
لقد كان المقصود من يوم الأرض ان يكون يوم اضراب عام للاحتجاج على سياسة الحكومة بالنسبة للأقلية الفلسطينية . وهنا قررت حكومة رابين ‒ بيرس أن تحول هذا الاضراب السلمي الى مجزرة . وهنا يجب التوقف قليلا لطرح هذا السؤال : لماذا اختارت الحكومة الاسرائيلية مثل هذا التوقيت لمصادرة أرض يملكها العرب ؟ وسؤال آخر يطرح نفسه : لماذا جاء رد فعل حكومة رابين ‒ بيرس على اضرابنا السلمي عنيفا بهذا الشكل ؟
لكي نفهم مخطط الحكومة للمصادرة يجب ان نحلل أهمية التوقيت لتنفيذ هذا المخطط . هذا التوقيت هو المفتاح لفهم ذلك ٬ لأنه يأتي على اثر سلسلة من التطورات والتي أهمها امكانية اقامة دولة فلسطينية .
ولكون العرب يشكلون غالبية سكان الجليل (سبعون بالمائة) فقد قررت الحكومة الاسرائيلية ان توازن هذه “القنبلة الزمنية السكانية” بواسطة احضار المزيد من المستوطنين اليهود الى منطقة الجليل . وقد شرعت حكومة رابين ‒ بيرس بالفعل بتنفيذ مخططها العدواني .
يملك السكان العرب في الجليل ما يساوى مائة ألف دونم من مناطق الاعمار وحوالي مائتين وخمسين ألف (250,000) دونم من الأراضي الصالحة للزراعة . ويملك اليهود الاسرائيليين ثمانية وثمانين ألف دونم (88,000) بينما تملك الحكومة الصهيونية ثلاثة ملايين دونم . ومع ذلك فان الحكومة تريد مصادرة حوالي عشرين ألف دونم معظمها يملكه العرب . وهذه الحكومة تزعم بأن هدف المصادرة هو تطوير الجليل على الرغم من ان كل صهيوني يتكلم بصراحة عن ضرورة “تهويد الجليل” . ان شعارا كهذا يفضح كولونيالية الاستيطان . لقد رفع هذا الشعار وكانما الجليل أرضا قفرا تفتقر الى المستوطنين لاحيائها . وقد استبدل هذا الشعار بشعار “تطوير الجليل” اذ يبدو أن عنصرية الشعار الأول لا “تتناغم” والذوق الاسرائيلي . ورغم التغيير فان الهدف الصهيوني لا يزال : زيادة السكان اليهود على حساب السكان العرب .
وعلى العموم فان الأقلية العربية داخل اسرائيل قد مرت عملية “فلسطنة” حيث وضحت هويتها الوطنية كفلسطينية ٬ تشكل جزءا لا يتجزأ من الشعب العربي الفلسطيني . ازاء هذه الحقائق قرر النظام الصهيوني مصادرة أكبر مساحة ممكنة من الأرض العربية وذلك للحيلولة دون تطور نضال موحد يشمل كافة الفلسطينيين .
لقد بات النظام الصهيوني فزعا من امكانية تقرير الأقلية الفلسطينية الاتحاد جغرافيا وديموغرافيا مع الدولة الفلسطينية المقبلة . ولا يستبعد نشؤ حافز الانفصال بعد ميلاد هذه الدولة . الجزع الصهيوني من هذا الاحتمال هو الذي يكمن وراء مخطط الاستيطان والعدواني السريع .
السؤال الثاني الذي يتطلب الاجابة : لماذا كان رد فعل حكومة رابين ‒ بيرس عنيفا في يوم الأرض ؟ كما نعلم فان نتيجة هذا الرد كانت القتل الوحشي لستة أناس أبرياء ٬ جريرتهم الوحيدة هي ممارستهم لأهم الحقوق الأساسية للمضطهدين (بالفتح) ٬ الا وهي ٬ الاضراب . ولفهم ذلك علينا تحليل عقلية أولئك الذين أصدروا أوامرهم باطلاق النار والقتل .
العقلية الكولونيالية
لكي نحسن فهم العنف الذي وقع في يوم الأرض علينا أن نحلّل عقلية الوعي الأمني للمستوطنين ٬ عندها نستطيع فهم تصرفاتهم .
الكولونيالية الاستيطانية تتحرك دائما بدافع الأمن . وعقلية الوعي الأمني لدى المستوطنين ناجمة عن اغتصابهم لأراضي السكان الأصليين . وطيقا لهذه العقلية فان أرسخ أمن للمستوطنين يمكن تحقيقه من خلال قمع وتجزئة السكان الأصليين ٬ واهمال كل ما فيه احتمال لتحادهم . فمثلا يشجع المستوطنون القبلية ٬ البنية العشائرية ٬ التقسيمات الدينية ٬ المشيخات ٬ التواطؤ والتخلف الاجتماعي واكتظاظ مناطق السكن ٬ وفي الوقت نفسه يحارب هؤلاء المستوطنون القومية ٬ التنظيمات السياسية ٬ الاضرابات ٬ المظاهرات ٬ وأي احتجاج جماعي يقوم به السكان الأصليون . ووفقا لهذا المنطق الكولونيالي فان عدم انتهاج سياسة كهذه يؤدي الى توحيد وتقطب القوى السياسية للسكان الأصليين ٬ وقد يعجل ذلك أيضا في انطلاق الطاقة الثورية لهؤلاء السكان ٬ والتي بدورها تضعضع أمن المستوطنين وتزيد تصرفاتهم عنفا . ويجدر بنا ألا ننسى أن أسس العلاقة الكولونيالية لا تكون الا من العنف . ويعتقد المستوطنون ان ابن البلاد الأصلي لا يفهم غير لغة القوة ٬ وأنه يجب عليه عدم الخروج من مكانه . وان أي عمل يبدر عن السكان الأصليين فيبدو عدائيا بالنسبة للمستوطنين يستوجب الرد بأقصى درجة من العنف . ويخشى المستوطنون بأنهم اذا تصرفوا بشيء من اللين فان السكان الأصليون سيرون في ذلك ضعفا ٬ الشيء الذي سيؤدي الى فقدان المستوطنين سيطرتهم على السكان الأصليين . وعليه فان المستوطنون يعتبرون أي عمل جماعي يقوم به السكان الأصليون (كالمظاهرات والاضرابات) محاولة لكسر نير السيطرة الكولونيالية . ولذا يتوجب قمع هذه المحاولات بالعنف البربري المكشوف . وعلى السكان الأصليين أن يتذكروا دائما ويتعلموا ان التنظيم ومقاومة الوضع الكولونيالي الراهن هو عملية باهضة الثمن . ومن المتوقع ان يقوم النظام الصهيوني بتصعيد سياسته . وقد يجابه أي عمل جماعي في المستقبل بعنف أشد من قبل . والكولونياليون مقتنعون بأننا سندرك في يوم ما نوايا هذا النظام .
بداية التحول
يتحدث فرانس فانون في كتابه “بؤساء الأرض”
(The Wretched of the Earth, Frantz Fanon) عن معنى الأرض عند السكان الأصليين: “بالنسبة لشعب مستعمر (بالفتح) فان الأرض هي الشيء الأساسي أولا وأخيرا : الأرض تهبهم الخبز والأهم من ذلك الكرامة” . ومسألة الأرض بالنسبة للأقلية الفلسطينية (في اسرائيل) هي مسألة كرامة في المقام الأول ومسألة خبز ومعاش في المحل الثاني . ولقد تأثرت هذه المسألة كثيرا خلال سير التغيير الذي اجتازته الهوية القومية ٬ ذلك التغيير الذي بدأ تقريبا في أعقاب حرب حزيران .
وبعد حربي حزيران وأكتوبر أخذ الفلسطينيون داخل اسرائيل يظهرون وعيا قوميا جديدا . قبل سنة 1967 وخاصة في أوائل الخمسينات مرت هذه الأقلية مرحلة تحول انتهت بتغيير هويتها من فلسطينية الى عربية اسرائيلية . في 1956 أصبح جمال عبد الناصر قائدا للقومية وداعيا للوحدة العربية . وعلى اثر ذلك بدأوا يعرفون أنفسهم كعرب وكجزء من الأمة العربية . وبلغت هذه الفترة نهايتها عام 1967 مع بداية المد الوطني الفلسطيني فتعمق شعور هذه الأقلية أكثر فأكثر بأنها جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني ولا ريب في ان أيلول الأسود وحرب أكتوبر قد عجلتا في اكتساب هذه الأقلية لشخصيتها الفلسطينية وبلورة هويتها الوطنية .
وبدأ النضال ضد الصهيونية يتضح للفلسطينيين كافة ٬ نضالا واحدا متلاحما . وأخذ الفلسطينيون داخل اسرائيل يدركون الروابط التاريخية التي تربطهم بشعبهم في الضفة الغربية وقطاع غزة والأقطار العربية . وانعكس كل ذلك جليا في وجدان ووعي هذه الأقلية . وأخذ يتلاشى شعورها بالعزلة والعجز . لقد بدأت تتبلور هوية قومية حقيقية جديدة بين الجماهير . لقد ولد وعي جديد .
ما هي ردود الفعل ؟
يجب التمييز هنا بين النظام الصهيوني والشعب الاسرائيلي . لقد عجز هذا النظام بحكم كونه كولونياليا لغاية الآن عن رؤية هذا التحول . فلا تزال حكومة رابين ‒ بيرس تنتهج نفس السياسة بالنسبة “للأقليات” . ولا نتوقع من هذا النظام تغيير سياسته أو منطقه .
تنتج الكولونيالية أطارا فكريا عنصريا . وهو بدوره ينتج منطقا مشوها ٬ فصاما “شيزفرينيا” أخلاقيا ٬ عقلية مريضة ونزعات فاشية . ان القوانين الاخلاقية التي ينتهجها الشعب الاسرائيلي معمول بها في الشارع اليهودي فحسب ٬ وتختلف عما هو متبع في الشارع العربي . وطبقا لذلك فان كل ما يجري في الوسط العربي يعد من الأمور المسلم بها حتى القتل . فالتصرف الوحشي لحرس الحدود ضد الفلسطينيين شيء مفهوم ويمكن تبريره “كدفاع عن النفس” . ان الجواب الوحيد لتفسير مثل هذه الأشياء هو كون المستوطنين يعتبرون أنفسهم متفوقين عرقيا (عنصريا) على السكان الأصليين . فابن البلد الأصلي حسب تفكيرهم ليس بانسان بل هو صنف من القردة الرافية ٬ عديم الشعور لا ينزف دما ولا قيمة لحياته . طريقة تفكير كهذه كفيلة بشلّ الضمير الجماعي للمستوطنين عند اقتراف أي جريمة ضد السكان الأصليين . ورغم هذا الاطار الفكري فان الاسرائيليين يجتازون مرحلة تغيير بطيئة . فاليسار المعادي للصهيونية يزداد كل يوم . وأخذت أجزاء من الشعب الاسرائيلي تستيقظ لتكشف زيف وخراقة الحلم الصهيوني . قسم كبير من الشعب الاسرائيلي بات يدرك أن حكومة رابين ‒ بيرس لا تملك له شيئا سوى المزيد من الضرائب . ان التسارع في عملية التغيير هذه يعتمد على التطورات السياسية في الشرق الأوسط . ولكن ما يجري في الشرق الأوسط مربوط ديالكتيكيا بما يجري في العالم . ونحن نشهد تغييرات سريعة في عالمنا . كثير من الشعوب المكافحة تقرر مصائرها بأيديها . نحن نشهد في هذه الأيام تقدم الاشتراكية الثورية وخاصة في العالم الثالث . العالم كله يتغير ولا مناص للشرق الأوسط من ذلك .
* كتب هذا المقال فلسطيني يساري من سكان الناصرة والذي لم يكن عضوا منظمة متسبين .