
اصدار “متسبين” ‒ آذار 1978
[وضع هذا المقال في مطلع عام 1972 في الفترة التي انفصلت فيها عن “متسبين” الجماعة التروتسكية ٬ التي تسمى اليوم ‒ العصبة الشيوعية الثورية .
أحد كاتبي هذا المقال هو أ. سعيد (جبرا نقولا) من الجماعة التروتسكية ٬ والآخر هو م. ماحوفر من “متسبين” بعد الانفصال أيضا . وتبرز في المقال مواقف كانت يومئذ مشتركة لمتسبين وللجماعة التروتسكية على السواء . وهذه المواقف مقبولة لدينا اليوم كذلك .]
*
لا نبغي في هذا المقال معالجة المسألة القومية بكافة وجوهها ٬ أو تناول المسألة بجذورها الأولية . نقطة انطلاقنا العامة هي الموقف الماركسي ‒ الثوري من المسألة القومية.٬ علاوة على ذلك فاننا نعالج هذه المسألة فقط من خلال ارتباطنا بقضايا الثورة العربية الاشتراكية ٬ الأمر الذي يعنينا هنا هو في الأساس مفهوم المسألة القومية بالنسبة للحركة الثورية في المشرق .
الحقيقة أن هنالك أكثر من قضية قومية واحدة في الشرق العربي ٬ وهذه القضايا مرتبطة الواحدة منها بالأخرى . أولا هنالك القضية القومية للعرب أنفسهم الذين يشكلون السواد الأعظم من سكان المنطقة ٬ وما عدا ذلك ٬ فثمة قضايا قومية لقوميات غير عربية تقطن المنطقة .
لنبدأ في تحليل القضية القومية للغالبية ‒ الأمة العربية . لا يزال جزء من أبناء هذه الأمة حتى الآن يرزح تحت سيطرة واضطهاد أجنبيين ‒ العرب الفلسطينيون الواقعون تحت الاحتلال الاسرائيلي أو الذين أجلتهم اسرائيل . ان لهذه المشكلة خطر سياسي عظيم رغم انها لا تمس مباشرة الا جزءا صغيرا من أبناء الأمة العربية .
وما خلا هذه القضية ٬ فان الشرق العربي قد نال الاستقلال السياسي ولكن تحت شروط بلقنة شديدة (تجزئة المنطقة الى دويلات متعادية) . ان المشكلة القومية للأمة العربية هي قبل كل شيء مشكلة الوحدة القومية .
ان الوحدة القومية ضرورة ٬ ليس لأنه لعرب الشرق تأريخ مشترك طويل ولغة مشتركة وتراث قومي مشترك . ان الوحدة القومية ضرورة لأن تجزئة المشرق العربي حالت دون تطور القوى المنتجة ٬ كما انها تفسح المجال أمام الامبرياليين لاستغلال المنطقة والتحكم بها . الدول الاستعمارية الكبرى هي التي تسببت في تجزئة المشرق العربي خدمة لمصالحها ٬ وقد تم تقسيم المنطقة بين هذه الدول وتمكنت من التحكم بكل جزء على حدة واستغلال كل جزء ضد الآخر .
ومن منطلق تطوير اقتصادي تشكل هذه التجزئة حجر عثرة ٬ لأن الأجزاء المختلفة للمنطقة يكمل بعضها بعضا ٬ وكل جزء يعوزه ما يتوفر بكثرة في الجزء الآخر . والثروة الطبيعية الرئيسية في المنطقة هي النفط المركز في دول صغيرة متخلفة قليلة السكان . (حتى ليبيا مترامية الأطراف هي في الحقيقة بلد صغير معظم مساحتها أرض جدباء صحراوية غير صالحة لسكن ولا يربو سكانها على المليون نسمة) .
دول النفط هذه ٬ هي أشد أجزاء المنطقة تخلفا ٬ وليس لها اقتصاد يذكر سوى النفط . ومداخيل النفط تتوزع بين الامبريالية وبين عصابة حاكمة صغيرة تبذر نصيبها في الكماليات ٬ ومن كل هذا الثراء الأسطوري لا يكاد يوظف مليم واحد في بناء الاقتصاد المحلي (يوظف أمراء النفط أموالهم في الغرب) . وعندما ينفذ احتياطي النفط الكامن في الأرض ٬ فان هذه البلدان ستظل دون اقتصاد انتاجي يذكر وتغدو كواحات نضبت عيونها .
وبالنسبة لاقتصاد المنطقة فان كل الثراء الذي جني ذهب ادراج الريح . من جهة أخرى فان دولا كمصر وسوريا تكون مضطرة ٬ لكي تطور اقتصادياتها ٬ الى الغرق في الديون الأجنبية ٬ انها سخرية مرة على ضوء الحقيقة التي تؤكد ان أرباح النفط لسنة واحدة بامكانها تمويل ثلاثة مشاريع على مستوى بناء السد العالي في أسوان . وهنالك تسليم متبادل حول توفر الأرض البور الجديرة بالاستغلال في البلد العربي الواحد ٬ بينما يعاني بلد عربي آخر من فائض سكان في الريف .
كل هذه العوامل التأريخية والتربوية والاقتصادية تبرز واضحة في الوعي القومي للجماهير العربية ٬ في أرجاء المنطقة . وأمنية الوحدة القومية هي أشد المفاهيم رسوخا في دماغ هذه الجماهير .
لا يمكن تحقيق وحدة قومية عربية بدون النضال للقضاء غ=على السيطرة الامبريالية في المنطقة ٬ وهذا هو السبب الرئيسي في تجزئة المنطقة . ولكن مفهوم النضال المناهض للامبريالية يعني أيضا النضال ضد الطبقات الحاكمة في الدول العربية .
لم تزل الدول العربية استقلالها السياسي نتيجة لثورة شعبية منتصرة ٬ وانما نتيجة للتنازع بين الدول الامبريالية ٬ ونتيجة لتسوية بين هذه الدول وبين الطبقات الحاكمة المحلية ٬ حصل خلالها هؤلاء الحكام على أقصى التنازلات التي بامكانهم كسبها من الامبريالية . تم القضاء على الحكم الأجنبي المباشر ٬ وحلت محله تسوية استعمار ‒ جديد : حلف بين الامبريالية والطبقات الحاكمة المحلية التي تحولت بذلك الى شريك من الدرجة الثانية في استغلال جماهير العاملين في المنطقة . وكلا الطرفين يريد استمرار الشراكة ٬ لأنهما يخشيان ثورة اشتراكية تقضي على أرباحهم وامتيازاتهم . وبناء عليه ٬ فان الامبريالية وشركائها المصغرين في المنطقة معنيين باستمرار الوضع الراهن ومستعدين لحمايته بأسنانهم ومخالبهم .
وفي غضون ذلك ٬ وعلى اثر تجزئة الشرق العربي ٬ نمت الطبقات الحاكمة في كل قطر وقطر مصالح اقتصادية متضاربة محلية خاصة بها . وولد هذا التنافس الاقتصادي تناقضات ونزاعات سياسية ٬ أذكى نارها الاستعمار من ناحيته .
الخلافات الاقتصادية والسياسية ٬ وحقيقة ان احراز الوحدة القومية تقتضي نضالا معاديا للامبريالية ٬ وتعبئة الجماهير ٬ هذه الحقائق ٬ لم تؤد فحسب الى عجز الطبقات الحاكمة المحلية في تحقيق الوحدة العربية القومية ٬ بل الى معارضة هذه الطبقات تحقيق الوحدة ٬ وان كانت تؤدي من أجل ذلك ضريبة كلامية تضليلا للجماهير .
من هنا نخلص الى ان تحقيق الوحدة القومية التي تعتبر القضية القومية الأولى للعرب في المشرق ٬ هو غير ممكن دون اسقاط الطبقات الحاكمة حاليا ٬ أي ان الوحدة غير ممكنة دون ثورة اشتراكية .
كان حل المشكلة القومية في أوروبا جزءا لا يتجزأ من مهام الثورة البرجوازية . وفي العالم الثالث أثبتت الطبقات المحلية المتمولة عجزها عن القيام بثورة برجوازية ديمقراطية . وهكذا فان المهام التأريخية التي لم تتحقق عن طريق ثورة برجوازية ٬ بقيت للطبقة العمالية للقيام بها خلال ثورة اشتراكية . ان الثورة المرتقبة في الشرق العربي لا يمكن ان تكون ثورة قومية ‒ ديمقراطية ٬ وانما فقط ثورة اشتراكية تحت قيادة طبقة العمال المدعومة بتحالفها مع الفلاحين ٬ فاما ان تحدث ثورة اشتراكية بروليتارية أو لا تحدث ثورة أبدا .
وبحكم المهام التي تواجهها ٬ فان الثورة الاشتراكية لا يمكن الا ان تكون ثورة المشرق بأسره . وهذا لا يعني ان من المحتم أن تحدث هذه الثورة في كافة أجزاء المنطقة في آن واحد . غير انه اذا ما بدأت في جزء واحد يجب أن تجري تحت راية الثورة العربية الشاملة ٬ لأن غايتها السياسية الفورية ستكون بناء مشرق اشتراكي موحد . علاوة على ذلك ٬ فان نشوب ثورة في أحد الأقطار العربية ٬ يؤدي حالا الى تدخل الطبقات الحاكمة في المنطقة بتأييد الامبريالية (وليس هذا محض تكهن نظري ٬ فهذه مثلا المعاهدة “الكونفدرالية” بين مصر وسوريا وليبيا تتضمن بندا واضحا يضمن مثل هذا التدخل) وفي مثل هذه الظروف يمكن أن تكون هنالك احدى نتيجتين : اما ثورة منتصرة في المنطقة كلها ٬ واما دحر الثورة في كل مكان تنشب فيه منذ البداية .
الثورة في المشرق واحدة وغير قابلة للتجزئة ٬ لا على مراحل ولا لقطر دون آخر . ولا يمكن ان تكون للثورة مرحلة مبكرة منفردة ٬ قومية ‒ ديمقراطية ٬ ولا يمكن ان تنتصر في كل بلد وبلد على حدة . نتيجتها الفورية يجب ان تكون اقامة مشرق اشتراكي موحد !
العرب الفلسطينيون
يشكل العرب الفلسطينيون الجزء الوحيد من الأمة العربية الواقع مباشرة تحت حكم أجنبي . واعتبرت حركة المقاومة الفلسطينية التي تطولت بعد 1967 مهمتها مقصورة على فلسطين ٬ فحسب كحركة تحرر وطني للفلسطينيين دون غيرهم . وكذلك الجماعات الفلسطينية اليسارية التي أيدت فكرة الثورة الاشتراكية ارجأتها الى مرحلة أخرى منفصلة .
في ذلك الوقت انتقدنا هذا الاتجاه وأشرنا الى الأخطار التي ينطوي عليها . ففي مقال نشرناه في 14 حزيران 1969 ٬ في صحيفة “بلاك دوارف” اللندنية (ونشرت ترجمته تحت عنوان “النضال الفلسطيني والثورة في الشرق الأوسط” في “متسبين” عدد 50 ٬ آب 1969) ورد النص التالي :
“ان حساب ميزان القوى وكذلك الحساب النظري يبرهنان على عدم امكانية حل القضية الفلسطينية ضمن اطار فلسطيني على انفراد . ما هو ميزات القوى ؟ الشعب الفلسطيني يقف في معركة مواجهة الصهيونية المدعومة بواسطة الامبريالية ٬ وعلى الصعيد الداخلي يواجه هذا الشعب أنظمة الحكم العربية المدعومة أيضا بواسطة الامبريالية .
“ويصح الافتراض انه طالما بقيت هنالك مصالح للاستعمار في الشرق الأوسط فانه سيستمر في دعمه للصهيونية (التي تؤدي دور الحليف الطبيعي) ولن يدعها منهار . سوف يدافع عنها الاستعمار حتى آخر قطرة من النفط العربي . ومن ناحية أخرى فانه لا يمكن القضاء على نفوذ الاستعمار ومصالحه في المنطقة اذا لم يتم اسقاط أنظمة تلك الطبقات التي تؤدي في العالم العربي وظيفة الوكيل والشريك للاستغلال الامبريالي . والنتيجة لا تعني انه يجب على الشعب الفلسطيني الانتظار بهدوء ريثما يتم القضاء على النفوذ الامبريالي في المنطقة ٬ وانما يجب ان يكون لنضاله دور التعبئة للنضال من أجل التحرير القومي والاشتراكي في الشرق الأوسط بكامله …
“الحقيقة ان النظرية المقتصرة على المسألة الفلسطينية وحدها ليست من بنات الفكر الثوري رغم ما تتستر به من خرق ثورية ٬ بل هي وليدة فكر اصلاحي يلتمس حلولا جزئية ضمن اطار الظروف السائدة في المنطقة . وما نيل مثل هذه الحلول بمستطاع الا بالتهادن مع الامبريالية والصهيونية” .
وأوضحنا في المقال نفسه ٬ لماذا تشجع الحكومات العربية الموقف السائد بين المنظمات الفلسطينية ٬ هذا الموقف الذي يفصل النضال الفلسطيني عن النضال الثوري في العالم العربي بأسره فقلنا :
“لأن تعبئة الجماهير في العالم العربي حتى في سبيل نصرة القضية الفلسطينية فقط ٬ تعرض هذه الأنظمة للخطر . لذلك فانها معنية بعزل النضال الفلسطيني وعزل الفلسطينيين . وحرصا منها على حماية أنظمتها ٬ تهدي الحكومات العربية ٬ الرجعية منها والتقدمية ٬ نفسها بهبات تزجيها للمنظمات الفلسطينية . علاوة على ذلك تسعى هذه الحكومات الى تحريق النضال الفلسطيني الى مسلك سياسي غير عسير عليها ٬ والى استخدام هذه النضال كورقة لعب ٬ كوسيلة للرقابة لكي تحقق حلا سياسيا على قدرها . مصر وسوريا والأردن معنيات باستعادة ما فقدته من أراضي في حرب 1967 “استعادة لهيبتها وتعزيزا لماكنتها داخليا ” . واما القضية الفلسطينية فهي مسألة ثانوية في أعين هذه الحكومات . هي وسيلة لا غاية ٬ ذلك قصد الحكومات العربية من وراء كلامها عن “تصفية اثار العدوان” .
“ومن الواضح انه اذا نجحت الدول العربية في التوصل الى مبتغاها (مثلا عن طريق الدول الأربع الكبرى) فانها ستكون على استعداد لترك الفلسطينيين يواجهون مصيرهم ٬ وحتى الاشتراك بصورة عملية في القضاء سياسيا وبشريا على الحركة الفلسطينية . ومن المعتقد ان تطالب الدول الكبرى بذلك كشرط لكل حل سياسي” .
وأثبتت الوقائع منذ ذلك الحين ٬ صحة تحليلاتنا وتوقعاتنا ٬ خاصة سحق قوات الغريلا في الأردن على أيدي النظام الهاشمي في ايلول 1970 بتشجيع من الامبريالية واسرائيل وتأييد بقية الأنظمة العربية بالتزامها الصمت .
ولا يسعنا الا ان نعود ثانية الى خلاصتنا في ذلك المقال : لا يمكن حل القضية الفلسطينية الا عن طريق ثورة اشتراكية عربية شاملة ٬ ضمن اطار مشرق عربي اشتراكي موحد .
اليهود الاسرائيليون
بالاضافة الى قضية العرب القومية ٬ هنالك قضية الجماهير القومية غير العربية القاطنة في المشرق : الأكراد في العراق ٬ السودانيون الجنوبيون واليهود الاسرائيليون . حل هذه القضية هو أيضا من مهام الثورة الاشتراكية العربية الشاملة . وعليه يجب معالجة هذه القضية في سياق الشرق العربي الاشتراكي الموحد الذي سوف تقيمه الثورة .
فيما يتعلق بالأكراد والسودانيين الجنوبيين ٬ هنالك شبه اجماع في أوساط اليسار العربي حول منحهم حق تقرير المصير بصفتهم قوميات مضطهَدة . وفيما يتعلق بيهود اسرائيل فليس ثمة اجماع عام كهذا لدى اليسار العربي . والتبريرات الرئيسية الواردة ضد منح يهود اسرائيل حق تقرير المصير هي ٬ أولا : انهم لا يشكلون أمة . ثانيا : ان كانوا أمة ٬ فانما هي أمة مضطهدة (بالكسر) . ويزعم أحيانا ان منح حق تقرير المصير لليهود الاسرائيليين يعتبر تسليما بالصهيونية واعترافا بدولة اسرائيل .
الرأي القائل ان يهود اسرائيل ليسوا بمثابة أمة ٬ هو غيبي قائم على جهل الحقائق على حقيقتها ٬ الحقيقة انه توجد لدى يهود اسرائيل كافة الدلائل العادية لأمة :
أولا : يقطنون بشكل مركز رقعة من الأرض متصلة ٬ مع انهم حصلوا عليها بالظلم وخلال الاستيطان القائم على حساب شعب آخر . هنالك أمم كثيرة أخرى نمت بهذا الشكل على أراض احتلتها من غيرها . من الممكن واللازم شجب أعمال سلب كهذه ٬ الا انه لا توجد أية علاقة بين الحكم علم القيم وبين المسألة الموضوعية لتحديد مصطلح “أمة” .
ثانيا : لهم لغة مشتركة وهي العبرية . صحيح ان العبرية كانت ميتة خلال مئات من السنين ٬ وبعثت بشكل اصطناعي وبسبب دوافع سياسية ٬ ولكن النتيجة الموضوعية ٬ على كل حال ٬ هي ٬ وجود لغة مشتركة لليهود الاسرائيليين ٬ يستخدمونها أيضا في الأدب والحياة اليومية . وبهذه اللغة أنشأوا لهم ثقافة جديدة خاصة تختلف عن ثقافات الطوائف اليهودية المختلفة في الشرق والغرب .
ثالثا : يشكل الجمهور اليهودي ‒ الاسرائيلي بنية اجتماعية ‒ اقتصادية قائمة بذاتها ٬ وتنقسم تقسيما طبقيا مثل المجتمعات الرأسمالية الأخرى . وكون الاقتصاد الاسرائيلي مرتبطا ارتباطا حاسما بتمويل الامبريالية ٬ لا يغير حقيقة وجود تشكيلة اجتماعية ‒ اقتصادية اسرائيلية وهي تشكل كيانا حقيقيا بحد ذاته .
أخيرا ٬ هذه العوامل بمجملها ساهمت في نشوء وعي قومي اسرائيلي ٬ مع انه من الصحيح ان الايديولوجية الصهيونية قد ساعدت في خلق هذا الوعي ٬ عن طريق تشجيعها بشكل اصطناعي “وعيا قوميا يهوديا” مصطنعا ٬ لا يقتصر على يهود اسرائيل فحسب ٬ وانما يشمل يهود العالم قاطبة .
وانطوت الوسائل التي استخدمتها الصهيونية لنيل هذا الغرض على نقيضة : أحيت الصهيونية اللغة العبرية لتنمية الروابط بين الجاليات اليهودية المختلفة ٬ وبينها وبيت تاريخها القديم ٬ وبما ان هذه الحياء لم ينجح الا في فلسطين ٬ فقد كانت النتيجة الواقعية قطع العلاقات الثقافية بين يهود اسرائيل وبين الطوائف اليهودية المتواجدة في بلدان مختلفة . وقس على ذلك ما جرى للصهيونية في تشجيعها هجرة اليهود الى البلاد ٬ اذ بمصارعتها ثقافة يهود المهجر “الغاء المهجر” وصبغتهم الروحانية ٬ ساعدت على تكوين ثقافة صبغة روحية اسرائيليتين مختلفتين . وبما ان هدف الصهيونية ‒ لم الشتات ‒ أي تجميع جميع اليهود في اسرائيل وبما انها محتاجة الى العون المادي والمعنوي ليهود العالم ٬ فانها لا تذخر جهدا في مكافحة هذا الميل الانفصالي لدى يهود اسرائيل وتقوية احساسهم بالصلة مع يهود العالم .اذن نتيجة لضغط الصهيونية من ناحية ٬ وتأثير الظروف المادية الواقعية من ناحية أخرى ٬ يعيش يهود اسرائيل صراعا نفسانيا داخليا ٬ صراعا بين “وعي قومي يهودي شامل” صهيوني ٬ وبين وعي قومي اسرائيلي . وبعد دحر الصهيونية لن يعدم يهود اسرائيل وعيا قوميا ما ٬ اما وعيهم “القومي اليهودي الشامل” المصطنع فسيؤول الى الاضمحلال والتلاشي ٬ ذلك لأن وعيهم القومي الاسرائيلي المختلف سيميل بالذات الى التعاظم .
هنالك من يدعي ان يهود اسرائيل لا يستطيعون ان يكونوا بمثابة أمة ٬ وذلك لوجود تيار متواصل من الهجرة اليهودية الى البلاد ٬ وان المهاجرين الجدد يشكلون دائما نسبة عالية من السكان ٬ ولهم لغات وثقافات خاصة بهم . الواقع ان يهود اسرائيل لا يختلفون في ذلك عن أية أمة أخرى تكونت خلال مرحلة هجرة مستوطنين من الخارج . فلدى سائر هذه الأمم (المهاجرة ‒ المستوطنة) منذ اللحظة التي تبلور فيها الطابع القومي للمستوطنين القدامى ٬ فان القادمين الجدد يأخذون في الذوبان فيهم بسرعة . فمثلا في الولايات المتحدة لم تكن ثمة ضرورة لتوقف الهجرة الجماهيرية قبل تكون الأمة الأمريكية .
بالنسبة للتبرير الثاني فانه من المضحك حقا التحدث عن منح حق تقرير المصير للأمة المضطهدة (بالكسر) . ليست هنالك أية ضرورة لمنح مثل هذا الحق لأمة مضطهدة (بالكسر) . انها قد نالت هذا الحق وهي تمنعه عن الغير . واضح ان لحق تقرير المصير مغزى فقط بالنسبة لأمة سلب منها هذا الحق ٬ أو هنالك خطر لسلبه منها . حاليا يشكل يهود اسرائيل أمة مضطهدة (بالكسر) وهذا راجع الى ظروف معينة : سيطرة الصهيونية ٬ علاقاتها مع الامبريالية ومهمتها العدوانية الاستيطانية التي تمارسها في الشرق العربي . لسنا الآن في صدد منح حق تقرير المصير ليهود اسرائيل حاليا ٬ وفي سياق الأوضاع الراهنة في الحاضر ٬ وانما نحن بصدد ما يجب أن يشتمل عليه برنامج الثورة الاشتراكية العربية .
ثورة عربية منتصرة ٬ تعني ٬ اسقاط الصهيونية وكل بنية الدولة الصهيونية وتصفية النفوذ الامبريالي في المشرق . وفي حالة توفر هذه الظروف فان يهود اسرائيل لن يستطيعوا ان يشكلوا أمة مضطهدة (بالكسر) ٬ عندما سيكونون أقلية قومية صغيرة في الشرق العربي . السؤال الذي نطرحه نحن هنا ويتوجب على سائر الثوريين في المنطقة طرحه هو : كيف يجب معاملة هذه الأقلية القومية ؟
هنالك ثلاث امكانيات فقط : طردهم من البلاد ٬ أو ضمهم قسرا ٬ أو منحهم حق تقرير المصير .
كاشتراكيين ٬ نحن نعارض اطلاقا الامكانيتين الأولى والثانية . تبقى اذن الامكانية الثالثة : تقرير المصير . سلبهم هذا الحق يعني تحويلهم الى وضع أمة مضطهدة (بالفتح) . ولكن دولة عمالية لا تتوافق مع اضطهاد أقليات قومية .
يجدر التأكيد أن كون أمة مضطهَدة أو مضطهِدة ليس شيئا يلزمها الى الأبد بل يتغير مع الظروف . ولا يمكن ضمان عدم تحول جماعة بشرية من مضطهدة (بالفتح) حاضرا ٬ الى مضطهدة (بالكسر) مستقبلا ٬ فها هم اليهود كونوا مضطهَدين أما الذين هاجروا منهم الى اسرائيل غدوا جزءا من الاضطهاد الصهيوني . هكذا أيضا العرب المضطهدين (بالفتح) حاليا ٬ سينقلبون مضطهدين (بالكسر) ان هم سلبوا يهود اسرائيل حق تقرير المصير .
انفصال واندماج
يجب التبيين كل التبيين ان تقرير المصير ليس معناه بشكل أوتوماتيكي الانفصال . تقرير المصير يعني ان الحسم للانفصال أو البقاء في اطار دولة ما ٬ هو بيد الأمة الأقلية ولا يفرض الحسم عليها من قبل الأمة الأكثرية .
بالنسبة للموضوع الخاص المطروح ‒ يهود اسرائيل ‒ فاننا لا نوصي بوجود دولة يهودية منفصلة عن الاتحاد الاشتراكي العربي . فدولة منفصلة كهذه لن تكون قادرة على الابقاء الاقتصادي العسكري والسياسي ٬ وان كانت اسرائيل قد استمرت في البقاء لغاية الآن فان هذا من فضل الامبريالية عليها . وعندما يتحرر يهود اسرائيل من الصهيونية والامبريالية فلن يكون لهم من مخرج سوى الاندماج باتحاد المشرق العربي (مع الابقاء على قدر من الحكم الذاتي) . وفي رأينا ستكون احتمالات الاندماج أكبر نجاحا اذا ما منح يهود اسرائيل التقرير في الأمر . والعكس ٬ اذا ما سلبوا حق تقرير المصير سيشتد ميلهم الى الانفصال ٬ وستنشأ قضية أقلية قومية مضطهدة (بالفتح) مكافحة من أجل الانفصال .
ان مهمة النضال في سبيل الاندماج هي مهمة الثوريين من أوساط الأقلية القومية . ومن جهة أخرى يجب على الثوريين من الأكثرية القومية الا يكرهوا الأقلية على الحسم .
ان موقفنا غير تجريدي ٬ ولا يعالج القضية القومية على حدة ٬ موقفنا يتعين كليا من خلال مفهومنا لستراتيجية الثورة الاشتراكية في الشرق العربي . ان ادراج حق تقرير المصير ليهود اسرائيل في برنامج الثورة ٬ سوف يسهل مسار هذه الثورة : لأنه بذلك يطرح للجماهير الاسرائيلية البديل للصهيونية ٬ مما يحسن الاحتمال لجذب جزء من هذه الجماهير الى جانب الثورة . ومع ذلك ينبغي الا نستثني امكانية انتصار الثورة الاشتراكية في المشرق حتى بانعدام أي تأييد من أي جزء من الجماهير الاسرائيلية . ولكن مما لا شك فيه انه بانعدام تأييد كهذا ستكون طريق الثورة أصعب بكثير ومصحوبة بضحايا أكثر . واذا ما سلب يهود اسرائيل حق تقرير المصير سيدفعون الى الجانب المناوئ للثورة وسيحاربون حتى النهاية المريرة ٬ طالما انهم لن يجدوا أي خيار أو أي بديل معقول للصهيونية .
لكن ٬ هل يعني منح تقرير المصير لليهود الاسرائيليين تسليما بالصهيونية وقبولا لدولة اسرائيل ؟ الحقيقة ان العكس هو الصحيح : هذا الحق يمكن ان يمنح ويمكن ان يكون ذا مغزى ٬ فقط عندما تسقط الصهيونية ودولة اسرائيل الحالية .
وماذا بخصوص الحدود التي ضمنها سوف يسمح ليهود اسرائيل ممارسة حقهم في تقرير المصير ؟ وهل هذا الحق لا يتنافى مع حقوق اللاجئين الفلسطينيين ؟ الأجوبة على هذين السؤالين غير منفصلة . بالطبع ٬ لا ينبغي لحق يهود اسرائيل في تقرير المصير المساس بحق العرب الفلسطينيين في العودة الى بلادهم وبناء حياتهم فيها من جديد . ولكن بعد عودتهم وبناء حياتهم ستظل مساحة من الأرض متصلة وغالبية سكانها يكونون من اليهود الاسرائيليين . على هذه المساحة يسري حقهم في تقرير المصير . اذن حق تقرير المصير غير مرتبط بحدود دولة اسرائيل ٬ ولا بأي خط آخر ممكن رسمه على الخارطة في الوقت الحاضر .