تجري اليوم في السودان حملة قمع محمومة ضد أعضاء الحزب الشيوعي السوداني . ان العداء للشيوعية يشكل شعارا رسميا لنظام جعفر النميري .

لقد أعلن ضباط السلطة بكل صراحة : “منذ اليوم , كل من يعلن عن نفسه كشيوعي , أو يقر بانتمائه الى تنظيم شيوعي سوداني ‒ سوف يحق ويباد . لا مكان للشيوعيين في صفوف الثورة , وسوف يتم كنسهم منها .. ولن يسمح بأي حال من الأحوال ببقاء حزب شيوعي , وفي نيتنا تطهير كافة المصالح الحكومية والمصالح العامة والنقابات المهنية , من العناصر الشيوعية المتواجدة فيها” .

لقد تفوه النميري بهذا الكلام , ولكنه سارع الى القول بأن “الاجراءات التي اتخذتها الثورة ضد الحزب الشيوعي , لن تمس بأي شكل من الأشكال بالعلاقات المتينة القائمة بين السودان والاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية “.

لقد اعتدنا , خلال فترة حكم الرئيس عبد الناصر على سماح هذا النوع من التصريحات المتزمتة , ويحاول النميري اليوم تقليد معلمه , مثله مثل البرجوازية ‒ الصغيرة السودانية التي انتهجت نهج البرجوازية ‒ الصغيرة المصرية , على الدوام . لكن الديماغوغية والتصريحات المعلنة , تخفى من ورائها أهدافا سياسية واضحة المعالم .

ان نظام النميري ما زال متعضعا , حتى بعد مضى عامين على قيامه , كما تجتاز كافة الأنظمة العربية البرجوازية ‒ الصغيرة انعطافا حادا نحو اليمين .

وينتهي بذلك دور البرجوازية ‒ الصغيرة التاريخي المناهض للاستعمار والتقدمي , في الدول التي تسلمت هذه الأنظمة زمام الحكم فيها : في مصر وسوريا والعراق وليبيا والسودان والجزائر .

ان عجزها عن المضي في الخطوات التقدمية يجعل تلك الأنظمة تجابه خطر ثورة شعبية . كما تعي البرجوازية ذلك , الأمر الذي يدفع بها الى البطش بكافة القوى التي تقف على يسارها , مثل الحزب الشيوعي السوداني .

ان السودان اليوم , ليست كمصر البارحة . اذ ان الزعامة العسكرية (السودانية) قد لجأت في أكثر من مرة الى دعوة الحزب الشيوعي طالبة العون على تصفية تنظيمات يمينية , ترتبط بشكل مباشر بالاستعمار . وقد كانت الحاجة لمساعدة الحزب الشيوعي برهانا على ضعف نظام النميري , وعلى التأييد الكبير الذي يحظى به الحزب الشيوعي بين صفوف العمال والفلاحين . اما اليوم , في الوقت الذي يشتد فيه التحول نحو اليمين , فانه يجد نفسه مضطرا الى الاسراع في القضاء على الحزب الشيوعي , من أجل الحفاظ على حكمه .

خلافا للحزب الشيوعي المصري , الذي وافق في حينه على حل تنظيماته وانصهاره في الحزب الناصري ‒ الاتحاد الاشتراكي العربي ‒ أعلن الحزب الشيوعي السوداني (على لسان محمد ابراهيم أحد قادته) : “ان الحزب الشيوعي السوداني , رغم اتساع دائرة علاقاته السياسية مع كافة دوائر الحركة التقدمية العربية , لا يقبل تدخل أية سلطة بما في ذلك السلطة السودانية في شئونه , أو المساس باستقلاله” .

ان موقف الحزب الشيوعي هذا , يشذ عن السياسة المعهودة التي تتبعها الأحزاب الشيوعية والاتحاد السوفييتي في دول العالم الثالث . اذ ان الاتحاد السوفييتي يدفع دوما الأحزاب الشيوعية الى تأييد الأنظمة البرجوازية الصغيرة في العالم العربي , والى تشكيل جبهة شعبية مع تلك القوى (لقد كان موقف الاتحاد السوفييتي , والأحزاب الشيوعية الدائرة في فلكه , بعد وفاة لينين عام 1924 , وخلال فترة حكم ستالين والى اليوم تجاه قضية الثورة في المستعمرات , وطريق تقدم الأقطار المتخلفة وشبه المستعمرة , يتلخص في انه نظرا لكون هذه الأقطار بلدانا متخلفة ولعدم توصل البرجوازية الصناعية فيها الى الحكم بعد , فان المهمة الرئيسية التي تواجه الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء , هي التحالف بشكل ما مع تلك البرجوازية الوطنية ضد الاستعمار والقوى الاقطاعية وسبه الاقطاعية , بغرض التوصل الى حكومة ذات شكل ائتلافي ‒ حكومة الطبقات الأربع ‒ كما سميت في الصين من عام 1925 ‒ 1927) . لكن الحليف الطبقي , قد باشر في هذه المرة أيضا , بالهجوم الشامل على القوى التقدمية .   

قام نظام النميري على أساس جبهة شعبية (سميت بالجبهة الوطنية الديمقراطية) . ولكن الحزب الشيوعي والنقابات المهنية السودانية عارضت محاولات ابتلاعها , وأصرت على البقاء كتنظيمات عمالية مستقلة . اما النميري والبرجوازية ‒ الصغيرة فانهما يحاولان حل أي تنظيم خارج نطاق سلطتيهما .

كتب محمد ابراهيم في خطاب مفتوح (نشر في “الحرية” بتاريخ 14/2/1971) : “وهم (أعضاء الحزب الشيوعي السوداني) يناضلون من أجل وقف الردة اليمينية , وفتح الطريق لسلطة الجبهة الوطنية الديمقراطية , بالعمل اليومي المثابر في كل ميدان توجد فيه قوى هذه الجبهة , التي اقتنعت وتزداد اقتناعا , ان جذور الأزمة السياسية الراهنة نابعة من انفراد فصيلة واحدة من فصائل الجبهة بالسلطة” .

ويبدو ان ثمة صدام عنيف يوشك ان يقع بين عناصر الجبهة الشعبية المختلفة . ان الأزمة الراهنة , تشكل نتيجة لتناقض شديد في المصالح .

فمن ناحية واحدة , نشاهد نظاما عسكريا يسعى لدمج السودان في اطار اقتصادي وسياسي عربي موحد يتمشى مع مصالح الطبقة الحاكمة , شريطة ان يكون ثمن دخوله الاتحاد : تصفية القوى السياسية اليسارية والقضاء على استقلالها . ومن الناحية الأخرى نجد حزبا شيوعيا مستقلا تماما , يعلن عن رفضه لانتهاج الطريق الذي سلكه الحزب الشيوعي المصري ويصر على استمراره في الطريق الذي يرتأيه .

ويمكن القول , بدون المراهنة على المواقف السياسية التي سيتخذها الحزب الشيوعي السوداني في المستقبل , ان الحزب قد عبر عن رد الطبقة العاملة الوحيد , تجاه افلاس الأنظمة “التقدمية” وتجاه محاولات تصفية المقاومة الفلسطينية .

ان الأمر الذي سيحدد في النهاية استمرار الحزب الشيوعي السوداني في نضاله أو انخذاله , هو تطور العلاقات المتبادلة بينه وبين الاتحاد السوفييتي . ان صمت الاتحاد السوفييتي يجئ من ورائه بشكل مكشوف , امكانية محاولته ترسيخ مصالحه في السودان , حتى ولو على حساب الحزب الشيوعي السوداني والطبقة العاملة التي تساند الحزب .

ان الخطر في السودان لا يهدد الحزب الشيوعي فقط , بل ات سياسة النميري تشكل تهديدا للطبقة العاملة بأسرها . كما يدمج هذا التهديد طابع الأنظمة البرجوازية الصغيرة لمعادي للجماهير , ويبرهن على عدم نجاعة سياسة “التحالف اللاطبقي” التي تنتهجها كل من موسكو وبيكين .

اما نحن , فاننا نعبر تجاه تلك المحاولات التصفوية , عن تضامننا وتأييدنا لأعضاء الحزب الشيوعي السوداني .