بيان من المنظمة الاشتراكية الاسرائيلية

كانت أحداث الشرق الأوسط في حزيران 1967 “جولة ثالثة” في الحرب الاسرائيلية العربية ٬ مرحلة أخرى في الاصطراع بين الحركة الصهيونية في فلسطين والحركة القومية العربية .

ومع ذلك كانت حرب حزيران 1967 جزءا من صورة أوسع ٬ دولية ٬ لها أهمية تمتد بعيدا خارج حدود الشرق الأوسط .

فلنبدأ ٬ اذن ٬ بالناحية العالمية لهذه الحرب ٬ ثم فيما بعد نعالج ناحيتها المحلية .

*

كانت سنوات الخمسين مرحلة انتصارات للاشتراكية ٬ وللقوى التقدمية في العالم ٬ ولثورة المستعمرات . ففي الصين توطدت الثورة ٬ وفي الهند الصينية هزمت قوى الاشتراكية الاستعمار الفرنسي ٬ وفي كوبا قامت ثورة اشتراكية .

وفي عدد من أقطار آسيا وأفريقيا توصلت الى الحكم قوى مقاومة للاستعمار ٬ وضاق جدا في هاتين القارتين نطاق حكم الدول الاستعمارية المباشر . وكانت القوى الاستعمارية في تقهقر .

وهذا الوضع العام انعكس في الشرق الأوسط وبرز التعبير الواضح عنه في حرب السويس سنة 1956 . فبعد ان أممت مصر شركة قناة السويس ٬ تدخلت بريطانيا وفرنسا بالقوة بغية استعادة مراكزها الاستعمارية المفقودة في الشرق الأوسط . وأثبتت حكومة اسرائيل مرة أخرى ام الصهيونية حليفة طبيعية للاستعمار ضد العرب ٬ فوفرت للدولتين الغربيتين حجة لتدخلها . وخلال ذلك حاولت حكومة اسرائيل ان تنشئ أوضاعا واقعية جديدة في الشرق الأوسط لصالح الصهيونية وعلى حساب العرب .

ولكن على الرغم من نجاحات اسرائيل العسكرية ٬ انتهت المغامرة الثلاثية بالفشل .

اما في سنوات الستين فقد حصل تغيير ملموس في الميدان الدولي . فقد وطدت الدول الغربية مراكز استعمارية جديدة في العالم الثالث ٬ وتحول الاستعمار الأمريكي الى “بوليس عالمي” ٬ وفي عدد كبير من الأقطار وقعت ‒ بتدبير من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ‒ انقلابات رجعية اسقطت حكومات معادية للاستعمار .

ومن الخطوات البارزة في هذا الهجوم الأمريكي العالمي :

  • التدخل الأمريكي في الكونغو .
  • أزمة الصواريخ في كوبا ٬ التي تراجع فيها الاتحاد السوفياتي امام التهديد النووي الأمريكي ٬ وفرضت الولايات المتحدة الاعتراف واقعيا “بحقها” بالتصرف كمسيطرة وحدها على المحيط ٬ بأن تفرض الحصار البحري ٬ وتقوم بتفتيش السفن .
  • التدخل الأمريكي ٬ على نطاق ٬ وبشكل لم يسبق لهما مثيل في الحرب الأهلية في فيتنام .
  • الحرب الوحشية التي تشنها الولايات المتحدة على جمهورية فيتنام الديمقراطية التي تقف وحدها في المعركة .

وليس هنا مجال التحليل المفصل للعوامل التي تساعد على هذا الهجوم الاستعماري العام ٬ ولكن جدير بالذكر في هذا المقام الدور البشع الذي يقوم به الاتحاد السوفياتي والأحزاب الشيوعية السائرة في ركابه . فشعار “الانتقال الى الاشتراكية بالطرق السلمية” (أي التخلي عن طريق الاشتراكية الثورية) ٬ والتفسير الانهزامي الذي يفسر به شعار التعايش السلمي ٬ والتطلع الى التوصل بكل ثمن الى اتفاق مع الاستعمار ٬ ووقف المساعدة النووية والصناعية عن الصين (سنة 1960) وتعريضها للابتزاز الاستعماري ‒ كل هذا يشيد عضد الولايات المتحدة ويمكنها من التصرف في الميدان الدولي كأنه ملكها لا يعارضها في ذلك معارض .

وفي أوائل سنة 1966 قام الجناح الأيسر من حزب البعث بانقلاب في سوريا . وتسلمت زمام الحكم هناك قوى برجوازية صغيرة ذات نزعات يسارية واتجاه معاد للاستعمار . وهذا النظام ‒ على الرغم من نواقصه وتناقضاته الداخلية ‒ قد حطي بتأييد شعبي واسع . وفي اطار هجومه العالمي حاول الاستعمار الأمريكي اسقاط هذا النظام في سوريا . وجرت محاولات متواصلة لذلك من الخارج (ولا سيما من الأردن) ومن الداخل (محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها حاطوم في خريف 1966) . بيد ان هذه المحاولات لم يكتب لها النجاح .

وفي الوقت ذاته اشتد جدا التوتر بين سوريا واسرائيل ٬ في أعقاب أعمال التخريب التي قام بها في اسرائيل أناس جاءوا من سوريا ٬ وفي أعقاب النزاع على فلاحة وزراعة الأراضي في المناطق المجردة من السلاح . ويمكن القول ان العلاقات التي توثقت بشكل خاص في السنوات الأخيرة بين الولايات المتحدة واسرائيل (اذ أصبحت اسرائيل ٬ الى جانب السعودية والأردن ٬ ركيزة بينة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط) ٬ وكذلك العلم بأن الولايات المتحدة معنية باسقاط نظام الحكم في سوريا ٬ قد شجعا حكومة اسرائيل على اتخاذ موقف متعنت ومهدد تجاه سوريا .

وبعد ان انتهت المحادثات الاسرائيلية السورية حول زراعة الأراضي المختلف عليها بالفشل (ويرجع ذلك الى حد بعيد الى موقف اسرائيل المتعنت) ٬ قامت اسرائيل بحراثة الأراضي المختلف عليها ٬ فوصل التوتر في المنطقة الى ذروته . وفي 7 نيسان قامت اسرائيل بعمل عسكري فاق في نطاقه كل الاصطدامات السابقة ٬ وأدى الى تشديد حدة النزاع : فقد دخلت الطائرات الاسرائيلية الى سوريا وضربت بقنابلها الهضبة السورية وتوغلت حتى مداخل دمشق ٬ ونشبت معارك جوية في أجواء سوريا . وتبين بوضوح ان هذه العملية العسكرية ليس في وسعها أن تؤدي الى وقف أعمال الارهاب التي يقوم به المخربون العاملون بتشجيع من أوساط معينة من السلطات السورية . ومن ناحية أخرى تبين بوضوح ان الخطوة التالية من اسرائيل لن تكون سوى عمل حربي على نطاق واسع .

وفي 10 ايار نشرت جريدة “هآرتس” عن بعض “أوساط الأمن” انه “يبدو أن لا مناص من الاصطدام وجها الى وجه مع السوريين في المستقبل ٬ الا اذا رجع السوريون عن موقفهم من ارسال مخربين الى اسرائيل” . وفي اليوم التالي صرح رئيس الحكومة اشكول ‒ الذي كان لا يزال وزيرا للدفاع ‒ انه “حيال 14 حادثا في الشهر الأخير وحده ٬ قد نضطر الى اتخاذ اجراءات ليست أقل خطورة مما كان في 7 نيسان” . وسمعت تهديدات أخرى من هذا القبيل من أفواه ناطقين اسرائيليين حتى أواسط ايار . (وجدير بالذكر ان اسرائيل ٬ في حرب حزيران الأخيرة ٬ قد هاجمت سوريا بعد كسر الجيش المصري وبعد ان وافقت سوريا على وقف اطلاق النار) .

وقد صدرت حكومة اسرائيل عن الافتراض بأن سوريا ستبقى وحدها (كما كان في 7 نيسان) ولن تهب مصر لمساعدتها بسبب انشغال المصريين في اليمن . وقد أعرب عن هذا الافتراض بوضوح اشكول في حديث أدلى به الى جريدة الجيش “بمحنيه” (انظر كذلك “هآرتس” في 10 ايار) . وفي تلك الأيام كانت السلطات الأردنية تظهر شماتها بالسوريين .

وفي 15 ايار خطت مصر خطوة غير متوقعة فنقلت ٬ بشكل تظاهري ٬ قوات عسكرية الى سيناء . وطلبت السلطات المصرية من قوات الطوارئ الدولية التخلي عن مواقعها في منطقة الحدود . غير ان سكرتير الأمم المتحدة أسرع ٬ لأسباب لا تزال غامضة حتى اليوم ٬ ودعا المصريين الى المطالبة بسحب قوات الطوارئ من الأراضي المصرية .

وفي هذه المرحلة فسرت خطوة عبد الناصر بأنها عمل تظاهري فقط . فقد قال مكاتب “هآرتس” ٬ مثلا ٬ في 17 أيار ان تحرك الجيش المصري جاء “في المقام الأول للضغط ٬ لا لمقتضيات عمل حقيقي … والغرض هو التأكيد للعالم العربي ان مصر ستهب لمساعدة سوريا” .

وفي 22 أيار نشرت “هآرتس” تحريض الأردن وحثها لعبد الناصر على اغلاق مضائق تيران في وجه السفن الاسرائيلية .

وفي اليوم ذاته أعلن عبد الناصر اغلاق المضائق .

وبهذه الاجراءات نقل عبد الناصر مركز الثقل في التوتر من الجبهة السورية الى الجبهة المصرية .

وثمة أساس للاعتقاد ان عبد الناصر حتى في هذه المرحلة لم يكن يعتقد ان النزاع سيتحول الى اصطدام عسكري واسع ٬ بل يبقى ضمن الاطار السياسي ٬ وينيله مكاسب سياسية (وعلى الأخص محو بقايا مكاسب اسرائيل من حرب السويس ‒ سيناء) . كذلك ثمة أساس للاعتقاد بأن الاتحاد السوفياتي ‒ الذي اعتمد على الاتفاق الساكت بينه وبين الولايات المتحدة في الميدان الدولي ‒ قد قوى اعتقاد مصر بأن الولايات المتحدة لن تسمح لاسرائيل بشن حرب .

غير ان الوقائع قد أثبتت أن هذه التقديرات كانت خطأ فادحا . فقد أوقع عبد الناصر نفسه في شرك قتال .

فواضح ان الولايات المتحدة كانت معنية باضعاف عبد الناصر ٬ نظرا لتأثيره في العالم الثالث ٬ ولا سيما من جراء الوضع في الجنوب العربي . كذلك ينبغي التأكيد على ان الامريكيين على خلاف خصومهم السوفياتيين ‒ لا يقيمون وزنا كبيرا لقواعد لعبة التعايش السلمي . وهم لا يخشون أي نزاع مسلح ولا يعتقدون خطأ ان كل نزاع كهذا يؤدي مباشرة الى كارثة نووية .

وفضلا عن ذلك ٬ فان اسرائيل ‒ على الرغم من اعتمادها من جميع النواحي على تأييد الولايات المتحدة ‒ ليست شركا ذا دور سلبي يكتفي بتنفيذ الأوامر . فخدمة الولايات المتحدة في نظر حكام اسرائيل ليست هدفا في ذاتها وانما هي وسيلة لخدمة الأهداف والمطامع الصهيونية . وقد حدث غير مرة ان الصهيونية قد دقعت أو حاولت ان تدفع الاستعمار الغربي الى عمل ما .

كذلك قد أخطأ عبد الناصر خطأ كبيرا في تقدير تناسب القوى العسكرية بين مصر واسرائيل ٬ ولم يفترض أن مصر في حالة نشوب اصطدام عسكري قد تمنى بهزيمة سريعة (وسنعالج فيما بعد بعض العوامل التي أدت الى هذه الهزيمة) .

وفي أعقاب الخطوات التي اتخذها عبد الناصر اشتد ساعد اشد العناصر الحربية تطرفا . وضم بيغن وديان الى الحكومة وعين الأخير وزيرا لدفاع . وجدير بالذكر ان ديان كان قد أصبح مؤخرا المعبر البارز عن الخط الموالي لأمريكا في اسرائيل ٬ وقد برزت هذه الحقيقة بشكل خاص في زيارة ديان لفيتنام ٬ ضيفا على الأمريكيين وعلى نفقتهم .

ولا شك في ان العلاقة الوثيقة بين اسرائيل والولايات المتحدة كانت أحد العوامل الرئيسية التي أدت الى القطيعة الصريحة بين حكومة اسرائيل ورئيس فرنسا .

ومن كل ما ذكر أعلاه يتبين ان نتائج حرب حزيران 1967 ٬ من حيث أهميتها العالمية ٬ تضاف الى قائمة نجاحات الهجوم العام الذي يشنه الاستعمار الأمريكي على نطاق عالمي .

ولكن عدا نواحي النزاع العالمي ٬ ينبغي كذلك اعتبار النواحي المحلية التي كان لها دور هام في مجرى الأحداث .

لم يكن هنا مجرد اصطراع في فراغ بين الاستعمار وقوى مناهضة للاستعمار . ففي الواقع قد اتخذ الصراع شكلا قوميا واضحا ٬ وظهر كمرحلة أخرى في النزاع التاريخي بين الصهيونية والحركة القومية العربية .

وهذه النواحي المحلية والقومية قد أدت الى تعقيد الصورة العامة ولفها بالضباب .

والعامل الأول الذي ينبغي معالجته ‒ وهو الذي قرر الى حد بعيد نتائج المعركة ‒ هو طابع النظام القائم في مصر . ان الثورة المصرية ٬ على رغم كونها ظاهرة تقدمية في حينها ٬ قد توقفت في منتصف الطريق ٬ ولم تتخذ طابعا اشتراكيا . صحيح ان جماعة الضباط الحاكمة في مصر قد قامت بسلسلة من الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الهامة ٬ ولكن النظام مع ذلك بقي ذا طابع برجوازي صغير ٬ وقد فشل في تنظيم جماهير الشعب واشراكها في الحياة السياسية . حتى الجهود الذي بذلت لاقامة حزب جماهيري (“الاتحاد الاشتراكي”) كقاعدة للنظام قد أخفقت كليا ولم تتعد كونها محاولات بيروقراطية . ان ركيزة النظام القائم في مصر هو الجيش ٬ تضاف اليه فئة من البيروقراطية الجديدة التي توطدت منذ الثورة . والطبقات الحاكمة القديمة لم تحطم بل لم تزل قائمة في الجيش والجهاز والثغرة الاجتماعية الواسعة بين الطبقات ذات الحقوق والامتيازات وجماهير الشعب لا تزال على حالها . وهذا الوضع يشكل عاملا هاما في تقوية الجناح الأيمن من الفئة الحاكمة .

فبهذا يفسر انهيار الجيش المصري السريع في المعركة . فجدير بالذكر ان الطيارين وقسما كبيرا من الضباط هم من الفئات الاجتماعية المعادية للثورة . والتناقضات الاجتماعية التي أدت الى تعفن الجيش في أيام النظام القديم ٬ لم تزل قائمة حتى اليوم .

ان توقف الثورة المصرية في منتصف الطريق ٬ وعدم تحقيقها تغييرات اجتماعية عميقة ٬ قد كان له اثره في خطوات عبد الناصر السياسية قبيل الحرب .

خلال سنوات كرر عبد الناصر مؤكدا ان مهمة العرب العاجلة ليست الاصطدام العسكري مع اسرائيل ٬ بل عليهم قبل كل شيء تحقيق تغييرات داخلية في العالم العربي ٬ واسقاط الأنظمة الملكية الاقطاعية والرجعية القائمة في عدد من الأقطار العربية ٬ وتحقيق وحدة قائمة على أساس تقدمي . وقد ندد ‒ بحق ‒ بالملك حسين كخادم للاستعمار وعدو للأمة العربية وكابت لعرب فلسطين .

ولكن لما ازفت ساعة الامتحان اندفع عبد الناصر ‒ من جراء نقاط ضعف النظام القائم في مصر ‒ الى الاعتماد على شعارات قومية من أسوأ الأنواع . وبدلا من حلف القوى المقاومة للاستعمار عقد الحلف غير المقدس مع الملك حسين (وذلك على الرغم من استياء الحكومة السورية) . حتى ذلك الحين كان حسين “العدو الأول” ٬ ولكن لما بدا ان عرشه على وشك الانهيار ٬ منحه عبد الناصر “قبلة الحياة” ٬ “وطهر من كل دنس” باسم الوحدة القومية العربية . واختار عبد الناصر شاهدا وكفيلا لهذا الحلف أحمد الشقيري ٬ الزعيم الفلسطيني الرجعي الذي كان في احدى تقلباته ممثلا للملك السعودي في هيئة الأمم المتحدة .

وقد ظهر هذا التحول بشكل خاص في الدعاية البشعة التي صدرت عن القاهرة ٬ ولا سيما عن راديو الشقيري ٬ فالشعارات المعادية للاستعمار والدعوة الى الدفاع عن سوريا ضد العدوان قد غرقت في تيار قذر من التهديدات بالقضاء على دولة اسرائيل وسكانها .

وكما توقعنا من البداية قد اضرت هذه الدعاية بأصحابها ٬ اذ شدت عضد الأوساط المتطرفة في اسرائيل ودفعت قسما كبيرا من الرأي العام العالمي الى موقف عدائي من مصر ومؤيد للصهيونية . ولم تظهر اسرائيل معتدية وخادمة للاستعمار ٬ بل مناضلة عن كيانها وعن حياة سكانها .

في البيان الذي أصدرنا في أوائل شهر أيار (قبل اشتداد الأزمة في الشرق الأوسط) ٬ انتقدنا موقف الزعماء العرب القوميين بقولتنا :

” ان حل قضية فلسطين يجب ألا يقتصر على ازالة الظلم الذي لحق بعرب فلسطين ٬ بل يجب كذلك ان يضمن المستقبل القومي لجماهير الشعب العبري . ان هؤلاء الجماهير قد أتت بهم الصهيونية ٬ ولكنهم غير مسؤولين عن أعمال الصهيونية . ومحاولة الاقتصاص من العمال وجماهير الشعب الاسرائيليين ٬ لما ارتكبته الصهيونية من الخطايا ٬ لا يمكن ان تحل قضية فلسطين ٬ وانما هي تؤدي الى كوارث جديدة” .

وللأسف الشديد قد تحقق هذا التحذير أسرع جدا مما توقعنا . وفي ذلك البيان نفسه قلنا :

“ينبغي ان يفهم ان جماهير الاسرائيليين لن يتحرروا من تأثير الصهيونية ٬ ولن يناضلوا ضدها اذا لم تضع أمامهم قوى التقدم في العالم العربي مستقبلا في الحياة المشتركة دون كبت قومي” .

وقد أثبت الواقع صدق هذه الموضوعة .

فلو ان عبد الناصر انتصر في هذه الحرب على أساس تلك الشعارات القومية وعلى أساس التحالف مع حسين ٬ ما كانت لتحل قضية فلسطين ٬ وانما كانت تنشأ قضية يهود فلسطين بدلا من قضية عرب فلسطين .

*

لئن كانت حرب حزيران 1967 ٬ من ناحية تناسب القوى العالمية ٬ قد أضافت نجاحا آخر الى الاستعمار العالمي ٬ فقد كانت من الناحية المحلية في الشرق الأوسط انتصارا للصهيونية .

ان الصهيونية في جوهرها حركة استيطان واستعمار لمستوطنين جاءوا الى فلسطين من الخارج بتأثير أفكار قومية . وأسلوب عملها كان دائما : خلق حقائق واقعية ‒ واذا لزم الأمر بالقوة ‒ على حساب العرب وضدهم . وفي طريقها هذا كانت دائما حليفة طبيعية للدول الاستعمارية وفي ظل حمايتها فاصطدمت حتما بالعرب .

وكل هذه الخصائص والمميزات الصهيونية قد ظهرت واضحة في الحرب الأخيرة .

ان الانتصار العسكري قد أدى الى اشتداد ساعد الأوساط اليمينية والعسكرية وغلاة الشوفينية في القيادة الصهيونية في اسرائيل ٬ والى تحول عام نحو اليمين .

وفي أعقاب الوضع العالمي الحاضر (الذي وصفناه أعلاه) سادت لدى الأكثرية الساحقة من الجمهور الاسرائيلي فكرة أن النصر العسكري يمكن دولة اسرائيل من فرض تسوية والتوصل بذلك الى حل للنزاع الاسرائيلي العربي . ومن المنابر العامة سمع بعض صيغ هذه التسوية .

ونحن نعتقد ان هذا التوجه خاطئ من أساسه . وكل الصيغ القائمة على أساس هذا التوجه لن يكون في وسعها حل القضية .

ان القضية الاسرائيلية العربية لا تقتصر في جوهرها على قضية اللاجئين أو الحدود أو مستقبل عرب فلسطين السياسي . كل هذه الأمور ليست سوى نواح ومظاهر مختلفة للقضية الجوهرية ٬ وهي : مستقبل اسرائيل في قلب منطقة عربية .

والسؤال هو هل تتحول اسرائيل الى نسخة جديدة لدولة الصليبيين ٬ أم تنجح في الاندماج في هذه المنطقة وفي العمليات التاريخية التي ستقرر مصير هذه الناحية من العالم .

ومن هذه الناحية لم تتقدم هذه الحرب باسرائيل قيد انملة نحو حل قضيتها الأساسية ٬ بل على العكس .

فعلى الرغم من تناسب القوى العسكرية القائم الان ٬ لا تزال اسرائيل جزيرة صغيرة في العالم العربي .

واستغلال ميزان القوى العسكرية الحاضر لفرض واقع على العرب سينتقم من اسرائيل في المستقبل ٬ حين يتغير تناسب القوى المحتوم في المستقبل . كل “تسوية” يتوصل اليها اليوم من مراكز القوة ستكون مؤقتة فقط ‒ ولذلك وهمية . حتى لو وافقت دولة عربية ما على عقد صلح مع اسرائيل تحت ضغط الوقائع الناجمة عن الحرب ٬ فلن يكون مصير معاهدة صلح كهذه خيرا من مصير معاهدة فرساي . فانها ستتحول الى قصاصة ورق غير ذات موضوع ٬ ولن تمنع نشوب حرب جديدة ٬ بل على العكس ٬ لن تحل القضية بل تجمدها .

والواقع ٬ قد يكون على بساط البحث “معاهدة صلح” منفرد مع حسين . ونتائج معاهدة كهذه من شأنها اذ تكون خطيرة جدا ٬ على الأخص لأنها تربط مستقبل اسرائيل بأشد القوى الرجعية في الشرق الأوسط ٬ وتقوي ‒ في الأمد القريب ‒ مركز الاستعمار في هذه المنطقة ويزيد من ارتباط اسرائيل بالاستعمار .

وهنالك في اسرائيل أوساط تطالب بضم المناطق المحتلة (أو القسم الأكبر من هذه المناطق) . ولن نطيل الحديث عن هذه الحماقات . فهي طريق مضمون لتعميق وتوسيع النزاع ٬ واعداد مستقبل لاسرائيل مفعم بالكوارث . ان ضم أقاليم بالقوة أمر مستنكر مبدئيا ٬ وفضلا عن ذلك فان هذا الضم يخلق سابقة ‒ خطرة قد تستعمل ضد اسرائيل في المستقبل .

وهناك اقتراح بانشاء دولة عربية من الضفة الغربية وقطاع غزة تكون تحت حماية اسرائيل . وهذا معناه في الواقع ضم هذه الأقاليم لاسرائيل دون ان يكون لسكانها حق المواطن في اسرائيل ٬ ودون توطين اللاجئين في دولة اسرائيل . ان محمية كهذه ستكون شبه “البانتوستان” الذي تريد حكومة جنوب افريقيا اقامته للأهلين السود هناك . واضح ان عرب فلسطين لن يرضخوا لهذا المصير السياسي . وهذا أيضا سيكون حلا مفروضا بالقوة ينتقم في المستقبل من فارضيه .

وثمة شكل آخر لهذا المشروع انخدعت به أوساط تعتبر بوجه عام تقدمية . وهذا الشكل هو منح “حق تقرير المصير لعرب فلسطين ٬ ليقيموا دولة “مستقلة” في الضفة الغربية وقطاع غزة ٬ وتكون هذه الدولة مرتبطة ارتباطا اتحاديا باسرائيل . ونحن نحذر من هذا . فعلى رغم النوايا الحسنة لدى بعض مؤيدي هذا المشروع ٬ فان تنفيذه في الظروف الحاضرة هو من ناحية موضوعية خطوة سلبية .

ان مفهوم “تقرير المصير” و”حرية الاختيار” لا يمكن ان يكون في الأوضاع الحاضرة الا زيفا وخداعا .

قلنا في الماضي ونعود فنكرر الآن ان لعرب فلسطين الحق في ان يقرروا مصيرهم السياسي بأنفسهم دون أي اجبار من الخارج . ولكننا نحذر من الأوهام الخطرة التي نشأت في اذهان بعض من الجمهور الاسرائيلي بأنه الآن ٬ اذ تسيطر اسرائيل بقوة السلاح على فلسطين كلها بحدودها ايام الانتداب ٬ جاءت الفرصة المناسبة لتنفيذ حق تقرير المصير هذا .

بل العكس هو الصحيح . ان الاحتلال يقضي على الأساس الصحيح لحق تقرير المصير بالاختيار الحر . وفي أحسن الحالات تكون الدولة الفلسطينية التي تقوم على أساس الاحتلال مجرد “غيتو” ضيق ٬ وشكلا كاريكاتورية لدولة مستقلة . ان الحل التام للقضايا القومية (بما في ذلك حق تقرير المصير لعرب ويهود فلسطين) يتحقق ٬ في المدى البعيد ٬ في اطار الثورة الاشتراكية في أقطار الشرق الأوسط التي تتحد في كتلة سياسية واحدة .

ونحن ٬ اذ نأخذ بالاعتبار الأهمية الدولية لحرب حزيران 1967 ٬ ولمعارضتنا المبدئية للسياسة الصهيونية ٬ سياسة خلق أمر واقع وفرضه على العرب ٬ ولقلقنا على مستقبل اسرائيل في داخل العالم العربي ‒ نعتقد ان الواجب هو دعوة حكومة اسرائيل الى الانسحاب من الأراضي المحتلة والعدول عن محاولة فرض تسوية بالقوة . وهذه الدعوة هي المحك لكل هيئة ولكل انسان تقدمي .

وينبغي أن نوضح اننا لا نوهم أنفسنا بأن العودة الى خطوط الهدنة ستكون في حد ذاتها حلا لقضية فلسطين والعلاقات الاسرائيلية العربية ٬ انما ذلك هو خطوة ضرورية يتعذر بدونها مل تقدم نحو حل حقيقي .

أما في المدى البعيد ٬ فنحن نعتقد اليوم أيضا ٬ كما في الماضي ٬ ان الحل الحقيقي المستقر الوحيد لقضية فلسطين والنزاع الاسرائيلي العربي هو تخلي اسرائيل عن السبيل الصهيوني ٬ واندماج اسرائيل اشتراكية غير صهيونية في هذه المنطقة . ان الثورة الاشتراكية بقيادة العاملين ٬ هي كذلك الطريق الوحيد للوحدة القومية العربية والقضاء على التجزئة التي فرضها الاستعمار على العالم العربي .

ان الخبرة الدامية قد أثبتت أنه بالطرق القومية ‒ الصهيونية أو القومية العربية ‒ يستحيل حل أية قضية اجتماعية أساسية ٬ بما في ذلك القضايا القومية في الشرق الأوسط .

والحل الذي ندعو اليه يقتضي ثورة عميقة في داخل اسرائيل بغية تغيير طابعها من أساسه ‒ من دولة صهيونية الى دولة اشتراكية لتكون أهلا ٬ ومستعدة ٬ للاندماج في المنطقة .

كذلك ينبغي ان يحصل تغيير ثوري عميق في العالم العربي أيضا . فبالطرق القومية وبشعار “اتحاد العرب” اتحادا فوق الطبقات (وعلى أساس قومي صرف) ٬ باشتراك القوى الرجعية في العالم العربي ٬ لن يستطيع العرب حل القضايا الأساسية لمستقبلهم . وحتى الدور التقدمي الذي لوحدة العالم العربي والقضاء على تجزئته المصطنعة التي فرضها الاستعمار لن يحقق الا بطريق الاشتراكية ٬ والأحداث الأخيرة قد أثبتت من جديد الحاجة الى تغييرات اشتراكية ثورية في كل الأقطار العربية بما فيها مصر .

في زمن الأزمة ٬ كما في الأوقات العادية ٬ نرفع عاليا علم الاشتراكية والأممية ٬ وندعو جماهير الشرق الأوسط ‒ دان فرق في القومية ‒ الى النضال تحت هذا العلم .

المنظمة الاشتراكية الاسرائيلية

٥ تموز ١٩٦٧

البيان الثاني – بيان إسرائيلي عربي مشترك ، ٣ حزيران ١٩٦٧

ثلاثة بيانات – المحتويات