولات من شأنها ان تغير الخارطة والمستقبل .
والامبريالية الأمريكية كانت الخاسر الأكبر في هذه التحولات . فانهارت أنظمة عملائها في فيتنام وكامبوديا ولاوس انهيار قصور الكرتون , كما انهارت الأنظمة الفاشية التي كانت تعتمد عليها عسكريا في جنوب أوروبا (البرتغال , اليونان واسبانيا على الطريق) . وانعكاسا لهذه الهزائم انهارت دبلوماسية الخطوة خطوة الكيسنجرية في منطقتنا ‒ على الأقل مؤقتا ‒ وكان لا بد بعد ذلك من تقييم جديد للسياسة الأمريكية تعيد لها بعض الحياة في المناطق التي ما زالت “متأرجحة” مثل أوروبا والشرق الأوسط .
وتأتي الأنباء بأخبار اتمام اعادة تقييم هذه السياسة في حين تتوالى التصريحات الأمريكية المنذرة بقبضة أقوى . وان لم تكن الولايات المتحدة أكثر قدرة الآن عما كانت عليه قبل عشر سنوات على الوقوف في وجه حركة التحرر العالمية , فهي أكثر حرصا على “المعالجة المبكرة” للأمور ‒ على حد تعبير الوزير شليسنجر ‒ وأكثر حاجة لاستعادة شيء من المصداقية على صعيد ما تبقى من حلفائها . وقد أرادت الادارة الفوردية لعملية ماياغيز [سفينة أمريكية في كامبوديا] التافهة ان تشكل تحذيرا لكل من “تتطاول يده على الحقوق الأمريكية” (في استغلال شعوب العالم والاعتداء عليها طبعا) . ويكفي ان نلقي نظرة على الصحف والمجلات الأمريكية لندرك مدى التضخيم الذي ارادته الادارة الأمريكية لهذا الحادث , لتعيد الهيبة الى المارينز المهزومين في الهند الصينية والنظام الذي يرتكز عليهم .
لا انزال ولا عزلة …
ونخطئ اذا توقعنا انزالا أمريكيا مباشرا في كل منطقة تتعرض فيها مصالح أمريكا للخطر بفعل المد التحرري فيها (البرتغال , المنطقة العربية) . فالدرس الفيتنامي لا ينسى بسرعة , في وقت ما زال المجتمع الأمريكي يعاني من ذيول هذا الدرس اقتصاديا واجتماعيا . الا اننا نخطئ أيضا اذا توقعنا عزلة ذهبية أمريكية وعودة الى سياسة الانكفاء على القارة الأمريكية التي ذهبت مع ربع القرن الماضي . فالامبريالية الأمريكية لم تشهد في تأريخها امتدادا أكبر لمصالحها الاقتصادية عبر العالم اللااشتراكي كله اذ أصبحت القوة الرأسمالية الأمريكية المستثمرة خارج الولايات المتحدة ثاني قوة اقتصادين في العالم بعد الولايات المتحدة نفسها . وليس من السهل “التضحية” حتى بجانب زهيد منها .
ونخطئ كذلك اذا رأينا خط التحرر العالمي مستقيما لا تعرج فيه . فعلى طريق التحرر الطويل كانت هناك الى جانب فيتنام وكامبوديا ولاوس وغيرها , كانت هناك أيضا اندونيسيا وتشيلي اللتان شهدتا مجازر رهيبة لقوى التحرر والتقدم فيهما دونما حاجة الى تدخل عسكري أمريكي مباشر (باستثناء المستشارين) .
الأرانب الأمريكية المحلية
فالسياسة الأمريكية اعتمدت أساسا على التناقضات المحلية والقوى المضمونة نوعا ما في كل بلد ومنطقة . وفي منطقتنا تشكل اسرائيل أفضل الضمانات على الأمد المنظور , لكنها ليست القوة الوحيدة الكفيلة بالحفاظ على التوازن والمصالح الأمريكية في المنطقة . وان كانت الأوساط الأمريكية النافذة (76 من 99 شيخا في الكونغرس طالبوا بالاستجابة لحاجات اسرائيل الاقتصادية والعسكرية الملحة) حريصة على الحفاظ على بقاء اسرائيل ودورها في المنطقة , فهي أيضا حريصة ان يكون لديها أكثر من أرنب في قبعتها . والأرانب ليست قليلة في منطقتنا : من ايران الى السعودية والأردن الخ .
وفي لبنان , يشكل الوضع الطائفي المستمر مجال استثمار مثالي : فالأقليات والطوائف المتميزة كانت دائما أرضا خصبا لمناورات القوى الاستعمارية , كما كان الأمر في لاوس .
والكتائب اللبنانية بفكرها اليميني المتخلف المعادي لكل ما هو عربي ولكل ما هو تقدمي , وبولائها الكلي “للحضارة الغربية” وتمثلها ب”انصع” ما انجبته هذه الحضارة وهو الفاشية والنازية , ليست بحاجة لأية رسميات لكي تضع نفسها في خدمة المخططات الأمريكية وتربط مصيرها بمصير النفوذ الأمريكي في المنطقة .
كيسنجر والوضع اللبناني
والأمريكيون سيحاولون قطعا قبل ان يرضخوا للواقع الجديد في منطقتنا المتميز بنمو حركة التحرر الفلسطينية والعربية ان يعيدوا عقارب التأريخ الى الوراء للعمل على اضعاف القوى التحررية العربية والحد من نموها . وليس من المستغرب اذا ان يشير كيسنجر (أو أحد مرافقيه على حد التعبير المألوف) الى خطورة الوضع اللبناني وان يقارن بينه وبين الوضع الأردني عام 1970 وحتى بينه وبين وضع البلقان على أبواب الحرب العالمية الأولى . ومن المعروف ان الولايات المتحدة كانت مستعدة للتدخل المباشر (أو في الأغلب عن طريق اسرائيل) في حال فشل الملك حسين في الأردن . وقد تحدث نيكسون انذاك حتى عن احتمالات حرب عالمية “اذا استمر التدخل السوري في شمال الأردن” , ويعود كيسنجر جديد للتحدث عن ترتبات دخول فرقة سورية الى لبنان لمساندة المقاومة الفلسطينية . وقد كشف الاخوة كالب المقربين من الوزير الأمريكي في كتابهم الذي صدر مؤخرا عن “كيسنجر” النقاب عن طلب ملح من قبل الملك حسين للقوات الاسرائيلية بالتدخل في شمال الأردن (طلب مقدم عن طريق كيسنجر نفسه) .
كل ذلك للتذكير بان أمريكا لن تتخلى عن “أرانبها” في المنطقة , ولن تتخلى كذلك عن مؤامراتها على القوى التحررية العربية . خاصة وهي على أبواب تجديد مبادراتها السياسية من خلال لقاء فورد ‒ السادات في سالزبورغ ثم فورد ‒ رابين في واشنطن في النصف الأول من حزيران .
وقد أكد كيسنجر في هذا المجال “بان الولايات المتحدة ليست مستعدة لقبول جمود دبلوماسي في الشرق الأوسط” , تخسر من خلاله زمام الأمور وتفقد دور الوسيط الذي حاولت لعبه بعد حرب تشرين 1973 .
لكن الرغبات الأمريكية لم تعد منذ زمن قابلة للتحول وقائعا . فقوى التحرر الفلسطينية واللبنانية ‒ والعربية اجمالا ‒ بالاضافة الى قوى الاشتراكية في العالم ‒ التي تزداد اتساعا وصلابة ‒ علاوة على التناقضات الداخلية العديدة التي تتخبط فيها الامبريالية الأمريكية وأرانبها في المنطقة , كفيلة بذلك .
وستخرج المقاومة الفلسطينية أقوى وأكثر تجذيرا والقوى الوطنية والتقدمية اللبنانية أكبر وأكثر خبرة لخوض المعارك المقبلة على طريق تحرير المنطقة كلها من الامبريالية وادواتها .