رفيقي في النضال .

أكتب لك لتكون على علم بما حدث لشعبنا الكردي من مآس وآلام ٬ وكيف انتهت ثورته الجماهيرية التي ضحى في سبيلها العشرات من الالوف من خيرة أبناء شعبنا في كردستان العراق على يد قيادتها التي خانتنا ونحن في أوج لحظات النضال وتركتنا لمصير يائس مجهول .

فمنذ مدة ‒ قبل سقوط الثورة ‒ كنت قلقا جدا على مصير نضالنا. اذ كنت أشعر ان حركتنا التحررية تمر بأخطر مرحلة من مراحل النضال وذلك لسببين :

الأول هو تحرك الديبلوماسية العالمية في المنطقة بنشاط ٬ والثاني هو لأني كنت أشم رائحة تخطيط الاتفاقية العراقية ‒ الايرانية التي تمت خلف الكواليس . خلال هذه الفترة ٬ وكذلك بعد الاتفاقية ٬ برزت فئتان من الجماهير : فئة غير مستعدة لمواصلة القتال بادرت بالالتحاق بالنساء والأطفال والشيوخ في ايران ٬ وفئة ثانية مستعدة للفداء بكل معنى الكلمة اداء للواجب المقدس . وقد امتازت هذه الفئة بمعنوياتها العالية جدا وكان هذا الموقف جليا في 16/3/1975 أي بعد الاتفاقية بعشرة أيام .

في منطقتنا (بنجوين) التي تعتبر ثاني منطقة في كردستان الحرة من حيث الأهمية الاستراتيجية حيث توجد هنا الكثير من مقراتنا الحزبية والعسكرية ٬ كنا في ذلك الحين نقوم بالاستعدادات لخوض الحرب طويلة الأمد . وفي يوم 20/3/1975 اجتمع كافة قادة البشمركة ‒ في منطقة بنجوين ‒ لمناقشة العمل في تغيير استراتيجية المعارك على ضوء الظروف الجديدة التي ولدتها الاتفاقية العراقية ‒ الايرانية . ونظرا لما كان في حوزتنا من العتاد والسلاح والمؤن التي تكفي لتأمين معيشتنا لمدة ثلاثة سنين أو أكثر ٬ واخذين بعين الاعتبار موقع القوات العراقية الضعيف حيث انها لم تقم بأي تقدم طوال فترة القتال في السنة الأخيرة ٬ نظرا لكل ذلك قرر الجميع مواصلة القتال مهما كانت الظروف .

الا ان هذا الموقف الصلب أصابه الشلل عندما وصل ممثل البارزاني والحزب الديمقراطي الكردستاني الى بنجوين في الساعة الحادية عشرة من مساء ذلك اليوم (20/3/1975) وبكل سهولة وبساطة قال ان الثورة قد انتهت وان على الأشخاص الوطنيين الذهاب الى ايران لأنه لا توجد ضمانات لهم في العراق بدون ان يبين الضمانات الموجودة “للأشخاص الوطنيين” في ايران وبدون ان يفسر تعريفه للأشخاص الوطنيين .

لا أحد من البشمركة استطاعت أعصابه تحمل وقع هذه الفاجعة التي كانت أقسى وأشد تأثيرا من الاتفاقية العراقية ‒ الايرانية حيث اننا لم ننم طوال تلك الليلة وكنا نبكي ونسير في الشوارع بأوجه شاحبة نفكر برفاقنا الذين سقطوا خلال معارك الشرف أو الذين سقطوا في سجون العدو وتحت التعذيب الوحشي … كنا نبكي ونفكر بكافة تضحيات شعبنا وتجاربنا الكثيرة في النضال وانتصاراتنا ثم الذخيرة والاستعدادات لخوض الحرب طويلة الأمد . وكنا نتشبث بالمسؤولين ببكاء لرفض رأي القيادة الاستسلامي هذا . وحاول بعض المسؤولين المخلصين انقاذ الموقف فبادروا بتعبئة البشمركة ورفضوا اطاعة أوامر القيادة وظهرت تحركات مشابهة في القسم الجنوبي ‒ شرقي من كردستان ومنطقة بهدينان الا ان القيادة الخائنة عارضتهم بشدة وبقوة السلاح ونقلوا بعض المسؤولين المخلصين بطائرات الهيليكوبتر الى ايران ‒ لا ادري ما هو مصيرهم الان . ‒ حتى ان الشيوعيين الماويين ‒ وكان عددهم لا بأس به ‒ حاولوا الكثير من المحاولات لانقاذ الموقف ومواصلة القتال الا انهم لم يفلحوا بسبب موقف القيادة المضاد تنفيذا لمخططات الشاه وأهوائه .

اما المسؤولون الكبار ‒ أو بالأحرى القادة العملاء ‒ فقد كانوا يتصرفون بشكل اعتيادي دون هم أو كرب وكأنهم ليسوا جزءا من الشعب الكردي . أذكر ان همهم الوحيد كان كيفية الوقوف في وجه غضب وحماس البشمركة المفجوعين وقفل أبواب الثورة امامهم لكي لا يؤدوا الواجب المقدس ٬ وذلك بانهاء الحركة وسحب القيادة العميلة المتمثلة بشخص البارزاني الى ايران مع كافة المؤن والذخائر والأسلحة وأجهزة اللاسلكي بما فيها الاذاعة وترك عشرات الألوف من البشمركة ومئات الألوف من الفلاحين والمواطنين في كردستان لمصير مجهول ناهيك عن التضحيات والأرواح والصراع المرير خلال المعارك الضاربة في سنين القتال ومن تأييد وعطف الرأي العام العالمي لقضيتنا . كل ذلك ذهب ادراج الرياح .

بعد ان استطاعت القيادة الخائنة غرس اليأس في قلوب البشمركة وذلك بسحقهم لكل تيار مضاد لهم قررنا نحن أكثرية البشمركة في منطقة بنجوين التسليم للعراق خير من الذهاب الى ايران تحت ظل نفس القيادة العشائرية العميلة فسلمنا أنفسنا في يوم 23/3/1975 بعد ان تركت سلاحي هنا في الجبال الحبيبة . آه ما أقسى تلك اللحظات ‒ الموت أفضل بكثير تصور انني أشعر بالجوع لمدة ثلاثة أيام لم آكل أي شيء لقد كانت وجوهنا كلنا كئيبة .

قسم من البشمركة سلم نفسه للحرس الايراني على الحدود الايراني وقسم آخر سلم نفسه للجيش العراقي وقسم ترك سلاحه فوق الجبال بعد ان فجر كل مخازن العتاد ولقد كانت أصوات التفجير تتعالى من بعد عشرات الكيلومترات .

اما الجيش العراقي فقد كان في أوج نشوة انتصاره وفرحه حينما كنا نسلم أنفسنا اليه على دفعات . الا ان مشاعرنا كانت ميتة لقد قتلتها القيادة العميلة وكنا نتوقع ارسالنا الى معسكرات الاعتقال في الجنوب ومن ثم اعدامنا غير ان ذلك لم يهمنا أبدا لأن الانسان الذي فقد وطنه وآماله في الحرية والحياة الكريمة ووصل الى تلك الدرجة من اليأس لا يشعر بأي أذى على الاطلاق حتى ولو قتل . ولما وصلنا الى المدن الكردية كنت أرى أوجه المواطنين الكئيبة الباكية بصمت .

هذه هي الصورة الجلية التي أثبتت لي ‒ بالتجربة ‒ ان تلك القيادة التي لم أكن اقتدى بها فحسب بل أعبدها ما هي الا حفنة خائنة عميلة لشاه ايران في سبيل مصالحها الخاصة ولتأمين حياتها الأرستقراطية .

اما البارزاني الذي أصبح أسطورة في أوساط شعبنا وقائدا تحرريا ذا وزن عالمي فان ذلك يعود الى النضال البطولي الذي خاضته البشمركة أنفسهم اضافة الى الدعاية الخرافية التي كانت تبثها الرجعية الكردية وعملاء ايران . وفي رسالتي القادمة سوف أكتب لك عن فساد القيادة وكيف استطاعت ايران التغلغل الى هذا العمق في الثورة .

أخوكم البشمركة (كردستان العراق) (تنجوين)