اصدار “متسبين” ‒ آذار 1978

وضعت هذه الوثيقة في ربيع 1969 في الوقت الذي بدأت فيه الدول الأربع الكبرى جس النبض بينها لايجاد صيغة لتسوية سياسية تفرضها على الشرق الأوسط . اذن كتبت هذه الوثيقة قبل نشر مشروع روجرز بسنة وقبل “ايلول الأسود” بسنة ونصف . ورغم ذلك لم يفسد عامل الزمن واقعية هذه الوثيقة .

ونشرت لأول مرة كمقال في مجلة اليسار الانجليزي “بلاك دوورف” (Black Dwarf) في حزيران 1969 ٬ وفي آب من نفس السنة ظهر في مجلة “متسبين” (باللغة العبرية) وبعد ذلك بمدة قصيرة تم قبول المقال كموقف سياسي للمنظمة .

ونشر المقال أصلا بتوقيع عضوي “متسبين” أ. سعيد و م. ماحوفر . “أ. سعيد” هو الاسم المستعار للرفيق المرحوم جبرا نقولا المتوفي سنة 1974 . ولد في 1912 وهو من قدماء الحركة الثورية في فلسطين . كان جبرا تروتسكيا في آراءه وصاحب وجهات نظر أصلية في قضايا الشرق الأوسط وقد ساهم الكثير في تصميم موقف منظمتنا “متسبين” في هذه القضايا .

*

يقترب الشرق الأوسط من مفترق طرق . فالدول الأربع الكبرى تتشاور بينها للاتفاق على “حل” لفرضه على سكان المنطقة املا في اعادة الاستقرار الذي تقوض على اثر حرب حزيران 1967 ونتائجها . وينطوي هذا المفترق على اخطار عظيمة بالنسبة لمستقبل الثورة في الشرق الأوسط وهذا المقال يرمي الى تحليل هذه الأخطار .

لقد كان الفلسطينيون من العوامل الهامة التي ظهرت على المسرح السياسي بعد حرب حزيران 1967 . فعلى اثرها خطا العمل الفلسطيني المستقل خطوة ملموسة الى الأمام بيد ان هذا العمل كان قد بدأ قبل الحرب ببضع سنين . العنصر الايجابي في هذه الظاهرة هو ان الفلسطينيين في ظهورهم حولوا الكفاح من أيدي الحكومات الى أيدي الجماهير . فخلال عشرين سنة خلت مان الفلسطينيون موضوعا للتأريخ : عاملا سلبيا خاملا ينتظر الخلاص من الدول العربية عامة أو الدول العربية ذوات “الأنظمة التقدمية” ٬ خاصة مصر تحت زعامة عبد الناصر .

لقد كشفت حرب 1948 افلاس القيادة القديمة للحركة القومية العربية ‒ تلك القيادة التي كانت في قبضة الطبقات البرجوازية وأصحاب الأراضي . ونتيجة لهذا الافلاس الواضح صعدت المسرح قيادة جديدة برجوازية صغيرة طبقيا ٬ وأفلحت في القضاء على النظام القديم في عدد من الأقطار العربية وسجلت مكاسب كبيرة في النضال ضد الامبريالية .

لكن حرب يونيو كشفت محدودية هذه القيادة الناجمة عن ماهيتها الطبقية وايديولوجيتها القومية ٬ وتكشف عجز هذه القيادة المطلق في حل المسألة الفلسطينية . ورغم دعم الاتحاد السوفيتي فان الناصريين والبعثيين وصلوا الى وضع من الافلاس السياسي .

من هذه الخلفية نستطيع ان نفهم نشوء النضال الفلسطيني الجماهيري . وكما أسلفنا كان ظهور هذا العامل ايجابيا . ولكن من الممكن تشخيص نزهات سلبية وخطيرة داخل الحركة الفلسطينية . فقد راجت لدى بعض فصائل الحركة مقولة ان الجماهير الفلسطينية ملزمة وقادرة على حل المشكلة الفلسطينية وحدها فحسب ٬ وبانفصال عن النضال الثوري في العالم العربي . أصحاب هذه الرأي يطرحون المشكلة الفلسطينية كفلسطينية صرفة ٬ قابلة للحل ضمن اطار فلسطيني لا غير . لكن العصا لم تستقم بل اعوجت باتجاه مضاد : فبدل الخمول وترتب الخلاص على أيدي الغير حل الآن توجه محلي مختصر . وكل العون المطلوب من جميع العالم العربي يقتصر على الجبهة الفلسطينية ذاتها . وهذا التوجه يعمى ان يرى العروة بين الكفاح الفلسطيني والكفاح الثوري في العالم العربي قاطبة ومن هنا جاء شعار “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية” .

الحكومات العربية تشجع هذا التوجه لأن تعبئة الجماهير في العالم العربي حتى في سبيل نصرة القضية الفلسطينية فقط ٬ تعرض هذه الأنظمة للخطر . لذلك فانها معنية بعزل النضال الفلسطيني وعزل الفلسطينيين . وحرصا منها على حماية أنظمتها ٬ تهدي الحكومات العربية ٬ الرجعية منها والتقدمية ٬ نفسها بهبات تزجيها للمنظمات الفلسطينية . علاوة على ذلك تسعى هذه الحكومات الى تحريق النضال الفلسطيني الى مسلك سياسي غير عسير عليها ٬ والى استخدام هذه النضال كورقة لعب ٬ كوسيلة للرقابة لكي تحقق حلا سياسيا على قدرها . مصر وسوريا والأردن معنيات باستعادة ما فقدته من أراضي في حرب 1967 “استعادة لهيبتها وتعزيزا لماكنتها داخليا ” . واما القضية الفلسطينية فهي مسألة ثانوية في أعين هذه الحكومات . هي وسيلة لا غاية ٬ ذلك قصد الحكومات العربية من وراء كلامها عن “تصفية اثار العدوان” .

ومن الواضح انه اذا نجحت الدول العربية في التوصل الى مبتغاها (مثلا عن طريق الدول الأربع الكبرى) فانها ستكون على استعداد لترك الفلسطينيين يواجهون مصيرهم ٬ وحتى الاشتراك بصورة عملية في القضاء سياسيا وبشريا على الحركة الفلسطينية . ومن المعتقد ان تطالب الدول الكبرى بذلك كشرط لكل حل سياسي .

وعمليا فان نتائج حرب حزيران قد أوجدت الظروف الموضوعية لتغيير القيادة القائمة بقيادة جديدة ذات صبغة طبقية جديدة ٬ مثلما أوجدت نتائج حرب 1948 خلفية سهلة لسقوط القيادة القومية القديمة في العالم العربي ٬ وصعود قيادة جديدة ٬ قيادة طبقة جديدة (البرجوازية الصغيرة) . وبعد ان أثبتت الطبقات المالكة عجزها عن حل المشاكل الاجتماعية والسياسية والقومية للعالم العربي اتضح نظريا وواقعيا ان الجماهير المستغلة نفسها وبقيادة الطبقة العاملة هي وحدها القادرة على حل هذه المشاكل التأريخية . ولكن شتان ما بين وجود ظروف موضوعية مناسبة وبين تحقيق القيادة الجديدة . من أجل ذلك وجد العامل الذاتي : منظمة سياسية ذات نظرية نقدية واستراتيجية ثورية عربية شاملة .

لكن هنالك عوامل لها وزنها في أوساط الحركة الفلسطينية بالذات ترفض بشكل قاطع ضرورة العمل السياسي واستراتيجية ثورية عربية شاملة .

وهذه العوامل تنحصر عن وعي وتعمد في الساحة الفلسطينية فقط ٬ وتقتصر على نضال مسلح يفتقر الى برنامج سياسي .

ان حساب ميزان القوى وكذلك الحساب النظري يبرهنان على عدم امكانية حل القضية الفلسطينية ضمن اطار فلسطيني على انفراد . ما هو ميزات القوى ؟ الشعب الفلسطيني يقف في معركة مواجهة الصهيونية المدعومة بواسطة الامبريالية ٬ وعلى الصعيد الداخلي يواجه هذا الشعب أنظمة الحكم العربية المدعومة أيضا بواسطة الامبريالية .

ويصح الافتراض انه طالما بقيت هنالك مصالح للاستعمار في الشرق الأوسط فانه سيستمر في دعمه للصهيونية (التي تؤدي دور الحليف الطبيعي) ولن يدعها منهار . سوف يدافع عنها الاستعمار حتى آخر قطرة من النفط العربي . ومن ناحية أخرى فانه لا يمكن القضاء على نفوذ الاستعمار ومصالحه في المنطقة اذا لم يتم اسقاط أنظمة تلك الطبقات التي تؤدي في العالم العربي وظيفة الوكيل والشريك للاستغلال الامبريالي . والنتيجة لا تعني انه يجب على الشعب الفلسطيني الانتظار بهدوء ريثما يتم القضاء على النفوذ الامبريالي في المنطقة ٬ وانما يجب ان يكون لنضاله دور التعبئة للنضال من أجل التحرير القومي والاجتماعي في الشرق الأوسط بكامله .

اما اذا استحال دحر الصهيونية دون القضاء على السيطرة الامبريالية في المنطقة بأسرها فان النظريات التي تطرح حل المسألة ضمن اطار الأرض الفلسطينية ليست الا سخافة من ناحية نظرية . فاذا كان المقصود وجود وضع لم تندحر فيه الامبريالية بعد في منطقة الشرق الأوسط كلها ٬ فانه ليس بالمستطاع الغاء الصهيونية في اسرائيل واقامة فلسطين بدون صهيونية . واما ان كان القصد وجود وضع قد ينشأ بعد تصفية الامبريالية فأين حكمة النظرية المقتصرة على فلسطين لا غير دون الأخذ بالحسبان التغييرات الحتمية التي ستجري في المنطقة كلها ؟

الحقيقة ان النظرية المقتصرة على المسألة الفلسطينية وحدها ليست من بنات الفكر الثوري رغم ما تتستر به من خرق ثورية ٬ بل هي وليدة فكر اصلاحي يلتمس حلولا جزئية ضمن اطار الظروف السائدة في المنطقة . وما نيل مثل هذه الحلول بمستطاع الا بالتهادن مع الامبريالية والصهيونية .

علاوة على ذلك فانه ليس بمقدور الحلول الفلسطينية المحدودة مباراة المسألة القومية . ونظريات “فلسطين مستقلة وديمقراطية يتمتع سائر مواطنوها بحقوق متساوية دون فرق في الدين” يعتورها عيبان : هذه النظريات توجد بشكل اصطناعي أمة منفردة جديدة “فلسطينية” والفوارق بين أفرادها ليست قومية وانما دينية فقط ومن جهة أخرى تتجاهل هذه النظريات الصبغة القومية للسكان اليهود الاسرائيليين وتضفى عليهم خاصة طائفة دينية فحسب ٬ وأصحاب هذه النظريات يلمسون بأنفسهم سخافة في فصل الفلسطينيين عن الأمة العربية كافة ولذا فانهم يستدركون فورا ان “فلسطين جزء من الوطن العربي” . والانطباع الحاصل هو ان الشعار ليس سوى الشعار القديم “فلسطين عربية” ولكن في زي جديد أشد غموضا .

هذا التوجه يدل على عدم فهم المسألة القومية عامة والواقع الاسرائيلي خاصة . حقيقة هي ان معظم اليهود المقيمين في اسرائيل تجمعوا هناك تحت نفوذ الصهيونية ومبادئها . وهم كجمهور اضطهدوا وما زالوا يضطهدون الفلسطينيين بيد انه لا يمكن تجاهل تلك الحقيقة الجلية وهي كون هذا الجمهور يشكل وحدة قومية (تختلف عن يهود العالم من جهة وعن عرب فلسطين من جهة أخرى) ذات لغة وحياة اقتصادية وثقافية خاصة بها .

حل القضية الفلسطينية يحتم تحرير هذا الجمهور (أو على الأقل جزء كبير منه) من تأثير الصهيونية وتحويله الى النضال المشترك مع القوى الثورية في العالم العربي من أجل التحرر القومي والاجتماعي للمنطقة كلها . لكنه لا يمكن نيل ذلك خلال تجاهل الهوية القومية لهذا الجمهور .

لا يمكن حل هذه المسألة ضمن الاطار المقتصر على فلسطين . اذا كان المقصود دولة ديمقراطية هكذا “صوت واحد لفرد واحد” ٬ فعمليا تكون دولة كهذه ذات أكثرية يهودية ولن يردعها شيء ان تكون كدولة اسرائيل الحالية ٬ والفرق يكون في سعة رقعتها وتواجد أقلية عربية أكبر . وان كان المقصود دولة ثنائية القومية فانها ستكون وجود اصطناعي يتم فيه عزل الفلسطينيين عن العالم العربي وعن العمليات الثورية داخله .

كما انه لا يوجد ضمان لعدم سيطرة شعب على آخر ضمن بنية ثنائية القومية . طبعا هذا بالنسبة لحلول في اطار الظروف الراهنة في المنطقة دون ثورة اجتماعية .

اما اذا كان المقصود وضع ما بعد ثورة اجتماعية منتصرة ٬ ما بعد تصفية الاستعمار والصهيونية ٬ بان المسألة الفلسطينية لن تبقى قائمة بشكل منفصل ٬ بل ستكون هنالك مشاكل القوميات المختلفة الموجودة في العالم العربي (الأكراد ٬ يهود اسرائيل وجنوب السودان) . حل هذه المشاكل ممكن عن طريق منح حق تقرير المصير لهذه القوميات ٬ طبعا الاعتراف بحق تقرير المصير لا يعني تشجيع الانفصال . العكس . الاعتراف يشكل القاعدة الصحيحة للانسجام دونما اضطهاد أو ارغام . بالاضافة الى ذلك فان حق تقرير المصير غير ممكن في المنطقة طالما انها تحت سيطرة الاستعمار المباشر أو غير المباشر ٬ فقط بعد تحرير المنطقة من كل نفوذ امبريالي ٬ بعد انتصار ثورة اشتراكية ٬ وبشكل خاص فان هذا الوضع يفرض مسبقا سقوط الصهيونية .

وايجازا : الظروف الموضوعية الراهنة مؤاتية وملزمة لنشوء حركة ثورية اشتراكية جماهيرية بقيادة الطبقة العاملة ٬ المسترشدة بحزب ماركسي ثوري يعمل وفقا لاستراتيجية عربية شاملة ٬ تعترف بالحقوق القومية للقوميات التي تعيش في العالم العربي وقادرة على استقطاب جماهير هذه القوميات الى نضال مشترك من أجل التحرير القومي والاجتماعي في المنطقة كلها .