تشكل الانتفاضة الأخيرة امتدادا اصيلا لتاريخ الحركة الطلابية المصرية ٬ وحدثا هاما بالنسبة للشعب المصري بأسره ٬ في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخنا . فهي امتداد لهبات الشباب المصري في أعوام 1919 ٬ و1936 ٬ و1945‒1948 ٬ و1951‒1952 ومارس 1954 ٬ ولهبتي فبراير ونوفمبر 1968 . فقد لعب الشباب الطلابي ٬ في كافة هذه المراحل ٬ بما له من قدرة خاصة على التضحية ٬ دور الفصيلة الوطنية المتقدمة ٬ التي عبرت بشكل مركز عن الاماني التي اختمرت في نفوس الجماهير ٬ كما دفع ثمن التصدي لخوض معركة الاستقلال والديمقراطية .
وينبع دور الشباب ٬ اليوم بالذات ٬ من الوضع السياسي الذي تعيشه بلادنا ٬ فتزداد الهوة التي تفصل النظام القائم عن كافة القطاعات الجماهيرية سعة يوما بعد يوم ٬ اذ يتضح عجزه الكامل عن حشدها من أجل معركة تحرير الأرض العربية المغتصبة ٬ كما يزداد خضوعه لرغبات البورجوازية الجديدة والقديمة ٬ المتلهفتين على الوصول الى اتفاق استسلامي مع العدو الصهيوني ٬ حتى تتمكنا من دعم هيكل الاستغلال الرأسمالي في البلاد ٬ وفتح أبوابها أمام رؤوس الأموال الاستعمارية . وهكذا انزلق الحكم الى وضع تبعية مزدوجة ازاء الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ٬ وأصبحت سياسته تتحدد بتأرجحه بين واشنطن وموسكو ٬ بينما يعمل على تشديد قبضته البوليسية على الفئات الشعبية لمنعها من التعبير بحرية عن تطلعاتها الوطنية والطبقية .
الا أن هذه الفئات انتهزت فرصة الانتخابات الصورية التي نظمها السادات ٬ اثناء صيف 1971 ٬ بأمل تضليل الرأي العام ٬ لتفرض بالقوة سلسلة من المعارك الديمقراطية الحقيقية . وهكذا انطلق الشعب المصري ٬ في كمشيش وأبي كبير ٬ وشبين الكوم وطنطا وحلوان ٬ يرفض الرقابة والضغوط البوليسية ٬ ويحاكم من خلال هذا الرفض ٬ النظام القائم ٬ على نواياه الاستسلامية وخضوعه للدولتين الكبيرتين ٬ وعلى انسياقه الذليل وراء أطماع طبقة من الطفيليين والانتهازيين في الداخل .
ثم جاءت الانتفاضة الطلابية لتبلور كافة التطلعات الثورية الشعبية ٬ التي ظهرت عفوية متناثرة ٬ اثناء انفجارات 1971 . وأعطت الحركة الطلابية هذه التطلعات تعبيرا متماسكا واضحا في ميثاق سياسي جديد يفتح طريق الوحدة أمام القوى الوطنية الشعبية في مسيرتها الكبرى نحو التحرير الكامل .
الشعب هو الوحيد المصمم على التحرير الكامل
تتضمن البرامج التي قدمها الطلبة المصريون الى الأمة مجموعة من المبادئ السياسية والعسكرية والاقتصادية مؤداها اعادة مصر الى صف الثورة العربية ٬ وقطع كافة الصلات المريبة التي أقامتها السلطة مع الدول الكبرى ٬ ورفض المشاريع الاستسلامية ٬ والاستعداد الشامل لحرب حقيقية .
الا أن هذه المطالب كلها تدور حول محور واحد : ان الشعب هو القوة الوحيدة المصممة على خوض معركة التحرير حتى النهاية ٬ والقادرة على بذل التضحيات التي تتطلبها هذه المعركة ٬ وعليه فيجب أن يكون السلاح بيد الشعب ٬ ويجب أن تزدهر الديمقراطية في صفوفه حتى تتفجر طاقاته ومبادراته ٬ وأن يعاد تنظيم الحياة الاقتصادية بحيث تتمشى مع ضرورة تسليح الشعب وتعبئة الوطن من أجل حرب طويلة المدى .
ويقدم الطلبة صيغة عملية لتحقيق هذا المبدأ : تكوين ميليشيا شعبية ليستطيع كل مواطن أن ينضم اليها بلا قيد ولا شرط ٬ على أن تتشكل لجان محلية في المصانع والقرى والمدارس والجامعات وتنتخب قياداتها انتخابا حرا . كما نادى الطلبة بأن تدخل الديمقراطية الجيش النظامي نفسه ٬ حتى تنتهي عزلته الحالية عن الجماهير ٬ ويندمج في الحياة السياسية للبلاد . وبذلك يوضع حد للعجز الذي يعاني منه الشعب والجيش معا .
الطلبة ربطوا القول بالفعل
وربط الطلبة القول بالفعل . فلم يكتفوا بتقديم أفكار ومطالب تحفظ في ملف أو تنشر في مجلة نظرية ٬ بل أظهروا عزيمة صلبة على تحقيقها فعلا ٬ فأثاروا اهتمام الأمة كلها بدخولهم تلك الساحة التي طالما حاول النظام ابعادهم عنها : ساحة السياسة ٬ والصراع العملي من أجل خلق تيار شعبي قادر على تغيير الأمور .
وبدأوا عملهم بمحاولة جمع صفوفهم وبلورة أفكارهم ٬ وانتخاب قيادات جديدة بعيدة عن الاتحاد الاشتراكي ٬ والقيود البوليسية التي فرضت عليه . ثم عملوا على الاتصال بالفئات الشعبية الأخرى بهدف تمكين ارادتها الجماعية من التعبير عن نفسها دون وسيط ٬ وتحريرها من الأجهزة النقابية والتنظيمية التي فرضها عليها جهاز الدولة ٬ ومن التفاهات والأكاذيب التي لا هدف لأجهزة الاعلام الرسمية الا بثها .
وهكذا كانت جرائد الحائط التي ظهرت في الجامعات . والتي لم يتردد الطلبة في وضع أسمهم عليها ٬ والمنشورات التي صدرت ٬ والاجتماعات الواسعة التي عقدت ٬ مساهمة حاسمة في تحطيم الخوف والصمت اللذين فرضهما النظام البوليسي حتى يتمكن مسؤولوه من احتكار حق الكلام باسم الشعب .
وهذه ٬ في الحقيقة ٬ أولى حلقات الحرية السياسية .
ثم شرع الطلبة في تنظيم هذا النشاط السياسي ٬ فشكلوا لجانا سياسية في كل كلية على حدة ٬ ثم انتخبوا لجنة وطنية أضحت ناطقة باسم الطلبة المصريين واستولت على قاعة جامعة القاهرة ٬ وحولتها من منبر للسلطة الى منبر لأبناء الشعب ٬ مفتوح لكل من له رأي يعبر عنه أمام الجميع . وبذلك انتقلوا الى مرحلة جديدة من مراحل الحرية السياسية : التنظيم المنبثق عن القاعدة ٬ الذي يفرض شرعيته برفضه للشرعية القديمة ٬ وباستيلائه ٬ ولو لوقت قصير ٬ على بعض المقار الرسمية لوضعها في خدمة النشاط السياسي الشعبي الحر . وبذلك أثبت الشباب المصري انه هو الذي يستطيع ٬ بمجرد استعادته لحريته ٬ ان يعطي الديمقراطية معناها الحقيقي ٬ معنى ازدهار كافة الآراء ٬ وحماية كل من له فكر متميز حتى ولو كان فكر أقلية ٬ ورفض الاحكام المسبقة والارهاب الفكري ٬ وتشجيع الصراع الفكري العلني حتى ينتصر الفكر الثوري القادر على توحيد الأغلبية الساحقة من المواطنين .
وما دار في قاعة جامعة القاهرة خير مثال على ذلك .
فقد اشتد الصراع الفكري في البداية ٬ وكان لكل فرد رأيا .. ثم تبلور حتى تحول الى صراع بين نارين : تيار يساري يطالب بتوسيع نطاق الحرية الجديدة المكتسبة الى بقية الجماهير ٬ وبمطالبة السلطة باتخاذ الاستعدادات الجدية للحرب ٬ وبتسليح الشعب ٬ وبقطع المفاوضات مع اسرائيل والولايات المتحدة ٬ وبتأييد المقاومة الفلسطينية بكافة الوسائل ٬ وتيار يميني حاول أن يحرف الحركة عن أهدافها ٬ وأن يحول طلب زيارة رئيس الجمهورية للجامعة كهدف وحيد لنضال الطلبة .
وانتصر الاتجاه اليساري ٬ فسارع بالاتصال بعمال حلوان وشبرا الخيمة وغيرها من التجمعات العمالية ذات التاريخ النضالي العريق . فتخطوا بذلك أخطر حاجز دفعته السلطات في طريق انطلاق الحركة الشعبية المستقلة وهو عزل الشباب المثقف عن جماهير الكادحين . اذ طالما ظل كل منهما أسير مطالبه الخاصة ٬ بقي الشعب في مجمله مشلولا عاجزا . فالشباب عاجز عن تحقيق أمانيه الوطنية دون الارتباط العضوي بالطبقات الكادحة ٬ القوة الوحيدة القادرة على احداث تغيير جذري في الواقع الاجتماعي ٬ كما أن الكادحين لن يتمكنوا من احداث هذا التغيير ما لم يتسلحوا بالفكر الثوري .
ثم اتصل الطلبة الثائرون بعدد من الضباط الشبان ٬ ومن الطلبة المجندين بهدف توضيح الأمور لهم ٬ حتى يمنعوا الحكومة من تشويه موقفهم أمام الجيش ٬ ويحولوا دون استخدام النظام لقطاعات من القوات المسلحة ضد الجامعات .
وبذلك تقدمة الطلبة خطوة ثالثة الى الأمام على طريق الحرية السياسية : اذ خرجوا من الاطر المهنية والفئوية الضيقة التي تعمل السلطات على تثبيتها ٬ حتى تظل قطاعات الشعب المختلفة محصورة في أفق ضيق ٬ عاجزة عن الالمام بالقضايا السياسية العامة ٬ وعن القيام بأي عمل فعال من أجل تغيير الأوضاع القائمة . فقد خلق الطلبة في الواقع سلسلة من الارتباطات الفكرية والصلات الجماعية والفردية ٬ في أوساط شعبية واسعة ٬ تشكل في مجملها لأرضية مشتركة لعمل سياسي نابع من أعماق الضمير الشعبي ٬ عمل يبحث عن أشكال للتغيير والتنظيم خاصة به ٬ متمشية مع تقاليده وقيمه الديمقراطية ٬ بعيدا عن الهيكل الحزبية والبوليسية التي يحاول النظام بها امتصاص العفوية الخلاقة للشعب وصرفها عن أهدافها الثورية الأصيلة .
لكل هذه الأسباب ٬ كانت الجامعة في النصف الأخير من يناير ٬ واحة حرية حقيقية ٬ ومركز اشماع فكري ٬ وجد فيه الشعب المصري صورة ملموسة لروح التحدي للسلطات ٬ للجرأة على رفض القيود التي تفرضها على الحركة الجماهيرية الحرة : واحة جذبت اليها الالاف من الطلبة الذين لم يسبق لهم أي نشاط سياسي ٬ وأصبحت ملتقى أنظار جميع الكادحين والمثقفين المتطلعين الى المشاركة الفعالة في تحديد مصيرهم ومصير الوطن .
الطلبة ينتشروه في صفوف الشعب
وكان من المستحيل لواحة الحرية أن تدوم طويلا في ظل نظام يقوم على كبت الحريات ٬ فهو الذي يسيطر على أجهزة القمع ٬ ويلجأ اليها كلما عجز عن اطفاء شعلة الحرية بالصمت والكذب .
وهكذا وجد الطلبة المعتصمون أنفسهم أمام خيار تاريخي : اما أن يعود كل منهم الى منزله خوفا من البطش ٬ أو أن ينتشروا جميعا بين شعب القاهرة ٬ ليشركوا أوسع الجماهير في الهبة السياسية الجديدة ٬ ويكسروا بذلك الحصار الذي تحاول السلطة أن تقتل به حركتهم .
واختار الطلبة ٬ تلقائيا ٬ الحل الثاني . فانتشروا في شوارع المدينة واحيائها المختلفة ٬ وتجمعوا في الميادين العامة لتبادل الحوار مع الشعب ٬ ولتوضيح الميثاق الجديد ٬ وتوثيق الروابط الوطنية الواعية بين جميع المواطنين . وبذلك شهد ميدان التحرير في ليلة 25 يناير نموذجا حيا لنمط العلاقات السياسية الجديدة ٬ القائمة على الاخوة والروح النضالية الجماعية التي انتشرت وسط صفوف الطلبة والاف المواطنين الذين جاءوا ليتضامنوا معهم ٬ عمالا وموظفين وأطباء وربات بيوت وتلاميذ ٬ رجالا ونساء وأطفالا وشيوخا ٬ أحسوا جميعا في تلك الليلة ٬ أن شيئا جديدا كان يولد في مصر .
وكانت المعركة التي اشترك فيها جسديا ومعنويا مئات الالوف من المصريين ٬ والتي عرفت القاهرة خلالها لأول مرة منذ سنوات طويلة حرب العصابات المدنية . اذ كان الشباب يتفرقون كلما حاصرتهم قوات البوليس ٬ ليعودوا فيجتمعوا من جديد في الميدان نفسه أو في ميدان آخر ويفتحون الحوار مع جماهير الشعب حتى تحاصرهم قوات البوليس ٬ فيعودون الى التفرق والتجمع .
وعندما استحال التجمهر في مكان واحد ٬ أخذت مجموعات صغيرة من الطلبة والعمال تجوب الشوارع ٬ وتثير المناقشات على الارصفة والمقاهي ٬ وتطلق الأفكار وسط دوي القنابل المسيلة للدموع .
وهكذا انتشرت بؤرة الحرية لتشمل القاهرة كلها بعد أن كانت محصورة في رقعة ضيقة من أرض الوطن . وامتزجت الكلمة الحرة بالعمل المستمر على الدفاع عن النفس ضد قوى القمع وأصبح من الواضح أن حق الكلام لا بد وأن ينتزع انتزاعا من النظام القائم ٬ وان العمل السياسي الحر لا بد وأن يرتبط بالعمل على الدفاع عن النفس ضد الذين يتمسكون باحتكار السلطة .
وبذلك نجح الشباب ٬ من الناحية الايديولوجية ٬ في فك الحصار الذي حاولت السلطات ان تحكمه حولهم اذ أطلقوا تيارا شعبيا جديدا ٬ مستقلا عن الهياكل الرسمية ٬ نابعا من أعماق الضمير الوطني الجماهيري ٬ تيارا استطاع أن يعبر عن نفسه وأن يقاوم في نفس الوقت محاولات خنقه وقمعه . وبذلك أكد استحالة احتوائه من قبل القوى المعادية للشباب .
ظهور ارادة شعبية مستقلة عن أية وصاية
ومن هنا الأهمية الحاسمة لانتفاضة الشباب المصري الأخيرة : انها سمحت للحركة الشعبية المصرية ٬ التي بزغت بعد يونيو 1967 ٬ ان تعي بوضوح ما كان يختمر في أعماقها من أمان وطنية وديمقراطية ٬ وأظهرت ارادة شعبية مستقلة عن أية وصاية .
وأعاد السادات الهدوء الظاهري الى شوارع القاهرة . وحقق في النهاية نصرا عسكريا على الشباب الثائر . ولا غرابة في ذلك ٬ فان علاقة القوى بين السلطة القائمة وبين الحركة الوطنية الشعبية المستقلة ٬ في المجال العسكري ٬ ستظل لصالح السلطة طالما لم تبلغ الحركة الشعبية مرتبة التنظيم السياسي العسكري الفعال . لذلك فان الانتصارات والهزائم في أية مواجهة بيت القوتين لا تقاس في المرحلة الحالية بالنتائج العسكرية للمواجهة ولكن بنتائجها الايديولوجية والسياسية . ومن هذه الزاوية يمكننا أن نقول ان الحركة الوطنية الشعبية المستقلة قد خرجت من المواجهة الأخيرة منتصرة اذ تعاظم الوعي الشعبي بضرورة سيادة الجماهير على مقاليد الأمور في البلاد .
وأصبحت هذه الحقيقة عاملا سياسيا يفرض نفسه على الجميع ٬ بما فيهم حكام اليوم ٬ فتشل الأيدي التي كانت تتطلع الى توقيع وثائق استسلامية ٬ وتقف عائفا بين العناصر المستعدة للتفاهم مع المحتل وبين تحقيق أحلامها .
ومن هنا فأن أهم نصر حققه الشباب المصري هو النصر الذي حققه على اسرائيل ٬ وعلى الدولتين الكبيرتين اللتين عملتا بكل الوسائل على الاحتفاظ بالشعب المصري أسيرا لسلبية مفروضة عليه . فقد عصفت انتفاضة يناير بمحاولات التفاهم بين الحكم المصري واسرائيل ٬ التي كانت الدولتان الكبيرتان تباركانها . ولم تعد أمور الحرب والسلام تحدد في الكرملين أو في البيت الأبيض ٬ ولا حتى في قصر عابدين ٬ وانما عادت الى أصحاب الحق الأول والأخير ‒ أبناء مصر كلها .