white democracy - 85

تصور ان اسرائيل بثلاثة الملايين يهودي الموجودين فيها ٬ تحكم وتستغل ليس مليونا ونصف المليون عربي فحسب ٬ كما هي تفعل اليوم ٬ بل 17 مليونا ٬ وهذا ليس على بقعة صغيرة بين الأردن والبحر بل على أرض تشمل مصر ٬ الأردن ٬ سوريا والعراق معا ! هذه هي النسب الجغرافية والسكانية السائدة منذ بداية القرن في جنوب أفريقيا . ولكن هناك يسيطر 4 ملايين من البيض على 21 مليون من السود .

معدل دخل الفرد الأبيض في جنوب أفريقيا هو 240 دولار شهريا ٬ بينما معدل دخل الفرد الأسود هناك هو 15 دولار شهريا . وهكذا فان البيض يتمتعون بثلاثة ارباع الدخل القومي ٬ في الوقت الذي يضطر فيه السود الى الاكتفاء بالربع المتبقي ٬ مع أنهم يشكلون 83% من مجموع السكان .

ولا يستعصى على الاسرائيلي العادي ٬ الذي ترعرع وتثقف في أحضان العقيدة الصهيونية وعلى “أنت اخترتنا” وعلى مقالات “معاريف” ٬ أن يفهم المزاعم السائدة في جنوب أفريقيا لتبرير الوضع الراهن . وفيما يلي موجزا جزئيا لهذه المزاعم كما أوردته مجلة “التايم” الأميركية :

  • ليست جنوب أفريقيا البيضاء مستعمرة (كولوني) بل أمة استوطنت في منطقة افريقية خالية من الانسان قبل أكثر من ثلاثمائة عام ! وبعد ذلك جاء السكان السود الى هناك سعيا وراء العمل .
  • وضع السود الاقتصادي في جنوب أفريقيا أفضل بكثير من وضع السكان في معظم دول أفريقيا السوداء ٬ كما أن أجهزة الصحة والتعليم وغيرها أكثر تطورا في جنوب أفريقيا .
  • اذا ما سيطر السود فان الدولة لن تكون ديمقراطية وللاقتناع بذلك يجب فقط مقارنة ديمقراطية جنوب أفريقيا الغربية مع الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة في نعظم بلدان أفريقيا .
  • ان عنصرية السود وكراهيتهم للبيض ٬ ليست بأقل سوءا من معاملة البيض للسود في جنوب أفريقيا .
  • السود متنازعون فيما بينهم ٬ وغير مؤهلين للتوصل الى اتفاق لما فيه صالحهم والى كيفية ادارة شؤونهم .
  • انشاء “أوطان قومية” للسود (في المناطق القاحلة في جنوب أفريقيا) هي الحل الأمثل ٬ لأن السود تربطهم وشائج وثقى بالأراضي التي ولدوا وترعرعوا فيها كأطفال .

وكما تعلمون فان هذه المزاعم معروفة لنا جيدا من أجهزة الاعلام الاسرائيلي . مع فارق وهو ان الاسرائيليين ما زالوا في مرحلة أبكر ولما يبلغوا الرشد المطلوب فيقترحوا ويفهموا الزعم الأخير بشأن “وطن قومي” .

الاسرائيليون ليسوا مستعدين ٬ في هذه المرحلة ٬ لعطاء الفلسطينيين ٬ وطنا قوميا ٬ حتى في البقعة التي ولد فيها الفلسطينيون والتي تضم أعلى كثافة سكانية منهم .

لا عجب اذن ٬ أن مجلة “التايم” نفسها ٬ وفي العدد ذاته ٬ تخلص الى النتيجة أن مزاعم وتصلب جون فورستر ٬ رئيس حكومة جنوب أفريقيا تذكر بمزاعم جولدا مئير : “لن نفعل شيئا يجلب ابادتنا” .

ولا عجب أن الفتيان والفتيات يؤدون دورا حيويا في مقاومة الأبرتهايد ٬ وذلك ازاء القمع العنيف وتعسف الشرطة والجيش ٬ (ثمة شبه كبير لتصرف الجيش والشرطة في البلاد ٬ في يوم الأرض في 30 آذار 1976) ٬ تماما كما في الضفة الغربية وقطاع غزة ٬ وكما في القرى العربية في اسرائيل ٬ يؤدي الشباب دورا هاما في المظاهرات ٬ القاء الحجارة ٬ حرق الاطارات والمقاومة العامة لنظام الاحتلال والاضطهاد .

صحيح أن هنالك فوارق هامة بين الصهيونية في اسرائيل وبين الأبرتهايد في جنوب أفريقيا . الا انه وراء سياسة “تطور السلالات الانعزالي” (كما يسمى الأبرتهايد لدى نظام جنوب أفريقيا) ٬ ووراء سياسة “تهويد الجليل” أو “دولة يهودية من البحر الى النهر” ٬ تكمن تركيبان اجتماعيا تتشابهان شبها كبيرا وعميقا .

سويتو هو جيتو العمال السود قرب يوهانيسبورغ ٬ يقطنه ٬ في ظروف اكتظاظ فظيع ٬ 1٬2 مليون عاملا الى جانب أقلية صغيرة من أبناء الطبقة الوسطى السود . جغرافيا سويتو هي ضاحية من ضواحي يوهانسبورغ ٬ وانسانيا واجتماعيا فهي عالم آخر تماما .

قبل سنتين ونصف ٬ في 16 حزيران 1976 ٬ تفجر غضب وحرمان العمال السود ٬ وتحول هذا الانفجار الى أكبر انتفاضة ينتفضها السود في جنوب أفريقيا . بدأت باضراب تلاميذ واتخذ الأولاد فيها موقعا حاسما . وقمعت بعد أسبوع من العنف والقتل البوليسي والعسكري الذي أردى 618 شهيدا . وهذه السنة ٬ في ذكرى مقتل ال 618 أسود ٬ جرى اضراب احتجاجي بمبادرة تلاميذ المدارس الثانوية . وهذه المرة قررت الشرطة ضبط النفس ٬ ورغم ذلك لاقى تلميذ واحد حتفه ٬ على الأقل ٬ تحت التعذيب ٬ في سويتو ٬ وقتل سبعة من العمال السود في مدينة بورت اليزابيت .

والتلاميذ يسمون نفسهم “أولادا” ويقولون باعتزاز : “لدينا خبرة سياسية غنية ٬ بيد أننا لا نزال أولادا” . وفعلا ٬ منذ أن قادوا انتفاضة حزيران 1976 ٬ فانهم يسيطرون في سويتو سياسيا ٬ وعن طريق عمليات مباشرة ضد المخلين بالاضراب ٬ أفلحوا هذه السنة في تعطيل التعليم والمقاهي وحوالي نصف الأيدي العاملة في سويتو .\يروي أحد الاباء من سويتو : “ابني في الثانية عشرة من العمر ٬ جاء الى البيت وحذرني : اذا ذهبت الى العمل فسوف نهاجمك نحن ٬ تصور !” . تم تنظيم الاضراب بشكل رائع ٬ ونجح رغم جميع أعضاء حملة “الأولاد” اعتقلوا قبل ذلك بعدة أيام . وسرعان ما وجد الأولاد لهم بديلا .

وكان نصر الأولاد الأكبر في حملهم مجلس بلدية سويتو على الاستقالة ٬ وهذا المجلس كان الجسم المنتخب الوحيد في سويتو ٬ الا أنه لم يمنح أي صلاحية تنفيذية . لقد كان هيئة استشارية فقط ٬ وبالطبع كان بمثابة خاتم مطاط لقرارات حكومة بريتوريا ٬ وفي الوقت ذاته كان يخدم مصالح شريحة صغيرة من السود من الطبقة الوسطى .

رئيس المجلس ٬ السيد مابوينا ٬ صاحب دكان ثري من سويتو ٬ جلب على أيدي فرقة من الأولاد الى المدرسة الثانوية ٬ وفي الطريق كان الأولاد ينضمون الى هذه الفرقة من كل صوب . وعلى اثر محادثة قصيرة أطلق سراح رئيس المجلس البلدي وقد أقتنع أن من الأحسن له أن يستقيل .

لقد فهم الأولاد أن عليهم الا يتورعون عن أية وسيلة والا يكونوا مؤدبين أكثر من اللازم ٬ اذا أرادوا أن يسمع صوتهم . واستعدادا للذكرى السنوية سار حوالي خمسمائة تلميذ ثانوي الى بناية المجلس ورجموه بالحجارة وعندما طاردهم أحد حارسي البناية السود ٬ ذهبوا الى بيته ورموه بقذائف مشتعلة . وقدم أعضاء المجلس البلدي استقالتهم في اليوم نفسه .

“نجح الأولاد ٬ بلا ريب ٬ في كسب تأييد سائر الجمهور في سويتو” جاء على لسان أحد أعضاء المجلس المنحل . وهذا التأييد أدى الى مكاسب في جميع مجالات حياة الجمهور الأسود في سويتو . فمثلا لتحسين خدمات الكهرباء (أقل من 20% من منازل سويتو تصلها الكهرباء) أقنع الأولاد عددا من البنوك الخاصة بمنح سويتو قرضا بمبلغ سبعين مليون دولار ٬ لتوسيع شبكة الكهرباء ٬ كما واقتنعوا شركات التأمين الطبي بتوسيع شبكة العيادات الطبية .

colonial africa - 85

وأفلح الأولاد في التأثير على سلطات البيض وشرطة سويتو : “التلاميذ مستمرون في السير قدما مع الوقت . وهم يعملون في التحريض المستمر ٬ ولا يكفون عن اثارة السلطات . لقد برهنوا للناس أن الزعم باستحالة التغلب على المنهج هي كلام فاضي” ‒ هكذا قال أحد المعلمين .

الناس المتقدمون في السن والذين يذكرون الماضي ٬ يقولون أن اقتحامات الشرطة في الليل ٬ والاعتقالات التعسفية والتحقيقات المتغطرسة ٬ هي أقل مما في الماضي . رجال الشرطة يتصرفون بتردد وعدم ثقة ازاء الماضي .

الغيط الذي يملأ أهالي سويتو المتقدمين في السن كان مكظوما أمدا طويلا . يقول أحد المعلمين النشطاء “بفضل الأولاد أخذ يتساقط قناع الأسود الطيب . ربة البيت الباسمة دائما لدى مجيئها للعمل والمستمرة في التبسم حتى عودتها الى البيت ٬ وعندها تكون غاضبة الى حد أنها تعلن بأنها تود تسميم كل العائلة ٬ كما ويتساقط قناع مستخدم المكتب الذي يتملق سيده طيلة النهار وعندما يرجع البيت يقول لزوجته أنه مستعد أن يطبق على خناق هذا السيد . كنا ضحايا أنفسنا . جرب الناس ابتلاع كل شيء لمدة طويلة من الزمن . ولكن لما ينفذ صبرنا ويتفجر الغضب فأنه يفاجئ الجميع حتى ايانا” .