[هذا النداء وضعه اشتراكيون ثوريون من الأقطار العربية واسرائيل بما فيهم أعضاء من منظمتنا متسبين . هذه الوثيقة ‒ وان لم نتفق مع سائر المواقف الواردة فيهما ‒ تشكل عينة لنوع من الصلات التي نلتمسها مع حلفائنا الاحتماليين في الجانب الآخر من الحدود الاسرائيلية : الصلات مع اشتراكيين ثوريين من كافة البلدان العربية ٬ شركائنا الاحتماليين في اقامة حركة اشتراكية ثورية للمنطقة بأسرها ٬ تعمل لتوحيد الشرق العربي تحت حكم العمال والفلاحين .]

الوضع في الشرق الأوسط مبلبل ومعتم تصعب فيه الرؤية الواضحة من أول نظرة . وذلك عائد الى ان البلبلة والملغمة وتنظيم الكذب كانت على من الحقب الحليف الوفي للطبقات المالكة والحاكمة .

لقد اجتمعنا ٬ نحن ثوريي الأقطار العربية واسرائيل ٬ يومي 1 ٬ 2 مايو 1976 في باريس لفضح نوايا الطبقات السائدة الخفية ٬ للاطاحة ببديهياتها الزائفة ٬ وللنظر بعين صاحية في الوضع الراهن للخروج بمنظور واضح تستهدي به البروليتاريا الثورية وحلفاؤها في نشاطهم .

وفي هذا المنظور نقطع على أنفسنا عهدا بالنشاط المشترك والكثيف ارساءا لأسس تنظيم ثوري عربي ‒ اسرائيلي يقوم على برنامج المجالس العمالية والجماهير المسحوقة ولا يقتصر نشاطه على الممارسة النظرية فحسب بل وعلى الممارسة العملية ومتمحور حول الصراع الطبقي في الأقطار العربية واسرائيل ٬ خاصة عبر لقاء العناصر البروليتارية الأكثر تقدما في المنطقة .

يبدو اليوم ان تسوية الأزمة اللبنانية ٬ التي تحمل بين جنبيها أزمة الشرق الأوسط٬ نضجت . وهي علامة تنبئ بوضع طبخة تسوية النزاع العربي الاسرائيلي على المائدة ٬ بعد ان ظلت لأمد طويل فوق مواقد الكواليس العالمية .

والهم الأكبر للأطراف المعنية بهذه القضية هو الاتفاق على كيفية اخراج هذه التسوية . فزيارة رابين لواشنطن ٬ وزيارة حسين ٬ الذي أصبح فيما أصبح سمسارا متجولا لحافظ الأسد ٬ لواشنطن ٬ وزيارة السادات لأوروبا وزيارة فورد المحتملة للشرق الأوسط تصب كلها في هذا المنحى . ما يشغل جميع أصدقاء فورد من موسكو الى القاهرة ٬ ومن دمشق الى تل أبيب هو فوزه انتخابات 1976 فوزا أغر . واسهامهم في هذا الفوز لا يمكن ان يكون الا قبولا “بسلام أميركي” مهما كان جزئيا ‒ والنزاع العربي الاسرائيلي نفسه لا يمكن حله من وجهة نظر رأس المال الا على مراحل ‒ كفيل بأن يقدم لحملة فورد مفاجأة “سلام” براقة في الشرق الأوسط .

أشارت الصحف المطلعة على اسرار الالهة مثل “الحوادث” اللبنانية الى اقتراح أميركي ‒ اسرائيلي قدمه سفراء أميركا الى الدول العربية المعنية فحواه تحقيق التسوية النهائية على مرحلتين .

في الأولى ٬ وتنجز خلال هذه السنة ٬ تتعهد الدول العربية المعنية بانهاء حالة الحرب مع دولة اسرائيل . ولقاء ذلك ترد لها هذه الأخيرة جميع الأراضي المحتلة ما عدا المواقع الستراتيجية في نظرها والضرورية اذن لدفاعها . اما في الثانية ٬ والتي تنجز في 1977 يوقع المعنيون تحت وصاية الدولتين الكبيرتين “سلاما” كاملا في جنيف أو في مكان آخر . وبالمقابل ترد الحكومة الاسرائيلية لشقيقاتها حكومات الدول العربية جميع الأراضي التي بقيت تحت احتلالها .

ترى هل تستطيع أطراف التسوية تحقيق أهدافها دون اللجوء الى حرب ؟ ليس ذلك بالمؤكد اطلاقا . فاذا كان المنحى لا ينحو نحو الحرب ٬ الحرب الفعلية التي تسفر عن هزيمة فريق وانتصار فريق ٬ الا ان حرب اخراج مسرحي ٬ تطحن برحاها المجندين من العمال والشباب ٬ لا تخلو تكتيكيا من فائدة للحكومتين الاسرائيلية والسورية خاصة .

ذلك ان تسوية سياسية مع سورية ومنظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) تصطدم دائما بعجز حكومة رابين عن اعادة تطويع رأيها العام في اتجاه الواقعية و”السلام” عكسا لما لقنته الصهيونية من ايحاءات . هذه الصهيونية ٬ التي أصبحت مغبرة أو تكاد ٬ القائلة بأن اغتصاب الأرض العربية والاحتفاظ بها ٬ هما خير ضمانتين لأمن الاسرائيليين وسلامهم .

ان حرب كهذه ٬ تمكن منطقيا الدول الكبرى من تدخل مشترك ٬ واردة :

ا ‒ لفصل المتحاربين وصدهم الى مواقع مرسومة سلفا .

ب ‒ لارسال قوات الأمم المتحدة .

ج ‒ لاعلان الهدنة .

د ‒ لجدولة الانسحاب الاسرائيلي .

ه ‒ للاعتراف ب (م.ت.ف) والموافقة على الدولة الفلسطينية في الضفة وغزة .

مشروع “السلام” هذا كشفه السيناتور الأميركي جيمس أبو رزق لغسان تويني الذي نشره كافتتاحية في جريدته “النهار” منذ شهور مضت .

ومنذ شهرين حذر السادات علانية من أخذ المبادرة في حرب مع اسرائيل ٬ موضحا بأن جيشه ‒ الأعزل تقريبا من السلاح بسبب الحصار الروسي ‒ لن يشترك في هذه الحرب . وثمة من الدلائل ما يشير الى ان القيادة السورية يمكنها ٬ تماما مثل شقيقتها الاسرائيلية ٬ ان تكون راغبة في حرب تمويهية . فشجبها الصاخب لاتفاق سيناء يجعل من الصعب قليلا عليها توقيع اتفاق مماثل له في الجولان دون تغطيته بذريعة مقبولة بعض الشيء . والمجتمع السوري مهدد اليوم ٬ كما في 1973 ٬ بالتفكك : فقادة الفتن الطائفية الدامية التي هزت عشية حرب 73 تلاحم هذا المجتمع الهش ٬ يجدون اليوم في المظهر الطائفي للحرب الأهلية اللبنانية خير مشجع على استئناف الفتنة . وكوابيس انقلاب عسكري موال للعراق عادت من جديد لتلاحق الحكام السوريين في نومهم . فالوضع يشبه من أوجه عدة ٬ الوضع الذي ساد عشية حرب 73 التي أعلنها الأسد والسادات بقصد ‒ وهذا ما اعترف به السادات فيما بعد ‒ تنفيس وضع داخلي مخيف من جهة و”تسخين الجبهة” تمكينا لكيسنجر من ايجاد تسوية “على الساخن” من جهة أخرى . الجديد في الموقف الراهن هو القرف الشعبي العام والعارم من أية حرب جديدة : فذكريات حرب 73 ما تزال حية ولاذعة حتى في صفوف الجيش السوري ذاته . والتسويات التافهة التي اعقبت الحرب وتجاسر النظامين السوري والمصري على تسميتها نصرا اوهنت حتى العظم المشاعر القومية التي استغلها النظامان كلاهما في 73 لخوض مناورة حربهما المشهدية . لكن المناورة هذه المرة ستكون مفضوحة . وهكذا ينبغي ان تراها عيون الجميع تماما كما نرى اليوم ككذبة مفضوحة عداء النظام السوري للامبريالية الأميركية . فدمشق التي كانت وما بالعهد من قدم تعتبر الاقتراح بعقد اتفاق في الجولان ٬ مماثل لاتفاق سيناء رجسا من عمل الشيطان تلتزم اليوم لواشنطن اياها بالمحافظة في النزاع بين البرجوازية اللبنانية القديمة وقوى البرجوازية الحديثة على مبدأ “لا غالب ولا مغلوب” الشهير ٬ وبنزع سلاح الجماهير في لبنان ٬ وبتقليم أظافر حرية النشر والتعبير النسبية التي رأى فيها الاستبداد البعثي سببا لمصائب لبنان كافة ٬ وبفرض ارادتها على القيادات الفلسطينية ‒ التي من محمية منها غدت رهينة بين يديها ‒ والمجيء بها الى جنيف أو الى أي مكان آخر وهي في منتهى الرصانة والمذلة ٬ بتأجيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية الى ما بعد الانتخابات الأميركية ٬ بتمديد انتداب قوات الأمم النتحدة في الجولان لمدة 6 أشهر أخرى تواصل خلالها واشنطن مرتاحة البال التحضير لفرض “سلامها” . لجميع هذه التعهدات استحقت دمشق شهادة حسن سلوك أميركية : فكيسنجر يصرح امام مجلس الشيوخ بأن الدور السوري في لبنان “مسؤول وبناء على وجه العموم” اذ انه “كبح جماح العناصر اللبنانية المتطرفة” (14 لأبريل 1976) وفورد نفسه يعلن في 19 أبريل بأن “سوريا واسرائيل تتصرفان تصرفا مسؤولا جدا في لبنان” . فمن عساه ٬ والحالة هذه يأخذ مأخذ الجد اعلان بعثيي دمشق بأن هدف حربهم المحتملة هي “الصمود في وجه الهجمة الصهيونية والامبريالية الأميركية على القلعة المنيعة للعروبة المناضلة : دمشق ” ؟!

بالتأكيد ليست هذه الحرب محتومة ولكنها أبعد ما تكون عن الاستحالة . انها ولا شك احدى البدائل التي وضعتها العواصم الكبرى على جدول أعمالها . لقد كلف جهل البروليتاريا والشباب في اسرائيل ومصر وسوريا لنوايا هذه العواصم غاليا في 73 . وسيكلفهم تقصيرهم هذه المرة أغلى . لا يعذر بعد اليوم أحد بجهل حيل ومفاجآت السلطات القائمة . وتاريخيا ولدت الحروب المضادة للثورة من رحم هزيمة أو نوم الشعب الكادح .

في حال تحول هذه الحرب المحتملة الى حرب معلنة ندعو نحن : الثوريين الأمميين عربا واسرائيليين ٬ العمال والشباب من كلا الجانبين للتأخي ٬ ولأن يديروا أسلحتهم وشجاعتهم ضد امريهم والطبقات التي باسمها يأمرون ولأن يحولوا الحرب المشهدية الى حرب أهلية حقيقية للقضاء مرة والى الأبد على جميع الحروب .

ومهما يكن من شيء فان الحرب القادمة ستسرع ما بدأته الحرب الماضية : التصالح المرحلي بين البيروقراطيين والبرجوازيين العرب والاسرائيليين ودمجهم دمجا وثيقا وعقلانيا بالسوق العالمية .

بحرب أو بدونها بات منذ الآن ذاك التصالح وهذا الدمج مدرجين على جدول أعمال الرأسمال العالمي والمجلي المتشابكي المصالح .

في نظر الرأسمال العالمي يمثل العالم العربي والشرق الأوسط بخاصة متسعا حيويا له باعتباره خزانا للطاقة لا بديل له حتى الآن وسوقا دفاعا يعتمد عليه جزئيا لحل أزمته . هذه الأزمة المتميزة لدرجة مخيفة بالانخفاض الفعلي لمعدل الربح ٬ تتجلى في التضخم النقدي المتسارع ٬ وفي البطالة المتزايدة والاشباع المعمم للأسواق الدفاعة ولهذا السبب فان الروس والأميركان الذين اتفقوا منذ عهد بعيد على عدم الانجرار الى هاوية مشتركة ٬ يريدون اليوم تحقيق تسوية ودية لنزاعات الحدود الصغيرة التي جرت مختلف وكلائهم المحليين في الشرق الأوسط الى الحرب . بدورها ٬ اقتنعت اليون ايما اقتناع الطبقات الحاكمة في هذه المنطقة المشلولة بسبب أزمتها الدائمة التي تزداد تفاقها مع كل أزمة عالمية ٬ بأن أية منها لم تعد قادرة بمفردها لا على حل أزمتها ٬ ولا على مواجهة مد المعارضة الشعبية المخيف . لقد غدا التكافل الفعلي بين هذه الطبقات المسيطرة ٬ وثيقا الى درجة ان سقوط احداها بثورة حقيقية كفيل بأن يثير سلسلة من الافعال وردود الفعال تؤدي الى سقوط جميع الأنظمة الأخرى . واذن فاستمرار نراعاتها المسلحة القديمة يعني في الأمد القريب انتحارها . وبهذا المعنى ينبغي ان نفهم التصالح بين العراق القومية الشوفينية وايران التي طالما وصمتها الدعاية الرسمية بأنها “اسرائيل ثانية” والتصالح القادم بين الدول العربية ودولة اسرائيل .

سيقوم هذا التصالح على تعاون اقتصادي وثيق وعميق هدفه تصنيع هذه المنطقة المتخلفة صناعيا رغم امكانياتها الهائلة … وبدلا من وضع قوات الطوارئ الدولية كعازل بين الحدود العربية والاسرائيلية فأحسن ضمان لسلام دائم بين العرب واسرائيل هو التصنيع الكثيف (بل الاستغلال المشترك) لمناطق الحدود هذه : سيناء ٬ الجولان والضفة الغربية والمناطق المقابلة لها من الجانب الاسرائيلي .

هذا البرنامج مبثوث في كتاب “بعد ان تسكت المدافع” الذي صاغه أحد محرري الأهرام . وتقول “التايم” ان السادات قرأه مخطوطا وأذن بطبعه في بيروت 1975 . وامتدحه أبا ايبان في “لو نوفيل أبسرفاتور” مشيرا الى انه يعبر عن الأفكار التي طالما دافع هو نفسه عنها منذ حرب 67 .
المدخل الأساسي لهذا التعاون في مرحلة ما بعد الحرب هو “حل” المسألة الفلسطينية .

وعكسا لثرثرة ثرة ومغرضة غالبا حول استحالة موافقة اسرائيل على دولة فلسطينية نرى بأن ظهور هذه الدولة شرط لا بد منه لهذا التصالح الذي شاء رأس المال اليوم فرضه .

“حق الشعب الفلسطيني في تكوين دولته الخاصة” بات اليوم مسك الختام في أفواه جميع الدول . اما نحن فنؤكد بأن انشاء هذه الدولة “المستقلة” ٬ سواء ادمجت ام لم تدمج في الكونفدرالية الصورية للهلال الخصيب ٬ لن تنهي الاضطهاد المزدوج الذي يكابده الشعب الفلسطيني . بيد اننا نحن الذين لا ننتمي الى أي من المعسكرين ٬ لا الى المعسكر الذي يناضل في سبيل الدولة (م.ت.ف ومعظم دول العالم) ولا الى المعسكر الذي يناضل ضدها (جبهة الرفض الفلسطينية والجناح الصهيوني المتصلب) ٬ فاننا نسجل بأن هذه الدولة التي يريد اليوم رأس المال فرضها “لتهدئة” متسعه الحيوي في الشرق الأوسط واحتواء نضال الجماهير الفلسطينية المتصاعدة ٬ ستكون اخر حفاري قبر القومية العربية التي اتخذتها الطبقات السائدة ذريعة لطمس الوعي الطبقي . وبذلك تدفع موضوعيا تطور الصراع الاجتماعي الى الأمام سواء في الأقطار العربية ٬ أو في اسرائيل أو في حدود هذه الدويلة ذاتها . فما ان يصبح العمال الفلسطينيين رازحين تحت قمع البرجوازية الفلسطينية المباشرة حتى يكتشفوا ان لا سبيل لتحررهم الحقيقي الا عبر الاطاحة بالمجتمع الطبقي القائم . والفلسطيني المكبل اليوم باغلال الاحتلال الاسرائيلي ٬ والأردني و”بالحماية” البوليسية للدول العربية ٬ لن يصبح حرا طالما ظل العامل في كل نكان عبدا .

وهنا نقف تحية للرفاق الفلسطينيين في لبنان ٬ سوريا ٬ في الأرض المحتلة واسرائيل الذين يدافعون في وجه تضليل الوعي الثوري الذي تمارسه القيادات البيروقراطية ‒ البرجوازية في م.ت.ف وجبهة “الرفض” عن هذه الحقيقة معلنين بصوت جهير ضرورة استقلال الطبقة العاملة الفلسطينية عن جميع التنظيمات التي ليست تنظيماتها الطبقية الخاصة . كما نحيي النضال المتحد الذي يخوضه معا الشباب والعمال العرب واليهود ضد النظام الطبقي في اسرائيل .

حاشانا ان نقوم بتوجيه نداءات معتوهة للجماهير الشعبية لكي “تحبط التسوية الخيانية للقضية القومية” كما تفعل تكتيكا لا قناعة ٬ جبهة “الرفض” الفلسطينية ‒ العراقية ‒ الليبية التي لا تقدم للجماهير الفلسطينية في الأرض المحتلة كبديل عن الدولة الفلسطينية التي تقدمها لها م.ت.ف كبلسم يشفيها من الامها الا خيارين احلاهما مر : اما الاستكانة لنير الاحتلال الاسرائيلي واما العودة لنير جلادها حسين . ولذا فالجماهير العربية والفلسطينية التي حزتها حتى العظم هزائم أربع حروب بلا جدوى لم تعد تصدق نداءاتها فحسب بل باتت ترفض حتى مجرد الاستماع اليها .

على القوى الثورية المناضلة داخل اسرائيل ان تساند معركة الجماهير الفلسطينية ضد الاضطهاد الصهيوني . اما نحن فنعلن مساندتنا لحق الشعبين الفلسطيني العربي واليهودي الاسرائيلي في تقرير مصيرهما لكي ينهيا الى الأبد جميع ضوف القهر القومي والاجتماعي . ونشجب بقسوة شتى محاولات الدولة الصهيونية ٬ الامبريالية وحلفائها لفرض أي اكراه قومي كان على الشعب العربي الفلسطيني ٬ كما نندد في الوقت ذاته بالاضطهاد الذي ما زال يهود سوريا والعراق عرضة له وبجميع الوان الاضطهاد الاجتماعي والعرقي والديني التي تكابدها الأقليات المقيمة تحت سماء العالم العربي .

ولكن مهامنا نحن الذين نعبر في صلب الحركة الثورية الحاضرة عن مستقبل هذه الحركة ٬ تنحصر في التحليل النقدي لما يجري امام عيوننا : نعي حقبة الصراع القومي التي ادبرت ٬ والتبشير بحقبة الصراع الطبقي التي أقبلت .

لم يكن ظهور المقاومة الفلسطينية بعد هزيمة الدول العربية في 1967 بشيرا ببعث ثوري راديكالي الجدة بقدر ما كان اخر اختلاجات القومية العربية القديمة المحتضرة ٬ التي شكل التحدي الصهيوني مهمازها منذ 1917 وحفار قبرها في 1967 . فاخر زعماء القومية العربية حقا : عبد الناصر الذي هللت له الجماهير العربية كما لم تهلل لأحد من قبله قط من أجل وعديه بتحرير فلسطين من دولة اسرائيل واعادة وحدة الأمة العربية المجزأة ٬ غدر هو نفسه بوعديه بعد 67 ٬ فألقى بالوحدة العربية في سلة مهملات التاريخ ووقع قرار مجلس الأمن 242 الذي أعطى دولة اسرائيل اياها الحق في “حدود امنة ومعترف بها” .

وبدورها دشنت الصهيونية ٬ التي بلغت باخر حروب فتحها في 1967 قمة مجدها بنفس الضربة بداية انحدارها حيث ستشهد في 1973 أساطير جبروت دولتها ٬ وجيشها الذي لا يقهر وعصمة مخابراتها تتناثر هباء . وأسوأ من ذلك فها هي اليوم مرغمة لا على رد الأساسي من الأرض العربية التي احتلتها فحسب بل وأيضا على الاعتراف بالوجود القومي للشعب الفلسطيني الذي طالما أنكرته .

بدأنا في غمرة انحدار الطبقات المسيطرة وايديولوجياتها ٬ نشهد تصاعد الصراع الطبقي .

فلا يكاد يوجد في جميع الدول العربية نظام واحد لا يجد نفسه كل أسبوع قاب قوسين أو أدنى من انتفاضة عمالية ٬ أو من انقلاب عسكري أو من اغتيال رئيسه أو من اشتباك مع النظام المجاور .

ذلك ان أزمة الرأسمال العالمي ٬ اضافة لأزمة هذه الأنظمة نفسها ٬ قد أخذت بخناقها . حتى الدول النفطية ألفت نفسها عاجزة عن استخدام دخولها الهائلة استخداما سديدا بسبب بناها البالية وسفاهة ذهنيتها المكبلة بالتحريم .

لم تنجح جميع هذه الدول الا في فرض استعمار حقيقي على البروليتاريا وضحايا رأس المال وعسفه الاخرين . لكن الرضى المستسلم للجماهير المطوعة يوشك اليوم على الزوال في كل مكان .

*

ففي مصر السادات ٬ المنهارة اقتصاديا ٬ وصل التضخم النقدي خلال السنتين الماضيتين الى 45 % . اما عن قسوة شروط العمل المأجور ووتائره فحدث ولا حرج . وبات الافقار المطلق واقعا يكابده يوميا ملايين الاجراء . فالطبقة السائدة تريد ٬ وبكل وضوح ٬ ارغام عمال مصر على ان يدفعوا من خبزهم اليومي أزمتها المستحكمة ٬ تكاليف حروبها الخاسرة وتبذيرها السفيه وحتى اختلاساتها .

اما بروليتاريا مصر فانها ٬ بعد حرب 1973 ومفاوضات الكيلو متر 101 وتكثيف الدعاية الرسمية من أجل “سلام متفاوض عليه” التي أعقبتها ٬ أعرضت عن الديماغوجية القومية وانطلقت تواجه ظالميها بوعي قومي متزايد .

لم تعد الشعارات المضللة من نوع “لا صوت يعلو على صوت المعركة” و”على العمال ان يضحوا بالنفس والنفيس من أجل الوطن المهدد بالخطر” تجد من يصدقها أو حتى من يستمع اليها . لأن حرب 73 ٬ التي التهمت نيرانها عشرات الالوف من العمال والشباب المتعلم لكي تنتهي بهزيمة ومساومة “دلال في سوق شرقية” كشفت للعمال والشباب عبث أسطورة التحرر القومي بينما رأس المال ٬ هو العلة الأولى لكل رق ٬ سيد في كل مكان . منذ ذلك انزلت البروليتيريا المصرية ٬ القائدة الروحية للبروليتاريا العربية قاطبة ٬ شعار “تحرير سيناء” ورفعت مطالبها الطبقية . وسيتكفل زخم وكثافة صراعها الطبقي بجعلها تطرح أخيرا مطلب تحررها الشامل . فهي منذ الآن لم تعد تطرق أبواب “لجان الدفاع المدني” الرسمية لكي تنخرط فيها بل بدأت تبني هيئاتها الطبقية الخاصة بها : اللجان العمالية الموسعة الى 200 مندوب منتخبين من الجمعية العامة لعمال كل مصنع وقابلين للعزل منها ٬ وهي لجان مستقلة عن النقابة الرسمية والحزب الرسمي الوحيد ٬ كما لم تعد البروليتاريا المصرية تفكر في النقابة اداة لرفع شكواها للسلطة الحاكمة كما كانت تفعل في الماضي بل لجأت الى سلاح الاضراب باستقلال عن نقابة رأس المال وضدها ٬ والى الاعتصام بالمصانع واعتقال رئيس النقابة ومندوبي الدولة ٬ والى ان تطرد من المصانع منظمي عملية استغلالها : المدير ملاحظ العمال بوليس النقابة ومن لف لفهم من الحشرات الأخرى .

ففي أول يناير 1975 اعتصم عمال الصناعة في حلوان بجميع المصانع وانتخبوا مجالس مندوبيهم وأرسلوهم الى القاهرة ليقودوا مع الطلاب مظاهرة ضخمة اعلاما لشعب القاهرة بمطالبهم . حطم الشعب المظاهر ونهب مخازن عدة للساع الفاخرة بما في ذلك دكانا سوفييتيا لبيع الاسطوانات . اغتاظ دعاة النظام والداعون زعما ضده ٬ سواء في مصر أو خارجها ٬ من واقع ان المتظاهرين لم يرفعوا شعارا قوميا واحدا . حتى ان جريدة قومية يتيمة تصدر في بيروت أرغمت على ان ترسل لنفسها “رسالة خاصة” من القاهرة بعد نحو أسبوع اخترعت فيها شعارين اثنين : أحدهما لصالح المرحوم عبد الناصر والآخر لصالح تحرير سيناء ٬ وحملت “مخابرات النظام” مسؤولية تخريب مخازن السلع الفاخرة ونهبها ومسؤولية رفع بعض الشعارات البروليتارية المضادة للقومية .

كانت شعارات المظاهرة فعلا من بابها الى محرابها طبقية :

“أين الفطور يا بطل العبور ؟”

“الصحافة حرة والعيشة مرة”

“يا حجازي حكمك حكم النازي”

“يا جهان حكمك حكم دايان”

(وهكذا في وجه الدعاية الرسمية ودعاية الأحزاب العربية المزعومة شيوعية ٬ التي لم تفتأ ستخدم البلبلة والكذب لضرب شمولية معركة البروليتاريا العربية الأممية الجوهر داعية لها باسم اسبقية موهومة لتناقض رئيسي على تناقض ثانوي زعما الى اخضاع مصالحها الطبقية لمصالح الأمة العليا أي لمصالح الطبقات المالكة للسلطة والثروة “للوقوف جبهة واحدة ضد العدو الصهيوني الذي يهددنا جميعا” تصرخ البروليتاريا المصرية المناضلة في وجوههم بحقيقة ان جميع الطبقات الحاكمة في المنطقة يشبه بعضها بعضا كما يشبه الماء الماء . وشعارات العمال المصريين بهذا الخصوص لم تكن حصيلة التأمل الفكري بل كانت تعبيرا عن حقيقة عاشوها في القناة ٬ في سيناء وفي المحلة الكبرى) .

لم يظهر خدم السلطة من الصحفيين سوى سخفهم عندما استغربوا كون العمال ‒ الجنود الذين واجهوا الموت الأكيد في القناة وعلى ضفتيها وفي سيناء خلال حرب 1973 يعرضون اليوم باحتقار عن الشعارات القومية وتبلغ بهم “الخيانة” الى حد “تحقير نصرنا في حرب أكتوبر المجيدة” (موسى صبري ومن لف لفه من الحشرات المرتزقة بأقلامها) .

في مارس 75 احتل 27000 عامل نسيج بالمحلة الكبرى مصانعهم وشكلوا مجالسهم واعتقلوا أو طردوا منظمي عملية الاستغلال في المصانع . وفورا تحركت قوات الجيش الخاصة لمقاومة الاضطرابات معززة بالمدافع والدبابات ٬ وحاصرت العمال . وأسفرت المعركة غير المتساوية عن 50 عاملا قتيلا و 250 عامل جريح .

رغم ان استيقاظ الصراع الطبقي في مصر ما زال في بدايته ٬ فانه ولد ظاهرة رعب جماعي في صفوف الطبقة السائدة ٬ التي لم تعد ترى سوى اشباح التخريب (الموجهة من الخارج” في كل مكان . ومؤخرا هدد السادات ٬ في خطاب ذي نبرة فاشية البروليتاريا بحرب مجابهة يستخدم فيها الدبابات والطائرات . في الغياب الكلي لأي منظور قابل للتصديق قليلا أو كثيرا ٬ وبحضور بروليتاريا يقظة صممت على الدفاع عن مصالحها الطبقية ٬ تعترف البيروقراطية والبرجوازية المصريتان بأنهما تتأهبان لخوض الحرب الأهلية .

واذا ما انفجرت هذه الحرب الأهلية فلا ينبغي ان يقل برنامج البروليتاريا عن المطالبة بكل السلطة للبروليتاريا وحلفائها ٬ ولا ان يقل شعارها في المعركة عن مقارعة الحديد بالحديد والرد على النار بالنار .

رغم ان البرجوازية البيروقراطية الصهيونية ما زالت قادرة ٬ لكن قدرتها تزداد مع الايام نقصانا ٬ على توجيه كراهية الظلم الاجتماعي ٬ الراسخة الجذور في وعي الجماهير اليهودية الكادحة التي كابدت الظلم على مر الدهور ٬ ضد “الجار العربي الانتقامي” الذي لا بد من عقابه بحروب فتح تقدم للجماهير الاسرائيلية كذبا على انها حروب “دفاع” ٬ فان القوى الاجتماعية الحبلى “بالخطر الداخلي” متوفرة في اسرائيل .

في مناخ أزمة رأسمالية دائمة وفي نفس اتجاه الصراع الطبقي المحتدم في مصر ٬ لكن بكثافة وراديكالية وتحرر من ايديولوجيا الطبقة السائدة أقل بكثير مما حققته البروليتاريا المصرية استأنفت البروليتاريا الاسرائيلية ٬ خاصة عمال المرافئ البحرية ٬ نضالاتها الاجتماعية التي خاضتها فيما بين 1965 – 1976 عبر الاضرابات البرية وبقيادة “لجان النضال” البروليتاري .

منذ اضراب سبتمبر 1971 حيث تحدثت جولدا مئير وموشي ديان بنبرة فاشية عن “الخطر الداخلي” ظلت الاضرابات البرية الكبرى تندلع بين حين وآخر من ذلك اضراب عمال مرفأ أشكيلون في مايو 1975 الذي مرت به الصحافة العربية من المحيط الى الخليج صامتة . فقد رفض العمال المضربون باحتقار سلطة الهستدروت التي هي يد الرأسمال الخاص و”العام” الضاربة في المصنع . وهذا ما جعل الصحافة الصهيونية القلقة تندب بمرارة “حقيقة انهيار نظام علاقات العمل في اسرائيل” . اذا كانت الصحافة في مصر تصف العمال المعتصمين بالمصانع بأنهم “خونة” فالصحافة في اسرائيل تشجب العمال المضربين على انهم “مجرمون” .

وما ان يقوم “سلام” البرجوازيات العربية والاسرائيلية في الشرق الأوسط حتى يغدو ما هو اليوم غشيم أو موجود بالقوة مجربا وموجودا بالفعل . وعندئذ فان هؤلاء “الخونة” و”المجرمين” سيضعون ٬ بعد ان يتحرروا ٬ أكثر من الأوهام التي فرضها عليهم ظالموهم نهاية للسلم الاجتماعية المضطربة اليوم . ويومئذ سينتقل نضالهم من الدفاع الى الهجوم ومن المظهر الاقتصادي وحده ليشمل جميع مظاهر الحياة الاجتماعية ٬ ومن الانكفاء في الحدود القومية لينطلق الى المنطقة كلها لكي يغدو بالضرورة أمميا في النهاية لأن الثورة البروليتارية لا يمكنها ان تغدو ظافرة الا اذا عمت جميع الأقطار العربية واسرائيل . اذ مع تحطيم الرأسمالية الخاصة ورأسمالية الدولة وجهاز صيانتهما : الدولة ٬ على البروليتاريا وحلفائها ان احطموا بنفس الضربة جميع الحدود القومية القائمة ٬ ومعها جميع بقايا الحقد القومي الذي لم تفتأ البرجوازية ٬ التي لم تعد فيها من القومية ذرة تزرعه وترعاه .

في المرحلة الراهنة من الصراع الطبقي مهامنا نحن الذين نوجه الأساسي من نشاطنا الثوري الى الأقطار العربية واسرائيل هي :

  • ان نكشف المدلول الفعلي والوعي الجذري الكامنين في كل ممارسة ذات هدف ثوري مهما كانت محدودة في الزمان والمكان .
  • ان نشجع كل اخلال بالمؤسسات القائمة ٬ التي ليست في واقع أمرها الا العنف الطبقي المنظم ٬ ونساند كل مقاومة للخضوع والامتثال ٬ وكل تصد لسلطان القيادات القائمة التي امتلكت علينا في جميع العصور سلطة الأمر والنهي ولا نهي علينا ولا امر ٬ وانحصر نشاطها الأساسي في المراقبة والمعاقبة .
  • ان نوجه سلاح النقد لجميع المؤسسات الدينية والايديولوجية .

ففي هذا الشرق ٬ الذي جاء الى الرأسمالية الحديثة بدفع الحقبة لا بدفع تطوره الذاتي الذي تستبعده بناه المشلولة والمشلة ٬ ما زال نقد جميع الأساطير البالية في العالم الحديث ٬ والتي لم تزل تحتفظ في الشرق بتأثير فعال مثل الدين الذي يشل قوة الادراك لدى أوسع الجماهير ٬ هو الشرط الأول لكل نقد يهاجم رأس المال وتبريراته الدينية والدنيوية في وقت واحد وبضربة واحدة .

في مواجهة الطبقات ٬ التي تدافع في جميع البلدان وبجميع الوسائل عن : الملكية الخاصة والدولوية ٬ عن حب العمل المأجور ٬ عن النظام ٬ عن العائلة ٬ عن الاخلاق ٬ عن التقاليد ٬ عن الدين ٬ عن الوطنية ٬ عن التضحية ٬ عن الخدمة العسكرية ٬ عن المدرسة ٬ عن الأحزاب والنقابات الموظفة في خدمتها ٬ يركز الثوريون نيران نقدهم على جميع هذه المؤسسات وعلى لوحة قيمها الاخلاقية والاجتماعية التي يذود عنها اعداؤها ٬ على القمقم العائلي القمعي الذي يسحق برجعيته البطريقية شخصية وابداعية الأطفال ويحتفظ بالمرأة في قيود استعباده ٬ على المؤسسة المدرسية حيث تقريظ التجريد المغبئ والواقع القاتل ٬ هذه المدرسة التي تتسلم الأطفال بعد ترويضهم من العائلة للاجهاز عليهم بقتل كل قدرة على الاحساس الحر والتفكير الحر فيهم ٬ بغسل ادمغتهم من كل قدرة على الخيال والابداع ٬ باخضاعهم لكافة التفاهات الرائجة ٬ واحناء ظهورهم لمتطلبات مجتمع غبي ومستبد ٬ ورصدهم ليكونوا عمالا متخصصين ومنضبطين ٬ وعلى الجامعة التي تتسلم بدورها التلاميذ بعد غربلتهم بفحوص هي باستجواب المجرمين اشبه لاخضاعهم لتخريب الايديولوجيتين السلفية والعصرية اللتين تمشيان جنبا الى جنب وتتكاملان في الجامعة كما في المجتمع سواء بسواء لتصنع منهم في أحسن الحالات كوادر صغيرة في خدمة الدولة ورأس المال أو أساتذة عاجزين عن ادراك عصرهم باتساع وعمق ٬ اما في أسوأ الحالات فتصنع منهم خريجين عاطلين ٬ وعلى جوهر الثقافة السائدة والوسائل السمعية والبصرية التي تروجها بين الناس بقصد وحيد هو تضليل الوعي الطبقي الثوري بنشر صاخب لجميع المشاكل الزائفة ٬ لتمويه المشكل الحقيقي : مشكل تحرر البروليتاريا من رق رأس المال ودولته ٬ وبتقريظ الماضي الميت والدولة الدينية المميتة التي لم تزل قائمة ٬ على الجيش ٬ المؤسسة الأخيرة لترويض الشباب وخصيه ٬ والذي يوشك اليوم ان يغدو ‒ اما بعد “السلام” فسيغدو بالكامل ‒ قوة خاصة محدودة العدد ووافرة العدة مخصصة كليا لنزال البروليتاريا في الحروب الأهلية القادمة على الأحزاب والنقابات الدولوية أو شبه الدولوية التي تشكل القوة الرئيسية لتجميد حركة الطبقة العاملة ودورها كشبكات لنقل أوامر السلطة القائمة ٬ ينحصر في تحييد القوى الهدامة للمجتمع الرأسمالي ٬ تأبيد خنوع المظلومين لظالميهم ٬ وانتاج الوعي الزائف ورعايته وأخيرا كسر شوكة البروليناريا الثورية .

في حقبتنا الثورية ٬ جميع دول المنطقة اصلاحية بقدر أو بآخر . فرأس المال مضطر لكي يبقى ويمد سيطرته الى جميع مظاهر الحياة الاجتماعية ٬ الى تحديث بنيته التحتية ٬ واستخدام مهندسيه المعماريين لاعادة ترتيب المدن على نحو يلائمه في الحرب الأهلية واعادة ترتيب البلد كله بما يخدم الصناعات الملوثة التي تهاجر من الغرب الىينا وحشد سكان باتوا مخيفين في مساكن هي بأقفاض الأرنب أشبه ٬ ومضطر أخيرا للقيام ٬ حتى في أكثر بلدان المنطقة تأخرا باصلاحات اجتماعية كفيلة بجعل البروليتاريا ٬ التي فتحت عينيها على مصالحها الطبقية ٬ تميل الى الاعتدال .

وهكذا غدت كلمات “التحديث” ٬ “الاعتدال” و”الصبر” سائدة في أجهزة الدعاية الرسمية .

هذه الحقيقة المعاشة تردع الثوريين عن أي اسهام في نشاط ذي هدف اصلاحي أو عن أي تحالف مع الأحزاب الاصلاحية “الاشتراكية” و”الشيوعية” التي ليست في واقع أمرها الا يسار الرأسمال .

والافلاس التاريخي لجميع أحزاب اليسار في الأقطار العربية واسرائيل يفسره فيما يفسيره واقع انها كانت على امتداد ال25 عاما الأخيرة اصلاحية قولا امام سلطة اصلاحية فعلا . وها هو الأحزاب “الشيوعية” ٬ بعد فترة كاملة من اجترار الأفكار المحنطة وترديد البديهيات الزائفة ٬ ونشر المشاكل الزائفة ٬ وتعميم الوعي الزائف ٬ والترجمة المزورة للقليل من النصوص الماركسية التي امتدت اليها أيدي مترجميها ٬ تبدو اليوم على حقيقتها : لا أحزاب الطبقة العاملة بل أحزاب الطبقة الحاكمة التي تشاركها السلطة مشاركة بائسة في العراق وسوريا وقريبا في لبنان وتخدمها “كمعارضة شريفة وبناءة” في كل مكان .

“الشيوعية القديمة” التي خانت الماركسية اللينينية الحقة ٬ اما تلاشت واما عادت بعد هزيمة المقاومة في عمان 1970 ٬ الى أحزابها الاصلاحية “الخائنة” اياها . وفي جوقة راحت تنهق مع أحزابها ‒ الأم ٬ التي سريعا ما عادت وتعرفت على نفسها فيها ٬ “بضرورة الدخول في جبهات وطنية مع الأنظمة التقدمية المعادية للامبريالية لمواجهة الامبريالية وعملائها في اسرائيل وايران” .

اما وقد غدت جميع الأنظمة التقدمية اليوم تتعاون علانية مع الامبريالية الأميركية ٬ وتتصالح مع البرجوازية الايرانية وتتبرج لعناق حكام اسرائيل فقد سقط القناع . وتكشف أنصار الجبهات الوطنية “النقديون” والعميان سواء بسواء أنصارا ٬ لا تلين لهم قناة لاخضاع الطبقة العاملة للبيروقراطية الحاكمة والبرجوازية المالكة .

ليس للبروليتاريا وحلفائها أي برنامج حد أدنى مشترك مع أي فصل من فصائل الطبقات المالكة في السلطة كان أو في المعارضة .

وليست ذريعة “النضال المشترك في سبيل الديمقراطية” بأقل تهافتا وزورا من الذرائع السابقة التي شرشحتها الوقائع العنيدة . ذلك ان مرحلة الحكم القومي والقمعي قمعا أعمى للجميع على الطريقة الناصرية باتت أو كادت في ذمة التاريخ . فالبيروقراطية والبرجوازية العربية باتتا ترضيان بالتنازل تدريجيا عن بعض الحريات الليبرالية الكفيلة باجهاض كفاحية البروليتاريا وحلفائها المتصاعدة . وفي هذا المنظور لا نستبعد حتى التسامح مع تعددية سياسية ما وحرية ما للصحافة .

الموضوعة القائلة بأن الاصلاحية هي ملاذ الرأسمال الأخير للنجاة بنفسه ٬ بمحاولته تحويل أزمته الى مجرد تغيير “لطيف” تجد مصداقا لها في لبنان ٬ حيث سقط حتى الآن 25000 قتيل و80000 مشوه وجريح لكي تستطيع أخيرا دولة البرجوازية المالية الحديثة ان تقوم على انقاض البرجوازية العقارية القديمة . فجميع أحزاب اليسار وجميع فرقه وعلى رأسها الحزب الشيوعي المتحالفة في “جبهة الأحزاب الوطنية والقوى التقدمية” وجميع مسانديهم “النقديين” تلاعبوا بيأس الجماهير اليائسة ليرسلوها الى الموت على مذبح برنامجهم “التقدمي الاصلاحي” . أشاد مؤخرا جنبلاط زعيم هذه الجبهة بمبعوث الرأسمال الأميركي ٬ دين براون للعثور على حل للأزمة لأنه “تفهم برنامج الأحزاب الوطنية والتقدمية الاصلاحي وتفهم وجهة نظر الحركة الوطنية” (السفير 10/4/1976) وتضيف الصياد (15/4/76) ان جنبلاط ذكر في اجتماع الأحزاب الوطنية والتقدمية ان براون قال له بعد ان قرأ البرنامج “ان هذا ليس بالبرنامج اليساري بل هو أقل من برنامج الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة” ووعده خيرا بخصوص اقناع شمعون والجميل بتبنيه .

السر في الحقيقة ذائع . فالسيناتور السابق فولبرايت ٬ الذي يعرف بالتجربة بأن شر الرجعيين هو التقدمي الذي تسلم زمام السلطة ٬ يرى : “ان الولايات المتحدة مضطرة لقولبة نظام لبنان لكي لا يحدث خطرا على استراتيجيتها العسكرية والاقتصادية مرة كل عشر سنوات مثلا (…) ولهذا فالولايات المتحدة تشجع كل تغيير في لبنان مهما كان راديكاليا ولو على حساب الميزان الطائفي وصيغة التعايش . لأن بعض الأنظمة التقدمية في العالم العربي أظهر الكثير من المرونة في سلامة التعامل معها ٬ ونجح في تأمين مصالحها أكثر بكثير من النظام اللبناني الديمقراطي المهترئ” (الحوادث 24/4/76) .

وقبل أيام تعهد كيسنجر بوضع برنامج “جبهة الأحزاب الوطنية والقوى التقدمية” موضع التطبيق بعناية كونسورسيوم مالي سعودي ‒ أوروبي ‒ أميركي يعيد بناء لبنان المهدم . وهكذا يتمكن رأس المال الباحث بلهفة عن سوق من سوق تعيد اليه بعد الروح .

بعيدا عن جميع برامج الحد الأدنى والحد الأعلى الاصلاحية ٬ فان البرنامج الوحيد الجدير بالبروليتاريا العربية والاسرائيلية وحلفائها هو الاطاحة بالنظام الرأسمالي لكي يقيموا على أنقاضه مجتمعا ثوريا يكون التحرر الكامل لكل فرد فيه شرطا لأبد منه لتحرر الجميع .

ثوريون من الأقطار العربية واسرائيل