هذا المقال وضعه قبل بضعة أشهر أحد اليساريين المصريين في أعقاب المظاهرات الجماهيرية وقمعها في مصر (كانون ثاني 1977) وقبل زيارة السادات للقدس . ورأينا من المناسب نشره كاملا رغم ما مر من زمن على كتابته ٬ أو لعل ذلك سبب في نشره ٬ فتحليل الكاتب والحقائق التي يوردها حيوية لمن أراد أن يعرف من هم أهل الحل والربط في السياسة المصرية .
هيئة تحرير متسبين
* * *
يمثل الانحراف الى اليمين في سياسة الطبقة الحاكمة في مصر بقيادة السادات من وجهة نظر بعض المراقبين خروجا مطلقا عن الخط السياسي لسلفه عبد الناصر . اعتبر النظام الناصري بصورة عامة نظاما يدعو الى الوحدة العربية ويساريا ومعاديا للامبريالية . وجهة النظر هذه تتجاهل في الحقيقة المضمون والجوهر الطبقي لدولة الناصرية وتفشل في محاولتها تقييم وتعليل التغييرات التي حدثت في الفترة الأخيرة حسب مقاييس تاريخية . ان السادات لم يبدأ الانحراف نحو اليمين بل انه وبكل بساطة عجل ووسع هذا الانحراف بصورة تلائم سياسته الشخصية وحسب حاجات ومتطلبات الطبقة التي يرتكز عليها .
دعنا نستعرض القاعدة الطبقية للنظام المصري . أقيم هذا النظام بواسطة قسم من البرجوازية الوطنية (والتي تمثل تحالف ضباط الجيش ورجال المهن الحرة والبيروقراطية من الدرجة الوسطى في الجهاز الحكومي) والتي اطاحت بالقسم التقليدي للبرجوازية الذي تولى الحكم حتى سنوات الخمسين (وهو يمثل تحالف رأسماليي المدن والريف) وتلخصت مهمات النظام الجديد في نيل الاستقلال السياسي وتنفيذ التطور الاقتصادي والاجتماعي الحيوي لمصر . فالمؤسسة القديمة عجزت عن القيام بمثل هذه المهمات لسببين وهما : أولا : بسبب علاقاتها التقليدية مع المصالح الكولونيالية والكولونيالية الجديدة ٬ وثانيا : بسبب القيود والعوائق امام اقامة رأسمالية تقليدية في العالم الثالث خاصة في فترة الرأسمالية الاحتكارية بعد الحرب العالمية الثانية . “الطبقة الجديدة” كما يسمونها على الغالب في مصر قامت باصلاح زراعي محدود وبدأت بتنفيذ مشروع تأميم شمل عددا كبيرا من البنوك ومؤسسات مالية وصناعات رئيسية . سمى عبد الناصر هذا الاتجاه الجديد “الطريق الاشتراكي للتطوير” وسماه منظرو الكرملين “الطريق اللارأسمالي” . ولكن في الحقيقة لم يكن هذا الاتجاه سوى رأسمالية الدولة في أحسن الأحوال . فالملكية القانونية لوسائل الانتاج الرئيسية نقلت الى الدولة ٬ بينما بقيت علاقات الانتاج رأسمالية . في الحقيقة لقد قلص نفوذ الطبقة الرأسمالية التقليدية ٬ لكن لم تتم تصفيته نهائيا . ولقد حول ممثلو هذه الطبقة استثماراتهم الى نشاطات طفيلية مثل العقارات والمباني والسوق السوداء وتجارة الجملة وكل هذه المجالات لم تكن خاضعة لرقابة السلطة .
تضمنت “اشتراكية” النظام الناصري القضاء على كل مبادرة سياسية شعبية وقمع الحريات الديمقراطية . كانت هذه “الاشتراكية” طبقا لأوامر الرئيس ٬ ونفذها الجيش والشرطة بتصفية كل منظمة سياسية مستقلة يسارية كانت أم يمينية . واستطاعت “الطبقة الجديدة” من خلال سيطرتها على جهاز الدولة والقطاع العام ٬ تكديس الرساميل الخاصة وتعزيز نفوذها السياسي . وعلى الرغم من آمال عبد الناصر في “تذويب الفوارق الطبقية بالطرق السلمية” فقد وسع هذا النهج هذه الفوارق وزاد من حدتها . وأبرز تدهور المناطق الريفية وتبلور جيش هائل من البروليتاريا المسحوقة في المدن الناشئة .
والحقيقة ان الفوارق الطبقية تقلصت بين “الطبقة الجديدة” وبين البرجوازية فقط .
الانحراف الى اليمين بعد هزيمة 1967 :
تشكل هزيمة حزيران والأحداث التي تلتها شهادة عينية لبداية انهيار الدولة الناصرية . فالمظاهرة التي لم يسبق لها مثيل للارادة الشعبية والتي أعادت عبد الناصر الى الحكم سنة 1967 ٬ أعطت عبد الناصر امكانية تأسيس ديمقراطية شعبية حقيقية تعتمد على المشاركة والمبادرة الجماهيرية . ولكنه بدل هذا رهن وأمن النظام الناصري مستقبله بانحرافات الى اليمين وتنازلات اقتصادية وسياسية للبرجوازية المصرية ومهادنة الرجعية العربية (وجرت هذه المهادنة تحت شعار التضامن العربي ضد الرجعية العربية والامبريالية !) . فالخطابات اليسارية المعادية للامبريالية والتي عرف بها النظام الناصري بدأت تفقد فحواها وتحولت الى عبء على رقاب القاعدة التي يرتكز عليها . حتى وفاة عبد الناصر 1970 كان القطاع الخاص قد حصل على تنازلات عديدة منها تخفيف القيود على الاستيلراد الخاص وتوسيع الاتفاقيات مع شركات النفط والغاء مصادرة الأراضي واعادتها الى أصحابها القدامى من الاقطاعيين الكبار . ومان البحث حول الاقتصاد الحر على أشده في هذه الفترة .
على الصعيد الخارجي قبل النظام الناصري بمقترحات روجرز سنة 1970 المحادثات اياها التي كان ضمن ثمنها ذبح الاف الفلسطينيين في الأردن . وتكونت فئة ‒ ضغط “ليبرالية” بقيادة محمد حسنين هيكل وأخذت تقول بعدم جدوى مصارعة “الثور الأميركي” وعزل الولايات المتحدة . ولقد قفى الرئيس السادات على آثارها حتى النهاية .
وأمعن السادات في نهجه هذا فعزز العلاقات مع الأنظمة الرجعية في السعودية وايران [نظام الشاه] وراح يتلمس “حلا أميركيا” للنزاع مع اسرائيل مقترحا لها التنازل تلو الآخر .
وفي الداخل ألغى السادات ما تبقى من الخطابة والدعاية الناصرية ‒ اليسارية ومهد الطريق أمام الطبقة الرأسمالية في المدن والريف ‒ والتي نامت نومة الشتاء ‒ للعودة الى الحلبة السياسية .
وباستغلاله ضحايا الجيش والشعب المصري في حرب أكتوبر قام السادات بخطوات سياسية واقتصادية جديدة مثل الغاء “قوانين العزل السياسي” والتي حظرت انتخاب كبار ملاكي الأراضي لوظائف عامة . ونتيجة لهذا الاجراء ظهرت المؤسسة الزراعية القديمة في مجلس الشعب . وأحد هؤلاء الملاكين هو محمد أبو وافيه صهر الرئيس السادات وزعيم الأغلبية في مجلس الشعب حتى اضطرابات كانون ثاني 1977 . ومحمد أبو وافيه هذا بادر الى الغاء قوانين الاصلاح الزراعي ٬ ووقفت المؤسسة الزراعية التي عادت الى الحلبة السياسية وراء قرار المحكمة العليا للاستئناف . وصدر هذا القرار في 7 أيار 1974 ونص على أن حجز ومصادرة الأملاك الشخصية غير قانوني . وعلى اثر هذا القرار تمت اعادة أكثرية الأراضي التي لم يسر عليها قانون الاصلاح الزراعي ‒ والتي كانت الحكومة قد صادرتها وأجرتها للفلاحين المعدمين ‒ الى “الملاكين الأصليين” وتم طرد المستأجرين . لقد غير مجلس الشعب قانون الاصلاح الزراعي لكي يسهل طرد المستأجرين ورفع سعر الاستئجار . وهكذا جاءت استقلالية القضاء الموسعة لصالح القادرين على دفع رسوم القضاء .
على اثر سياسة “الانفتاح الاقتصادي” أخذت البرجوازية الشاحبة والطفيلية تمشي مختالة متبرجة بالثراء الفاحش أمام الجماهير البائسة الفقيرة . وأسلوب السادات نفسه يمثل الطبيعة المبتذلة البذيئة لطبقة “الموسرين الجدد” هذه بالنسبة للرجل والمرأة في الشارع . هنالك فرق عظيم بين عبد الناصر المتواضع والسادات الذي يميل الى البروز في بزات عسكرية لا تنص عليها أنظمة الجيش المصري ٬ والى الاقامة في أفخر القصور في القاهرة والاسكندرية . ان مظهر الثراء الفاحش والتردي المستمر في مستوى معيشة الجماهير في آن واحد ٬ كان من المحتم أن يفجر تلك الانتفاضة الشعبية في 18 و19 كانون ثاني 1977 .
المعارضة اليسارية :
استطاع اليسار الماركسي كسب تأثير كبير بين جماهير الشعب منذ سنة 1967 وسط جو من السخط الشعبي الذي تجلى في عدد من مظاهرات الطلاب والعمال العفوية سنة 1968 والسنوات 1971 ‒ 1973 . ونشأ قسم كبير من اليسار الماركسي في صفوف المؤسسة الناصرية ٬ كالموظفين السياسيين الصغار في “الاتحاد الاشتراكي العربي” وعدد من مرشدي وأعضاء كادر “منظمة الشباب” وهذه المنظمة لا وجود لها الآن عمليا .
ورغم أن التثقيف السياسي لهذه العوامل في مدرسة “الاشتراكية العربية” مناهضا للماركسية في جوهره ٬ فقد اندفعت هذه نتيجة لهزيمة حزيران وافلاس النهج الى البحث عن أسلوب مستقل .
وثمة فئة أخرى من اليسار الماركسي تتألف من أشخاص ذوي علاقات مع المنظمات الشيوعية القديمة ومن مؤيديها . وتحت ضغط وملاحقات النظام الناصري اضطرت هذه المنظمات الى حل نفسها . وأكبرها الحزب الشيوعي والحركة الديمقراطية للتحرر الوطني .
وباقي الحركة الماركسية يتألف معظمه من العمال الشباب نسبيا ٬ والحرفيين وطلاب الجامعات الذين اكتسبوا ثقافتهم السياسية منذ سنة 1967 ولمن يكونوا على صلة بالمؤسسة الناصرية أو الحركة الشيوعية القديمة . وهؤلاء يميلون الى نقد وحتى معارضة دور الاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط . ومن الصعب تمييز هذه المنظمات أو تياراتها السياسية من خلال مقارنتها بمنظمات في أمريكا الشمالية وأوروبا (كالتروتسكيين ٬ الماويون وما شابه) .
يضم اليسار النشيط في مصر بين صفوفه جزءا هاما من جمهور الطلاب ونشيطي النقابات المهنية الذين يدعون الولاء “للناصرية” . من العسير تحديد أيديولوجيتهم وان كانت تشمل معارضة العودة الى النهج الاستغلالي للسوق الحر ٬ ومعارضة اضعاف القطاع العام ومهادنة اسرائيل على حساب الفلسطينيين لكن هذه الفئات مناهضة للامبريالية وللرجعية العربية . وثمة أوجه شبه بينها وبين الحركة البيرونية في الأرجنتين ٬ الا انه لم تقم حتى الآن في مصر حركة موازية لحركة المونتونيروس .
قبل سنة 1973 كان مركز النشاط السياسي في الجامعات ٬ لكن طابع هذا النشاط تغير بسرعة . في سنة 1968 ٬ السنة التي وقع أول تمرد سياسي في أوساط الطلاب والعمال منذ تولي عبد الناصر الحكم ٬ كانت الحركة الجامعية متنوعة وغير واضحة المعالم . في سنة 1973 حدد اليسار الطلابي برامج سياسية تناولت مجموعة واسعة من المواضيع ‒ من السياسة الخارجية الى توزيع الدخول . من السهل الآن تمييز تيارات سياسية محددة : ماركسيون ٬ ناصريون ٬ واليمين الديني الذين تعاظم نشاطهم ووقفوا عادة الى جانب السلطات .
استياء الطبقة العاملة :
وشهدت السنوات الأخيرة تذمرا متزايدا في أوساط العمال وتوثيق علاقاتهم مع منظمات المثقفين ومنظمات أصحاب المهن الحرة . بعد حرب أكتوبر وازاء الفساد المتفشي وهبوط مستوى المعيشة ٬ اشتد استياء العمال ٬ وتحولمت بؤرة المعارضة السياسية من الجامعة الى الأحياء المدنية والمصانع والشوارع . وازداد الاجرام والعنف في الشوارع ووقعت صدامات متكررة مع الشرطة ٬ بعضها بسبب احباط الجاهير وخيبتها وبعضها نتيجة لغطرسة رجال الأمن المتزايدة .
ولما بدأ “السلام الاجتماعي” بالانهيار ٬ لم ينتظر العمال الشرارة الأولى من الجامعة كي يخرجوا الى الشوارع . وجاءت اضطرابات كانون ثاني 1975 على اثر رفض النظام الاستجابة لمطالب العمال في منطقة حلوان كما عينتها وقدمتها نقاباتهم المهنية (والتي لا تزال تحت رقبة الحكومة) . وألقت السلطات تبعة الاضطرابات على “الدعاة الشيوعيين” طبعا . وجاء اعلان اقامة الحزب الشيوعي مجددا ٬ في آب 1975 اثناء اضراب عمال النسيج في الاسكندرية لأسبوعين . وأعتقل أكثر من مائة وخمسون عاملا ٬ وفي المناطق الريفية وقعت صدامات متكررة بين الفلاحين المسلوبة أراضيهم وبين وحدات نصف عسكرية “الاحتياطي المركزي” .
وسبق أحداث يناير هذا العام (1977) اضراب كبير لعمال المواصلات في القاهرة وتم كسر الاضراب عنفا في شهر ايلول 1976 وقتل وجرح وأعتقل كثير من العمال . ومرة أخرى القبت التهمة على “المخربين والعملاء الشيوعيين” وفي تشرين ثاني 1976 وقعت انتفاضة في مدينة بيالا في دلتا النيل ٬ قام خلالها فلاحون ساخطون بمهاجمة بناية المحكمة ومكتب تسجيل ملكية الأرض ومحطة الشرطة وأحرقوها احتجاجا على طرد الفلاحين من أراضيهم . ووصفت الصحف التي تحت رقابة الحكومة ٬ هذه الحوادث كأعمال عنف لعصابات من المجرمين .
وفي الشهر نفسه خرج طلاب جامعة القاهرة في مظاهرة هادئة توجهت الى مبنى مجلس الأمة مطالبين الغاء التقييدات على حرية الاجتماع ٬ التظاهر ٬ الاضراب وحق التنظيم في منظمات سياسية . وطالبوا وضع حد لتدخل الحكومة في النقابات المهنية وفي منظمات أصحاب المهن الحرة ٬ وطالبوا وضع حد للتخاذل في القضية الفلسطينية . وجابهت المظاهرة البطش الشرطوي وجرت اعتقالات .
لقد سمح السادات بقيام تنظيم يساري مروض بقيادة خالد محيي الدين عضو في حركة الضباط الأحرار وذو ميول تقدمية . ولكن بعد قيام التنظيم استخدم السادات وسائل الاعلام لارهاب الشعب وصده عنه بابرازه الائتلاف الضعيف بين الناصريين والماركسيين كتنظيم لوكلاء الشيوعية العالمية . واحتدت هذه الدعاية بعد ان قامت اللجنة الادارية لحزب اليسار بنشر بيان على اثر اضراب عمال المواصلات في ايلول 1976 . ودافع اليسار في هذا البيان عن حق الاضراب ٬ ودعى الى الغاء سائر القوانين التي تقيد الحريات السياسية والديمقراطية . وبعد اضطرابات يناير هذا العام (1977) اتهم السادات الحزب بالتغطية على “المخربين الشيوعيين” واعتقلت الحكومة أكثر من مائتي نشيط في الحزب ٬ بينهم أكاديميون ٬ صحفيون وعمال .
مرحلة تنظيم :
اليسار الماركسي في مصر موجود في مرحلة تنظيم . تصريحات الحكومة تفيد بوجود حزبان سريان كبيران لهما تأييد واسع بين العمال : الحزب الشيوعي وحزب العمال الشيوعي . الهدف من وراء تهجمات السادات العنيفة على الشيوعيين ومحاولته الماكرة توريط موسكو هو استعداد عطف وعون اقتصادي أكبر من الولايات المتحدة . وتهدف هذه الخطوات أيضا الى انسياق النظام المصري مع الأنظمة العربية الرجعية في معاداتها للشيوعية ٬ وذلك تشجيعا لهذه الأنظمة على مد يد المساعدة الى الخزانة المصرية الخاوية . ومن دعاة هذه الحملة الشعواء الشيخ عبد الحليم محمود ٬ شيخ الأزهر ٬ الذي دعى الشعب في خطبة صلاة الجمعة بعد الاضطرابات الى “الكشف عن الملحدين وعملاء الشيوعية” ونبذهم من صفوفه ودعى “الأخوة العرب” الى تقديم المزيد من العون .
وأجرى السادات استفتاء شعبيا للمصادقة على اجراءاته القمعية ضد المعارضة السياسية . وحظيت هذه الاجراءات بأغلبية تافهة 99.6% . وهدف السادات من وراء هذه المسرحية ان يبرهن للعالم بما في ذلك اسرائيل ٬ انه لا يزال مسيطرا على زمام الأمور في مصر . واسرائيل تبرر تصلبها في مسألة التقدم نحو المفاوضات بحجة عدم استقرار الأنظمة العربية وانه لا يؤمن لها . وقد أعرب السادات عن قلقه ازاء الموقف الاسرائيلي هذا عندما خاطب زعماء النقابات المهنية المصرية قائلا “من الحماقة ان تفسر اسرائيل الأحداث الأخيرة كدلائل لضعف النظام” .
ليس ثمة جديد في الاستفتاء الشعبي المذكور . فجميع الوسائل التي صدقها الاستفتاء كانت موجودة في القوانين المصرية سابقا ٬ قانون “الوحدة الوطنية” يحظر على المواطنين المصريين العضوية في منظمات غير قانونية . في أب 1973 صادق مجلس الشعب على اقتراح قانون يقضي بالحبس المؤبد على عضوية في منظمة سياسية خارج الاتحاد الاشتراكي العربي . والتظاهر غير شرعي حسب القوانين السارية وكذلك حسب اجراءات الحاكم العسكري التي لم تلغ منذ اعلانها في بداية سنة 1973 . السادات هو الحاكم العسكري ونائبه ممدوح سالم (ضابط شرطة ومخابرات سابقا) . والاضراب محظور قانونيا حتى اليوم . وحسب أقوال السادات وسلفه عبد الناصر فان الاضرابات والتوقف عن العمل غير مقبولة في المجتمع الاشتراكي !
باسم “الوحدة الوطنية” ضد العدو
تشكل حرب أكتوبر معلما لمرحلة جديدة في سياسة الشرق الأوسط . فالحرب وكذلك تصريحات السادات في أعقابها (عن استعداده للتسليم بوجود الدولة الصهيونية بشكلها الكولونيالي ‒ الخاص والتوسعي) دليل على عجز الأنظمة البرجوازية الفاسدة والأنظمة شبه الاقطاعية في الشرق الأوسط عن حل المسألة القومية في المنطقة لصالح الشعب الغربي ولصالح السكان اليهود في فلسطين ‒ اسرائيل .
وجاءت نتائج “الحرب لانهاء كل الحروب” ٬ هذه بالذات ٬ لكي تقوي الروابط بين المؤسسة الصهيونية ٬ والأنظمة الرجعية ٬ المعادية للديمقراطية واللاسامية (بما في ذلك نظام السادات : وفي سنة 1975 وبعد اضطرابات العمال ٬ اعتقلت السلطات المصرية محاميا يهوديا مصريا تقدميا ومعارضا قديما للصهيونية ٬ وروجت السلطات المصرية خرافات مثيرة في الصحف عن “اعتقال يهودي مصري اثناء المظاهرات في محاولته اضفاء طابع معادي للقومية على احتجاج العمال”) .
وبرزت جليا دلائل تقوية هذه الروابط في لبنان خلال الحصار العربي ‒ الاسرائيلي على الفلسطينيين الذي كان هدفه القضاء على الأوتونوميا السياسية والعسكرية للفلسطينيين وافراغ حركتهم من أي مضمون ثوري .
هذا الوضع الراهن يضع العلاقات بين النظام المصري والشعب في زاوية نظر جديدة . قبل 1973 اعتاد النظام استخدام المسألة القومية غير المحلولة لتبرير قمع الحركات الديمقراطية الشعبية باسم “الوحدة الوطنية” ضد العدو وكان شعار الفترة الذي رفعهه عبد الناصر ثم السادات من بعده : “لن يعلو صوت على صوت النضال الوطني” . والآن بحلول الاستسلام محل النضال “الوطني” فقد السادات سلاحا لاسكات الشعب وابتزاز الطبقة العاملة . ولا ريب ان السادات مدرك لهذه المعضلة .
ويبدون ان هذا الادراك كان وراء القرار لتحويل البرامج السياسية في الاتحاد الاشتراكي العربي الى أحزاب سياسية تمثل اليمين ٬ الوسط (الذي يشمل الحكومة وبشكل طبيعي يحتفظ بحوالي 80% من مقاعد مجلس الشعب) واليسار “الرسمي” . ويأمل السادات أن يكون قد شكل بذلك صماما لتنفيس الضغط الناجم عن التذمر السياسي ٬ ولتفادي انفجار خطير في النهاية .
لذلك فان أوجه الشبه بين السادات والخديوي اسماعيل باشا والذي سبقه بقرن من الزمان ٬ لا تنحصر في أسلوب حياتهما المغرق في البذخ المبتذل ٬ أو في استعدادهما لرهن اقتصاد مصر في البنوك الدولية . اسماعيل باشا أنشأ أيضا برلمانا زائفا سنة 1886 ٬ لكي يزين نظامه بأسمال الليبرالية ‒ الديمقراطية فينال حظوة عند مقرضيه .
فهل يكون حظ أنور باشا ٬ من النجاح أكبر بعد قرن من عهد اسماعيل باشا ؟