تمت في مصر خلال الشهور القليلة الماضية , في أعقاب تولي أنور السادات زمام الحكم في مصر , من خلال انقلاب هادئ , تحولات على الصعيدين السياسي والاقتصادي , تكشف عن الصراع الطبقي الذي يدور في مصر ذاتها وفي كافة أرجاء العالم العربي . كما انها تشير الى جسامة الخطر الذي يتربص بمستقبل الثورة الاشتراكية من قبل قوى الرجعية والبرجوازية العربية , وتبرز للعيان من جديد حقيقة فشل الأنظمة “التقدمية الوطنية” (مثل النظام الناصري) في انجاز المهام الديموقراطية والقومية ‒ كالتصنيع وتحقيق الوحدة العربية ‒ تلك المهام التي تواجه بلدانا مختلفة , كمصر وسوريا والجزائر وبقية بلدان العالم الثالث .

ويمكن ملاحظة بعض تلك التحولات , في مجال السياسة الخارجية , من خلال تحسين العلاقات بين مصر من جهة والولايات المتحدة وبريطانيا من جهة أخرى , اللتين كان النظام الناصري يعتبرهما , وبحق , قوتين استعماريتين ورجعيتين . ويلاحظ تحسّن العلاقات بين مصر والولايات المتحدة , نتيجة لتخفيف الحملات الدعائية ضد سياسة أمريكا تجاه النزاع العربي الاسرائيلي , وسياستها في العالم العربي وفي كافة أرجاء العالم . فلم تعد أمريكا ‒ أكبر دولة استعمارية في العالم ‒ تعتبر بعد “العدو الذي ساعد اسرائيل بالسلاح وبالحماية الجوية وبسفن التجسس , خلال حرب حزيران 1967” . بل غدت قوة عالمية كبرى تقع على عاتقها مسئولية أمن وسلام المنطقة والعالم , وأصبحت الدعوى المصرية الموجهة ضدها : انها لا تقوم بأداء الواجب الملقى على عاتقها , باعتبارها “شرطي العالم” , أي الضغط على اسرائيل للانسحاب من المناطق المحتلة . (لم يعد المطلب المصري الرئيسي اليوم انسحاب اسرائيل من كافة المناطق المحتلة , حالا ودون شرط أو قيد , بل “الانسحاب” كما ورد في البيان اليوغوسلافي ‒ المصري المشترك الذي صدر في أعقاب زيارة المارشال تيتو الأخيرة لمصر) .

وصرح محمود رياض لصحيفة الأهرام بتاريخ 15 نيسان 1971 , بعد عودته من جولة في بعض الدول : “بات الموقف في الشرق الأوسط ينذر بالتدهور بسبب تحدي اسرائيل لقرارات الأمم المتحدة , ومعارضة الولايات المتحدة فرض العقوبات الدولية على اسرائيل . لذا كان لا بد من الاتصال بعدد من الوسطاء القادرين على تذكير أمريكا بوجوب ان تفي بوعودها عن احلال السلام في الشرق الأوسط” .

انا من الطرف الأمريكي فقد صرح جوزيف سيسكو امام لجنة الخارجية التابعة لمجلس النواب الأمريكي في شهر ايار من هذا العام , حول زيارة ويليام روجرز وزير الخارجية الأمريكي لمصر : “فبرغم عدم وجود علاقات دبلوماسية رسمية , فان ذهاب الوزير الة القاهرة حيث استقبل بترحاب , مقياس للسياسة العملية والواقعية لكلا من حكومتينا” .

اما فيما يتعلق بالسادات , فان بريطانيا التي تملك مصالحا استعمارية واسعة في المنطقة (في منطقة الخليج العربي مثلا) قد انضمت الى صف الدول “الصديقة والشجاعة” , وذلك : “لأنها قبلت الاشتراك في قوة الأمم المتحدة الدولية , وهي تعلم ان اسرائيل قاومت هذا … اننا نرحب بهذا الموقف الشجاع الذي اتخذته حكومة المحافظين , ووضع سياسة مستقلة لبريطانيا (من خطاب السادات في 21/5/1971) .

كذلك حسنت مصر علاقاتها مع ايران التي يشكل النظام القائم فيها رأس جسر للمصالح الاستعمارية الأمريكية في منطقة الخليج العربي , ويملك مطامع توسعية خاصة به . كما حسنت مصر علاقاتها مع السعودية وعبرت عن دعمها “لاتحاد امارات الخليج العربي” .

وقد جاء التعبير عن التحول في مجرى العلاقات بين مصر وايران في قول وزير الخارجية المصري (الأهرام في 10/4/1971) : “ان اللقاء الذي تم بين ايران والجمهورية العربية , يفتح بابا واسعا للتعاون السياسي والاقتصادي والبترولي والثقافي …” .

كما ان موقف مصر من مطالبة ايران بثلاث جزر ذات أهمية استراتيجية تشرف على مضيق هُرمُز قرب ساحل عُمان , غاية في الميوعة , وذلك بسبب رغبة مصر في الحفاظ على علاقات سوية مع ايران , مقابل “ضغط” شاه ايران على الولايات المتحدة , من أجل الحصول على انسحاب اسرائيل من المناطق المحتلة . ومن البديهي ان يجيء تحسين العلاقات مع ايران على حساب “تدخل مصر في شؤون دول منطقة الخليج الداخلية” , ومقابل الكف عن دعم حركة التحرير الوطني هناك , التي تناضل ضد الأنظمة الملكية التي تتلقى المعونة العسكرية من السعودية وايران وبريطانيا .

“الديموقراطية الجديدة”

ليس من شك ان تحسن العلاقات بين نظام السادات من جهة وبين كل من الولايات المتحدة وايران وبريطانيا والسعودية من جهة أخرى , وتأييده لاتحاد امارات الخليج , ذلك الاتحاد الرجعي , يشكل تحولا ذا معنى , وفي سياق له دلالته بالنسبة لاتجاه النظام القائم في مصر اليومط وماهيته . بيد انه ينبغي ان لا ننسى ان هذا التحول قد بدأ قبل تسلم السادات زمام الحكم في مصر , وذلك حينما تنازلت مصر للسعودية عن “تمثيل الموقف العربي” في الخليج , وأيدت اتحاد الامارات الرجعي في عام 1968 . غير ان السادات جاء ليتم عملية مصالحة الرجعية في المجالين الاقتصادي والسياسي . وهو يقوم بذلك من خلال اتخاذ سلسلة من الخطوات واجراء التغييرات التي تمثل أول محاولة ناجحة تجريها البرجوازية المصرية منذ هزيمة حزيران 1967 , من أجل ارجاع هيمنة القطاع الخاص وتنحية البيروقراطية الناصرية , التي تتحكم وتعتمد في سلطتها على القطاع العام المؤمَم .

وقد احتفظت البرجوازية المصرية دائما في ظل النظام الناصري , كما هو معروف , على قسط غير قليل من ممتلكاتها , نتيجة للتعويضات التي حصلت عليها مقابل الأملاك المؤممة ‒ التعويضات التي استبدلت بأسهم في شركات ومصانع القطاعات المختلطة . كما كانت “الرأسمالية الوطنية” , على الدوام , شريكا وحليفا مقبولا من قبل النظام الناصري , الذي اطن عن نفسه بأنه مبني على التحالف بين العمال والفلاحين والجنود والمثقفين والرأسمالية الوطنية .

لكن السمة التجارية الكومبرادورية (الوسيطة) لهذه الرأسمالية , وكونها وسيطة بين السوق الرأسمالية العالمية والسوق المحلية (الاستهلاكية) , جعلتها تتصادم بشكل ما مع النظام الناصري في سنواته الأولى . بيد انها لم تتنازل , بالرغم من ذلك التصادم , لم تتنازل عن رغبتها في العودة الى الحكم المباشر , وخصوصا بعد قيام البيروقراطية الناصرية بتحقيق بضع مهام التصنيع .

كانت زيمة حزيران 1967 , ووفاة الرئيس عبد الناصر المفاجئة , بمثابة ضربتين قاصمتين هوتا على ظهر البيروقراطية الناصرية وعلى تطلعاتها (علي صبري وجماعته) , اذ انهما سهلتا على اختلال التوازن بين الجهاز البيروقراطي المهيمن على القطاع العام , وبين البرجوازية المصرية التي تهيمن على القطاع الخاص وترغب في استعادة هذا القطاع الى مكان الصدارة في البلاد .

والحقيقة ان الصراع بين البيروقراطية والبرجوازية المصريتين , يدور في حالة غياب تنظيم أو حزب ثوري قادر على تجنيد جماهير العمال وفقراء الفلاحين , ويكون , بالنسبة لها , بديلا ثوريا يحل محل كل من الطرفين المتصارعين . ويعود انعدام وجود تنظيم كهذا الى قيام النظام الناصري بقمع أي شكل من أشكال التنظيم السياسي والطبقي المستقل (كانت أولى خطوات النظام الأولى عام 1952 قمع اضراب عمال المصانع في الاسكندرية واعدام قادته) . كما ان الحزب الشيوعي لم يكن قادرا على مليء الفراغ الذي تكون اثر انعدام الطليعة الثورية المنظمة , وذلك بسبب سياسة الحزب الستالينية , ودعمه “للرأسمالية الوطنية” , وكانت نهاية الحزب الشيوعي المصري حل نفسه وانصهاره داخل النظام المصري .

“دولة العلم والايمان”

ان الانقلاب الهادئ الذي أجراه السادات , والذي ترتبت عليه بعض النتائج كتنحية جناح علي صبري واجراء “تنظيم” في الجهاز الحزبي والحكومي , يشكل الخطوة الأولى في سبيل تحقيق اماني البرجوازية . واذا كان قد خيل للبعض في بادئ الأمر ان السادات يقف فوق الخلافات بين الطرفين المتصارعين , فان هذا الوهم ما فتئ ان تبدد بعد فترة وجيزة , حينما شرع في التحدث عن “الحرية” و”الديموقراطية” و”دولة العلم والايمان” .

كانت خطوة السادات الأولى , اصدار مرسوم في نهاية كانون الأول عام 1970 , يقضي بتشكيل لجنة مهمتها اعادة النظر في كافة خطوات التأميم السابقة , وبتجميد مشاريع التأميم في المستقبل . ولم تكن هذه الخطوة التي قوبلت بالارتياح من قبل القطاع الخاص , هي الخطوة الأخيرة بل أعقبتها سلسلة من الخطوات والمراسيم في المجالين السياسي والاقتصادي . وقد صرح السادات في الخطاب الذي ألقاه في 20 أيار 1971 : “عايز يؤكد الدستور دور القطاع العام والقطاع التعاوني , وكل الضمانات للقطاع الخاص للمشاركة في اطار الخطة” .

وقد أصدرت الحكومة المصرية بعد يومين من الخطاب مرسوما ينص على اجراء تعديلات في نظام الاستيراد , وصفتها وكالة الأنباء المصرية بأنها تعديلات “تشمل حاجات مصانع القطاع الخاص والنقل , وكذلك حاجات الأفراد والمنشئات الخاصة وفروع الشركات الأجنبية العاملة في مصر” .

في نفس الوقت الذي يجري فيه الانفتاح المصري نحو الغرب والرجعية في العالم العربي والشرق الأوسط , صار نظام السادات يستدرج الرأسمال الأجنبي الغربي والعربي عن طريق الراديو والصحافة . فقد بدأت الصحافة المصرية تنشر المقالات الداعية الى تشجيع الاستثمارات الأجنبية , ومنْحَها حرية واسعة وضمانات من قِبَل الدولة . وقد وصفت الأهرام , مثلا , في عدد لها في أواخر أيار من هذا العام , تقريرا تم بحثه في لجنة الخطة , بأنه تقرير هام عن تشجيع الاستثمارات الأجنبية والعربية … ان السيد عبدالله مرزبان وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية قد شكل لجنة خاصة من وكلاء وزارتي الاقتصاد والتخطيط , تتولى اعداد الاطار النهائي للمشروع الذي سيحدد مجالات استخدام هذه الاستثمارات … وستوجه رؤوس الأموال الأجنبية لمشروعات البترول والادوية والسياحة” .

اما الدكتور محمد أبو شادي رئيس مجلس ادارة اتحاد البنوك العربية ‒ الفرنسية , فقد صرح : “لا أظن ان أحدا من رجالاتنا الاقتصاديين يعارض في ضرورة رأس المال الأجنبي لاجراء تنمية حقيقية .. فان الضروري بحث أشكال استعانة برؤوس الأموال الأجنبية ,, كما ان من الضروري ان نبحث وسائل جذب هذه الأموال , ذلك ام رأس المال الأجنبي ليس واقفا بالباب في انتظار اشارة منا بقبوله , وانما هو حساس جبان , ولكي نهيء له المناخ الملائم لجذبه والحفاظ عليه , يجب ان نوفر له :

‒ الطمأنينة من التأميم والمصادرة , ولن يتأتى هذا الا اذا حددنا فاصلا واضحا بين وظائف القطاع العام ومجال نشاطه ووظائف القطاع الخاص .

‒ سهولة الحركة دخولا وخروجا دون ضرورة لاجراءات ادارية أو ترخيصات” .

بدأ النشاط المصري في مجال اجتذاب أموال الاستثمار العربية , من خلال عقد الاتفاقيات مع أصحاب رؤوس أموال من الدول العربية , بهدف زيادة جذب الأموال , خاصة من دول النفط . وقد عقدت الاتفاقية الأولى مع الكويت , وكان هدفها تشجيع عودة الأموال الكويتية الى مصر . وقد تمت , في الحقيقة , ازالة العقبات عن طريق هذه الرساميل , وتم تمهيد الطريق في سبيل توظيفها .

وتعود الأهرام لتكتب في هذا المضمار : “اما الاتفاقيات الجديدة لضمان استثمارات رؤوس الأموال العربية التي وُقعت بالكويت منذ فترة , فسوف يُبحث امكان الاستفادة منها في مشروعات خطة التنمية ابتداء من العام القادم” .

من نافلة القول ان ثمة ارتباطا وثيقا بين كل من السياستين الخارجية والداخلية , كما ان أحد أهداف تحول السياسة المصرية تجاه الولايات المتحدة وبريطانيا وايران والسعودية , هو ازالة المخاوف التي ترتاد أوساط أصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين خارج مصر .

“حامي حمى الوحدة الوطنية”

في نفس الوقت الذي يمنح نظام السادات كل التسهيلات للبرجوازية والقطاع الخاص , تجري عملية موازية وهامة من وجهة نظر النظام , هدفها قمع أية انتفاضة محتملة من قبل العمال وفقراء الفلاحين . صحيح ان النظام لا يتوقع ثورة عامة بين العمال والفلاحين في المستقبل القريب , لكنه يدرك احتمال حدوث غليان خطير بين تلك الفئات من الشعب في القرية والمدينة .

كانت احدى ثمار “الديموقراطية الجديدة” التي أطن عنها السادات , رفع الحراسة عن بعض ممتلكات الاقطاعيين والرأسماليين , اللذين سرعان ما تحركوا لاستغلال خطوة الحكومة , من خلال العودة الى التصدي للفلاحين .

وكان مثلا على ذلك ما حدث في قرية (كمشيش) التي اشتهرت بسبب الصراعات التي جرت فيها بين أصحاب الأراضي المؤممة , وبين الفلاحين المنتفعين من الاصلاح الزراعي وتوزيع الأراضي عليهم . فقد اغتال الاقطاعيون من آل الفقي عام 1966 , أحد قادة الفلاحين وعضو الحزب الحاكم في مصر المدعو صلاح الدين , بسبب تصديه لمحاولات تسلط الاقطاعيين . وقد شكل الرئيس عبد الناصر في أعقاب حادث الاغتيال “لجنة تصفية الاقطاع” برئاسة المشير عامر .

بعد مضى أربعة أعوام على ذلك الحادث , عاد الاقطاعيون للتحرش بالفلاحين , وجرت اشتباكات مجددة بين الطرفين , اذ رفض الفلاحون تسليم الأراضي للاقطاعيين .

وسارعت السلطة , في أعقاب الاشتباكات , الى توجيه قوات ضخمة من أفراد الشرطة والجيش الى القرية , وعمدت الى اعتقال الكثيرين من “المشاغبين” جميعهم من الفلاحين , كما اعتقلت عددا من عملاء الاقطاعيين , من أجل التغطية على موقفها المنحاز الى صف الاقطاعيين . غير انها لم تقم باعتقال أحد من الاقطاعيين أنفسهم , بل سارعت الى اطلاق سراح عملاء الاقطاعيين , وأبقت الفلاحين قيد السجن .

ويذكر في سياق هذا الموضوع اسم وزير الداخلية المصري ممدوح سالم , الذي يتولى كذلك مسئولية المحافظة على “النظام” والشرطة . واحدى المهام الملقاة على عاتقه : كبح جماح وقمع انتفاضات الفلاحين , مثل تلك التي حدثت في كمشيش . وقد عمل سالم ضابطا في البوليس السياسي في عهد الملكي قبل الثورة , ويعتبر من مؤيدي زكريا محي الدين (الذي يشتهر بميوله اليمينية والموالية للغرب , والذي يمثل وجه القمع البارز في النظام الناصري) .

ويعتبر تسليم وزارة الداخلية لشخص كهذا , تجسيدا لحاجة النظام الماسة لشخصية كم هذا القبيل , ليس في قرية كمشيش فحسب , بل في مناطق أخرى , كمدينة (أبو كبير) أو كمنطقة (حلوان) الصناعية الكبيرة .

قامت مجموعة من الشبان في أبي كبير بالاعتصام داخل مبنى فرع الاتحاد الاشتراكي العربي هناك , وذلك تعبيرا عن نقمتهم على المدعو محمد عمي بشير , أحد اذناب نظام السادات , بسبب قيامه بالضغط على أعضاء قائمة المرشحين لانتخابات الاتحاد الاشتراكي الأخيرة , وحملهم  على الانسحاب من القائمة لكي يفوز هو بالتزكية . وقد استدعى البوليس الذي طوق المبنى , وحاول اخراج المعتصمين .

وسرعا ما تجمع جمهور غفير من السكان اللذين حاولوا اقناع ضابط الشرطة ان من حق الشبان المعتصمين دخول المبنى والخروج منه متى شاؤوا . فحاولت الشرطة في أعقاب ذلك , تفريق الجمهور بالقوة , وحينما فشلت , أمر ضابط الشرطة باطلاق النار . وكانت النتيجة , أربعة قتلى من السكان .

وخرجت في أعقاب الجريمة التي اقترفتها الشرطة جماهير السكان الى الشوارع , وهجمت على رجال الشرطة اللذين ولوا هاربين , وقامت باشعال النار في مبنى فرع الاتحاد الاشتراكي ومبان حكومية أخرى . كما اضطر وزير الداخلية الذي سارع الى أبي كبير “لتهدئة الموقف” , الى الهبوط بطائرة هليوكوبتر في ساحة المدينة , نتيجة لغلق الطرقات المؤدية اليها من قبل الجماهير الغاضبة .

تسبب حادث أبي كبير , الذي جرى في أيار من هذا العام , في استدعاء السادات لمندوبي اتحاد العمال العام لتنبيههم الى “الخطر الذي سينجم عن مثل هذه الحوادث وعلى ضرورة تأجيل الصراع الطبقي” . كما زعم أنور السادات ان “هذه الحوادث تضر بقدرة صمود مصر امام الصهيونية والاستعمار , وينبغي منعها الى ما بعد النصر !” (يلاحظ القارئ في اسرائيل مدى تشابه هذه الحجة بحجج مماثلة تطلق في اسرائيل , من قبل أنصار النظام القائم , ضد ظواهر التمرد والسخط في جبهة الصراع الطبقي !) .

ان للسادات أسبابا قوية لدعوة الى الحد من الصراع الطبقي , ولمحاولة اقناع العمال وفقراء الفلاحين بالمحافظة على “الوحدة الوطنية” . اذ ان أي تحرك أو محاولة للتنظيم المستقل يقوم به العمال وفقراء الفلاحين يهدد بالضرورة مصالح ومواقع كل من البيروقراطية الحاكمة والبرجوازية التي تشق طريقها جاهدة نحو السلطة المباشرة والمكشوفة .

وقد جاءت أحداث حلوان , التي جرت في أواخر آب من هذا العام , حيث أضرب الاف العمال العاملون في مصانع الحديد والصلب , واعتصوا داخل المصانع , برهانا قاطعا على ذلك .

قامت قواعد العمال في حلوان , باصدار بيان عرضت فيه مطالب العمال الاجتماعية , مثل العناية الطبية ووضع نظام للترقية وغيرهما من المطالب . وقد أعلن عن الاضراب من قبل العمال بمعزل عن اللجنة النقابية في كل مصنع , وعن الاتحاد العام للعمال الرسمي , الذي يمثل في الواقع , النظام امام العمال , والذي لم يدري بأمر الاضراب والاعتصام داخل المصانع الا بعد وقوعهما . وحينما حاول رئيس الاتحاد العام (الذي يقوم بنفس الدور يلعبه بن آهرون سكرتير الهستدروت في اسرائيل) , التدخل في النزاع , وعرض نفسه “للتوسط” بين العمال والسلطة , قام العمال بحجزه داخل أحد المصانع واتهموه قائلين : “انت بتاع السلطة” !

بادر العمال المضربون بتنظيم أنفسهم داخل المصانع , وانتخبوا لجانا لقيادة الاضراب والاعتصام , ووزعوا فيما بينهم المهام المختلفة في كل مصنع ومصنع .

قدر عدد العمال المضربين في بداية الاضراب ب 30 الف عامل , غير ان عدد العمال المضربين أخذ بالازدياد شيئا فشيئا .

حاولت السلطة اقناع العمال بانهاء اضرابهم , لكنها فشلت في ذلك , اذ انهم أعلنوا بانهم لن يعودوا الى العمل الا بعد ان تحقق السلطة مطلبهم . وحينما فشلت محاولات الاقناع أصدر السادات أوامر لقمع الاضراب وتحطيمه بالقوة , واعتقال قادته . وبالفعل قامت قوات الشرطة باقتحام المصانع واعتقال 3000 من العمال .

وما ان وصل الخبر الى عمال حي شبرا الخيمة في القاهرة حتى خرجوا بمظاهرة ضخمة . وتصدت قوات كبيرة من رجال الشرطة والجيش للمتظاهرين محاولة تفريق المظاهرة , واستعملت أعقاب البنادق , تنفيذا لأوامر النظام .

لقد قام عمال حلوان وشبرا الخيمة من خلال اضرابهم وانتفاضتهم , بتخطي دائرة الحصار التي حددها النظام لهم , فقد رفضوا الانصياع والرضوخ لأوامر الاتحاد العام للعمال الرسمي , عميل السلطة , الأمر الذي ادى الى مبادرة الاتحاد الى اصدار بيان يوضح موقف هذا الاتحاد تجاه حركة الاضراب والاعتصام , معلنا ان “الاتحاد العام اذ يعلن رفضه واستنكاره لأسلوب الاعتصام كوسيلة للضغط , ليؤكد حق العمال في التعبير عن مطالبهم بالطرق المشروعة والمنظمة , وان تكون التشكيلات النقابية على بينة من هذه المطالب حتى تسهم والاتحاد العام للعمال في حلها عن طريق التشاور والتفاوض مع جهات الادارة” !

ثورة ‒ لا حلول مرحلية !

ليس ثم شك في ان السادات , الذي يمثل مصالح البرجوازية المصرية , مثله مثل علي صبري الذي يمثل مصالح البيروقراطية الناصرية , يتشاركان خوفهما من أي تنظيم عمالي مستقل , اذ ان تنظيما كهذا يشكل خطرا على مواقع الطرفين .

ان التحولات التي تجري اليوم في مصر وفي كافة العالم العربي , لهي تعبير عن تزايد قوة اليمين والرجعية العربية , وعن زحف الاستعمار نحو احتلال مواقعه من جديد .

ويأتي هذا التطور في سياق تراجع خطير لليسار الثوري المجزء , وغياب الحزب الثوري . بيد ان وقوف الأنظمة البرجوازية ‒ الصغيرة بجانب البرجوازية المحلية والاستعمار , تساعد على تبديد الأوهام الرائجة بين جماهير كبيرة , تجاه تلك الأنظمة ذاتها .

ان الاضرابات الدامية والانتفاضات العمالية في مصر , لهي علامة ودليل على تحرك فئات آخذة في الازدياد .

لقد انتهى عهد “الناصرية” كعامل يحافظ على التوازن , ويحد من الصراع الطبقي .

ان السادات يقف بشكل مفضوح بجانب البرجوازية المحلية والاستعمار . اما جماهير العمال والفلاحين الفقراء , فليس لها من خيار سوى الوقوف في وجهه , وبناء الأطر السياسية القادرة على الاطاحة بسلطة الاستعمار وحلفائه المحليين ‒ متن دون حلول وسط , أو وسطاء برجوازيين صغار , أو أوهام حول ثورة على مراحل !

ان تنظيم جماهير العمال هو الوسيلة الوحيدة للنضال ضد النظام الرأسمالي بأجمعه .