أقيم في برلين بين ال 18-29 من شباط 1980 المهرجان الدولي الثلاثون للأفلام . عرض فيه خلال أحد عشر يوما جوالي مائة فيلم في نطاق أجنحة المهرجان الثمانية . عرضت ضمن “السينما الاعلامية” أفلام من العالم الثالث ومن بلدان لا نحظى عادة بمشاهدة أفلامها .
من الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا عرضت خمسة أفلام .
وفيما يلي انطباعات مراسلنا في برلين ماريو أوفنبرغ :
● “ديسمان” (العدو) فيلم تركي 1979 ٬ اخراج زكي اقطان . ملون ٬ مدته 33 دقيقة ٬ حظي قبل عرضه باصداء واسعة اذ اعتقلت السلطات التركية كاتب السيناريو ‒ يلماز غيني . وهو يشارك منذ 1958 في كتابة السيناريوهات لأفلام كثيرة والمشاركة في التمثيل فيها ٬ وسجن عدة مرات لنشاطه السينمائي ومضمون عمله الناقد المتطرف للرأسمالية التركية وأساليب الاستغلال والقمع الوحشي الخاصة التي تمارسها . وبعد ان أصبح السجن “منزله الثاني” اثر الاصطدامات المتكررة مع الرقابة والمدعي العام التركيين ٬ أدين الآن بالسجن لمدة 24 سنة بتهمة محاولة اغتيال قاضي في مدينة أضنة . ويواصل كتابة السيناريو في أسره ٬ وهناك يولد “العدو” . وهذا الفيلم عبارة عن بحث لنظام الحياة الشخصية ٬ العائلية ٬ علاقات الجوار والعمل ٬ والعلاقات بين السلطات والمواطنين ٬ وكل ذلك يجري في قرية تركية متخلفة من مميزاتها البطالة وانعدام التضامن . وتوضح القصة كيف تنجح الايديولوجية الحاكمة في عزل المواطنين الواحد عن الآخر وذلك من خلال محاولتها اقناع كل فرد ان نجاحه منوط به فحسب ٬ ومن أجل هذا النجاح ليس من الجائز بل من الواجب على الفرد ان يتقدم على حساب الغير . الفيلم لا ينتهي هنا ٬ ليست رسالته دعوة بر واحسان من أجل التفاهم والمحبة المتبادلين ٬ بل هي تعرية حقيقية لمصادر الاستغلال والفقر والتسلط ٬ تعرية الخاسرين والمنتفعين من هذه الأوضاع .
● “الخطوة الأولى” فيلم جزائري ٬ 1979 ٬ المخرج : محمد بو عمري . كاتبة السيناريو : فتحية ندشاوي . ملون ٬ مدته 108 دقائق . يروي قصة امرأة انتخبت لرئاسة البلدية ٬ تواجه المشاكل والأفكار البالية ٬ زوجها وعائلتها ٬ تقاليد مجتمع ديني بطريركي ٬ تضع العراقيل الصعبة امامها . ليس هذا بالفيلم السطحي الطنان وليست هذه دعاية رخيصة للنظام الجزائري . الفيلم يرينا كيف انه بعد عشرات السنوات من سياسة “في خدمة الشعب” لا تتلاشى معالم النظام القديم بين عشية وضحاها ٬ بل تواصل البقاء وتعمل كعثرة امام التغيير والتقدم . لكن اذا كان المجتمع الجزائري الراهن مركبا حقا من عوامل اجتماعية وايديولوجية ليست مختلفة فحسب ٬ بل متناقضة ٬ فقد نسي الفيلم ان يروي للجمهور ان المرأة الجزائرية التي تضطلع بمهمة عامة ملزمة بمنازلة هذا القدر الكبير من الآراء البالية ٬ من جانب هذا العدد الكبير من الناس الذين يتطلعون الى افشالها في مهمتها ٬ اذن من انتخبها عموما ؟ اذا كانت الانتخابات لرئاسة البلدية عامة ٬ كيف انتخبها أولئك الذين أخذوا يعارضونها لاحقا ؟!
● فيلم “صندوق في الصحراء” جزائري 80-1979 ٬ ثلاثون دقيقة ٬ ملون ٬ من اخراج ابراهيم داكي ٬ درامي وثائقي ٬ نابض بالحيوية . مضمون القصة بسيط : أولاد في الصحراء يبنون لهم دمى مختلفة ٬ شاحنات ٬ سيارات ٬ عجلات من خيوط حديدية وعلب التنك ٬ الفيلم هو عبارة عن الحلقة الثالثة الموجزة لثلاثية حظر تصدير جزئيها الأول والثاني . وفي هذين الجزئين اللذين لم يحظ برؤيتهما المشاهدين في برلين ٬ أراد المخرج ان يرينا كيف يعيش الطفل واقع حياته خاملا لا مباليا . وفي الحلقة الثالثة التي هي خلاصة الثلاثية يبدأ الطفل يدرك ويفهم بيئته الطبيعية والاجتماعية ٬ يواجهها ويستخدم كفاءاته مستعينا بخباله ٬ ليصبح رمزا للانسان كحيوان اجتماعي يكتسب وعيه الاجتماعي والسياسي .
● عرض أول فيلم من اخراج “المسرح الجديد من تونس” لفرقة من الفنانين المستقلين :”العرس” فيلم تونسي 1978 اخراج وسيناريو : جليلة بكار ٬ محمد ادريسي ٬ الفاضل الجعايبي ٬ فاضل جازيري وحبيب مسروقي . مدته تسعون دقيقة ٬ بالأبيض والأسود .
يدور الفيلم جول قصة برتولت برخت “زواج برجوازي صغير” غير انه يبدأ من المكان الذي ينتهي فيه برخت . بعد أن ينفض الضيوف يظل العروسان وحدهما ٬ ويبدئان صراعا مريرا وحتى عنيفا بينهما . فالعروس من عائلة فقيرة ٬ مكانته كموظف ضرائب تستخدم كاطار لوصف ظروف معيشة الطبقة البرجوازية الصغيرة ووعيها وطموحها وصفا ناجحا ٬ في غمرة النقاش المفعم بالكراهية والعدوانية تسقط أقنعة الكذب والمسلمات وتتعرى النزاعات النفسانية والاجتماعية حتى جذورها .
ويتحدث الفاضل الجعايبي عن فرقة الفنانين وعملها : تتكون فرقتنا من خمسة أعضاء . تعلمنا المسرح والتصوير والسينما في سنوات 1967 ‒ 1972 ٬ وعدنا الى تونس في 1972 . أردنا بناء مسرج ذي أشكال ومضامين جديدة . مسرحا “سياسيا” وان لم يكن بالمفهوم الكلاسيكي خرجنا الى الريف وتمركزنا في منطقة جفصة ٬ التي كانت دائما متمردة مناهضة فعلا للاستعمار وتخشى من الارتباط بالحكم المركزي ٬ فقدم لنا مجلس المدينة العون المادي ٬ وتعهدنا ان نعمل لصالح الأهالي ونسهم في تحسين المستوى الثقافي . ودعيت فرقتنا وقتئذ “بمسرح الجنوب” . استعملنا ألوانا من التمثيل الغربي مثل “كوميديا ديل آرطه” تناولنا مشاكل الاقطاع ٬ الاستغلال الرأسمالي واضطهاد المرأة . عرضنا قضايا اجتماعية بأسلوب هزلي . وكنا اذا حاولنا لمس مشاكل الدين ٬ حظرت الرقابة مسرحياتنا ٬ اما الجمهور فقد كان منفتحا متفهما .
وبعد فترة ابتدأنا بتجربة أخرى ٬ في نفس المكان : مسرحية عن حياة محمد علي الهامي أحد مؤسسي النقابة المهنية التونسية في مطلع العشرينات ٬ الذي ناضل لحماية الشعب العامل ضد الحكم الأجنبي والمحلي . اخترنا هذا الموضوع لأننا أدركنا انه رغم مرور خمسين عاما لا يزال السكان يعيشون ظروفا شبيهة جدا بتلك المعروضة في المسرحية ٬ ولم تدخل الرقابة لأن الموضوع اعتبر “تأريخيا” .
كانت جفصة تجربة هامة بالنسبة لنا ٬ فترة تمرس ساعدتنا على الترفع عن “ماضينا الباريسي” الذي شكل مرحلة قيمة في تطورنا ٬ الا اننا كنا ملزمين بتركه خلفنا كي نتقصى جذورنا التأريخية والاجتماعية في بلادنا .
ومع تعميق عملنا رأينل انه حتى ذلك الحين كان طافيا على السطح . الأفكار التي روجنا لها كانت اشتراكية ٬ غير ان مضمون التمثيل وشكله كانا أشبه بالملصقة منهما بالتوضيح . بدأنا نتفحص أكثر فأكثر الصور الواقعية التي يتجلى من خلالها وعي الشعب ووصلنا مرحلة من التحليل والتنفيذ بحيث يبدو فيها تمثيلنا ظاهريا أقل سياسية ٬ لكن في الواقع أصبح أكثر سياسة عما كان سابقا ٬ رغم انه لا يوجد في المسرحية من يهتف “يعيش ال ..” أو “يسقط ال …” .
يتوجد في المسرح العربي السياسي حاليا اتجاهان : أحدهما اختفى من أوروبا منذ قرابة العشرين عاما ٬ وهو المسرح الميتافيزي الذي يستخدم الرموز ويلمح الى أن ما يريد قوله هو موجز ومطلق . انه أشبه بميراث موليير ٬ راسين وسوفوكليس ٬ حيث يعتقد المخرج ان كل وحدة أو جزء هو هام ويحاول تنظيم خليط أفكاره في قالب معين .
والاتجاه الآخر هو المسرح السياسي “المناضل” يضج بالشعارات ٬ ولا يفلح في الواقع ان يتغلب على ضحالته وان ينزع القشور الايديولوجية المهيمنة (ليس في الدولة وحسب وانما مستحوذة على ادمغة جمهور النظارة) . وهذا المنحى في المسرح لا يحاول فهم الواقع الاجتماعي بتعقيداته ٬ بل ينحصر في تحديد من هو الخير والشرير ٬ لعل هيئة الرجل السمين الذي يرتدي بدلة ويدخن سيجارا ويرمز الى الامبريالي الأميركي ٬ قد لا تزال مسلية ٬ لكنها لا تقدر ان تفسر كيف تتم عمليا السيطرة الاستعمارية ‒ الجديدة على العالم الثالث ٬ والاستغلال والاضطهاد على أيدي الرجعية المحلية ومختلف أعوانها . ينبغي بهذا الفيلم ان يجد أكثر كي يفلح في تفسير ذلك .
● “ترانزين” ٬ فيلم اسرائيلي 1979 ٬ 87 دقيقة ٬ بالألوان ٬ اخراج دنيئيل فاكسمان ٬ سيناريو : دنيئيل هورفيتس . وهو الخامس في سلسلة أفلام الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا . لا بد وأن يعرض في اسرائيل لهذا نترك للقراء تقييمه بأنفسهم .