هل ثمة معنى موضوعي لوجود مجتمع الانسان ؟ هل ثمة هدف “سام” للانسان لوحده أو للمجتمع البشري ؟ من المعقول انه منذ اللحظة التي أصبح فيها كائن حي ما انسانا قبل عشرات أو مئات الالاف من السنين, ان تكون هذه الأسئلة قد خطرت بباله وحاول الإجابة عليها. ان مجرد التفكير في هذه الأسئلة يشكل احد مميزات كون الانسان انسانا. وكما هو معروف ليست هنالك كائنات حية أخرى تسأل نفسها هذه الأسئلة ومن الطبيعي الا تجد لها جوابا. وموجودية كائنات حية اخرى بالاضافة الى الانسان تبقى وحيدة عديمة المعنى او الهدف.
يدل تاريخ العقائد والفلسفات على محاولات كثيرة لإضفاء معنى أو غاية على الإنسان الفرد والمجتمع البشري علاوة على الوجودية الجسدية البيولوجية. ارتبط الانسان عادة بقوى خارجة عنه فوقه وفوق الطبيعة, قوى عليا من المقرر ان تسيره الى الهدف المنشود. ولقد فرضت أنظمة التشريع والكتب المقدسة وأنماط الاخلاق على الانسان وتفرض باسم الالوهية. وتحاول مذاهب الدين والاخلاق ان تملي على الانسان طريقة وأنماط سلوكه باسم سلطة ربانية عليا, سلطة مطلقة لا تدركها حواس الانسان وتقتضي ايمانا وخضوعا مطلقين.
ماذا ينبغي ان يكون رد الملحد على التحدي الذي تطرحه الشرائع الدينية المختلفة ؟ وليس المقصود هنا ذلك الرد الذي يجيء تجاوبا مع زي رائج أو مراعاة لمصلحة شخصية أو سواها, بل المقصود هو رد إلحادي ثابت مسؤول وعلى ادراك عميق لواقع مجتمع الانسان وتعقيداته وللحيرة العظيمة المستحوذة على الجنس البشري في عصرنا.
يبدو لي ان الرد بسيط: ليس هنالك أي معنى لوجود الانسان منفردا وحيدا مثلما انه لا يوجد أي معنى لوجود الكائنات الحية الأخرى. فالانسان يخلق بروحه معنى حياته. وليس فحسب ان الأهداف والمعاني لوجود الانسان هي من ثمرات فكره وانما عزو هذه الأهداف والمعاني الى قوى عليا, كالألوهية على اشكالها, هي كذلك من ابتكار الانسان وفكره. بعبارة أخرى: ليس الله هو الذي خلق الانسان على صورته, بالعكس, فالانسان هو الذي خلق الله على صورته.
وبما أن الانسان هو مخلوق عقلاني فانه يصعب عليه شق طريق واضح لنفسه من خلال الاعتماد على عقله وحصافة رأيه وأخلاقيته . ان إناطة الأوامر الأخلاقية بقوة عليا هي اذن ضرورة لدى الانسان “للتحرر” من قيود نفسه . لكن الواضح هو ان هذا “التحرر” يكبل أكثر مما يحرر. لأنه لا اذعان لسيطرة الهية دون خضوع وإذعان لعقيدة “دوغما” دينية.
مقولة ان فكر الانسان هو الذي يضفي معنى على نشاطه وعجزه لا تناقض مقولة ان فكر الانسان ووجهات نظره هي ايضا وليدة علاقات الانسان ببيئته ونظام العلاقات داخل المجتمع. ان فكر الانسان لا يعمل في حيز من الفراغ. ففكر الانسان يبني بناءه الفوقي على اساس لمجتمع انساني ملموس وواقعي من ناحية تاريخية ومن ناحية اقتصادية اجتماعية . وليس ثمة جاحد ان التكنولوجيا والعلم والصناعة والزراعة والحرف والطب وسواها قد تقدمت خطوات عظيمة على مر تاريخ البشرية. واما فيما يتعلق بالأخلاق الانسانية ومسألة الحرية وحقوق الانسان واضطهاد الأقوياء للضعفاء واستغلال الأغنياء للفقراء فانه يراودنا شك كبير فيما اذا كان المجتمع الانساني حقا قد خطى خطوات ملموسة منذ القدم.
ينزع كثير من الناس الى الاعتقاد في ان “طبيعة الانسان” هي معطى ثابت غير قابل للتغيير وذلك لأسباب نفسانية بيولوجية. من هنا النتيجة ان ظواهر الاضطهاد والاستغلال والتفرقة الناجمة عن “طبيعة الانسان” إياها, ليست إلا ظواهر ثابتة في مجتمع الانسان وانه يمكن تخفيف حدة هذه الظواهر أو الحد من اعتباطيتها وتعسفها لكنه لا يمكن إلغاؤها. كما ويزعم أتباع هذه المدرسة ان النضال في سبيل مجتمع المساواة والغاء كافة اشكال الاستغلال والاضطهاد والتفرقة ليس إلا نضالا عبثيا وطوبائية (أوتوبيا) مضلة لا تتلائم و”طبيعة الانسان” و”طبيعة” المجتمع الذي أنشأه الانسان. ومن هنا يخلصون الى نتائج مغالية في الاخلاقية الانسانية وانظمة الولاء التي يتحتم على الانسان احترامها. هذه المدرسة تنفي امكانية ثورة اشتراكية, واذا كانت هذه المدرسة “تقدمية” فانها تخوض نضالا, ضمن إطار النظام والحكم القائمين, من أجل اصلاح وترويض المجتمع المضطهد (بالكسر) وتقليم المخالب الاستفزازية للاستغلال والاضطهاد ومن أجل تطوير أجهزة الدولة لمساعدة المستغلين والمضطهدين (بالفتح) في الحفاظ على المستوى الأدنى لمعيشة معقولة وعلى تجنب اليأس والتنظم الذي قد يزعزع النظام السائد. واذا ما اندلع نزاع دولي تتورط دولتهم فيه, رأيت انصار هذه المدرسة يقفون دائما الى جانب مؤسسة شعبهم ودولتهم المضطهدة (بالكسر). لأنه اذا كان إلغاء الاضطهاد والاستغلال امرا مستحيلا, فأي شيء لديهم أقوى منطقا وثبوتا من انتصارهم دائما لمؤسستهم القومية المضطهدة (بالكسر)؟ ويتساءلون: ما الحيلة وما العمل ! هل نؤثر مؤسسة العدو المضطهدة (بالكسر)؟
وهكذا نرى جليا انه مهما كان المفهوم المحافظ حول “طبيعة الانسان” ساذجا ومسلما به فانه يلقي بحملته الى الهاوية.
وحقيقة لا مراء فيها ان مصطلح “طبيعة الانسان” هو أبعد ما يكون عن الوضوح والعلمية. وتفسيراته تتغير باستمرار كما تتغير سائر الأشياء.
فكما ان التكنولوجيا وعلاقات البشر في نطاق عملية الانتاج والتسويق خاضعتان لعملية تغير مستديمة فكذلك فكر الانسان عن نفسه والمجتمع والعلم والصناعة وعن كل شيء, يتغير باستمرار.
يؤكد العلماء ان جسم الانسان يخضع لعملية تغير مستديمة (وإن كانت بطيئة جدا في مصطلحات متوسط عمر الانسان). لكن هل الجهاز النفساني الروحاني ثابت؟ وساكن؟ ومتجمد؟ ان كانت الإجابة على ذلك بالنفي, فما معنى الزعم: “تلك هي طبيعة الانسان ولا يمكن تغييرها”؟ لعل مصدر هذه المدرسة غير ناجم عن متابعة “طبيعة الانسان”, وانما مرده الى البحث عن حجة “ذكية” و”معقولة” لتأييد النظام السائد.
يجب الادراك ان رؤساء النظام الراهن والضاربين بسيفه لا يستطيعون الادعاء بعد ان هذه النظام يتناغم مع ما يسمى عادة : العدل والاخلاق الكونيين. ودفاعا منهم عن الوضع الراهن يضطرون الى الاعتراف بان هذا الوضع لا يتفق مع العدل والاخلاق لكنهم يستدركون: ليس في الامكان ابدع مما كان وهذا مبلغ طاقة “طبيعة الانسان”.
هذا المقال يفترض ان الانسان بصفته كائنا ذكيا ذا مواهب ليس سيئا في أصله ولا طيبا. فالانسان يملك الذكاء الاحتمالي الذي يمكن استخدامه بشكل أو آخر. والبيئة التي ينشأ فيها الانسان ويتطور هي التي تملي عليه ما يصنع بمواهبه.
وكما ان الانسان يؤدي وظائفه كحيوان تحت المنافسة ليل نهار في مجتمع الكسب والربح فانه قادر كذلك على تأدية وظائفه في مجتمع المساواة الجماعي وهو أوفر سعادة وحرية وتحررا. وحقيقة ان مجتمعا مثاليا كهذا لم ينشأ بعد في العالم ليست برهانا على انه لن ينشأ. وذلك هو بيت القصيد. لأن مجتمعا كهذا لن ينشأ طالما لا يوجد أناس منظمون يرغبون في اقامته ويعملون في سبيل ذلك.